زراد باسم الخشن .. رحلة فانتازيَّة إلى مملكة الملاعين
الفانتازيا لونٌ أدبيّ قديم، منذ أن صاغ الإنسان القديم الأساطير والملاحم ليرويها حول حلقاتِ النَّار في اللّيالي الباردة أو يحكيها الشُّعراء وهم يعزفون على آلاتهم الوتريَّة الموسيقيَّة، حكاياتٌ صاغها الإنسان من أجل فهم الكون والطَّبيعة وأسرارهما، أساطير الآلهة والأبطال الشُّجعان والمخلوقاتِ السّحريّة. وفي الزَّمن الحاضر استطاع الكُتَّابُ المعاصرون صياغة عوالمهم الميثولوجيَّة بدورهم، بدءًا بلورد دونساني في كتابه آلهة بيجانا، مرورًا بلافكرافت في عالم الأحلام وروبرت إي. هوارد في عالَمِ هيبربوريا إلى تولكين وعالَمِ الأرض الوسطى الأشهرِ بين قُرَّاء الفانتازيا والمُولعين بها. لقد خَطَت الفانتازيا في الغرب خطواتٍ واسعًة، صانعًة أبطالًا وعوالمَ أيقونيّة صار بعضها جزءًا من الثَّقافة الشَّعبيّة في العالَمِ بأكمله. أمّا في عالمنا العربيّ ما زالت الفانتازيا العربيَّة تخطو خطواتها الأولى، وبدأنا نرى محاولاتٍ من الكُتَّاب لخلقِ عوالِمهم الخاصَّة، ومن هؤلاء الكُتَّاب الذّين بزغَ نجمُهم حديثًا في السّاحة العربيَّة الكاتبُ المصريّ باسم الخشن.
خلق العوالم ومملكة زراد
رواية “زراد: مملكة الملاعين” هي الرّواية الثّانية للكاتب باسم الخشن بعد رواية “ظل بابليون” التَّي تنتمي إلى أدب الفانتازيا بدورها، ولكنَّها فانتازيا حضريّة تدور أحداثها في مصر في الزّمن الحاضر مع جوٍّ من الجماعاتِ السريّة والميثولوجيا القديمة. أما رواية “زراد: مملكة الملاعين” فهي فانتازيا ملحميَّة، تدور أحداثها في عالمٍ خياليّ من اختلاق الكاتب بممالِكِه ومُدنه وآلهته ودياناته وأقماره. وفكرةُ ابتكار عالمٍ خياليّ ووضع ميثولوجيا جديدة خاصَّة به ليست جديدة في أدب الفانتازيا، فأدبُ الفانتازيا الغربيّ مفعمٌ بمثل هذه العوالم الخياليَّة الغريبة والجديدة، ولعلّ أوّل كاتبٍ غربيّ يبتكِرُ عالمه الميثولوجيّ الخاصّ هو الكاتب الآيرلندي لورد دونساني في كتاب “آلهة بيجانا” الذَّي وضع حجر الأساس لخلقِ العوالم الخياليَّة وأساطير الخلق الأدبيَّة؛ ففي هذا الكتاب ابتكرَ دونساني مَجمَع آلهةٍ بالكامل من خياله، بأساطير الخلق وجغرافيا العالِمِ وحكاياته الأسطوريَّة. عُدَّ الكِتاب عند نشره قطعًة غريبًة مُتفرّدًة، وقال عنها جون كاربن النّاقد في جريدة نيويورك تايمز إنّها: “محاولةٌ لخلق أوليمب خاصّ به، بقاطنيه وآلهته، وكلُّ واحدٍ له سماته الشَّخصيّة وقوّة ما يهيمن بها على حياة البشر بشكلٍ مُقنعٍ وخيالٍ مُتقنٍ“.
تأثَّر العديدُ من الكُّتاب بلورد دونساني، مثل كاتب الرُّعب الأمريكيّ الشّهير لافكرافت الذّي ابتكَر عالمًا من الآلهةِ والكياناتِ القديمة أشهُرها كثولو، وتلك الكيانات ترغبُ في العودة مرةً أخرى لتسود الأرض من خلال الطَّوائف الدِّينيّة المخبولةِ التّي تعبدُ تلك الكيانات القديمة. والعالَمُ الفانتازيّ الذّي ابتكَره لافكرافت عالمٌ مخيفٌ مُظلمٌ، وغالبًا ما يُصاب أبطالُ قصصِهِ بالجنون بسبب رؤيتهم لما لا يجب أن يروه.
تأثّر بلورد دونساني أيضًا الكاتب البريطانيّ جي. آر. آر. تولكين، وهو الاسم الأشهر عند الحديث عن خلقِ العوالمِ في الفانتازيا، بسببِ شُهرةِ عالَمه “الأرض الوسطى” والرّوايات التّي تقع في هذا العالم والأفلام المُستوحاة منها مثل “الهوبيت” و”سيد الخواتم”. فقد استطاع تولكين أن يبني ميثولوجيا كاملةً تتدرَّجُ من الحكاياتِ الكونيّة وقصص الخلق حتّى تصل إلى القصص الصّغيرة وحكايات الجنيّات، في عالَمٍ ضخمٍ وشاسعٍ لا يضمُّ الأرضَ الوسطى وحدها بل هناك الأرض المُظلِمة في الشَّرق، وآمانِ أرض الڨالار في الغرب، وجزيرة نومينور وغيرها من الأراضي والجُزر والقارَّات. استطاع تولكين خلقَ عالَمٍ كاملٍ بكلّ تفاصيلِهِ وأجناسه وثقافاتِهِ ودياناته بشكلٍ مُقنعٍ، فتشعر أنَّه تاريخ عالم حقيقيّ وليسَ مُجرّد حكاية خياليّة يرويها راوٍ.
لم تتوقّف محاولات الكُتّابِ عن خلق عوالِمهم الخاصّة، وفي الزّمن الحاضر ظهرت العديد من العوالم الفانتازيّة في جميع أنحاء العالم في الرّوايات والأفلام وألعاب الفيديو، ورواية “زراد” هي إضافةٌ جديدةٌ وناضجة إلى هذه العوالِمِ، وخطوة جديدة تستحقُّ الاحتفاء في الفانتازيا العربيّة. عالم زراد خياليّ مفعمٌ بالتّفاصيل، ولكنّه مظلمٌ ومقبض، فبداية الرّواية تُخبرِك عن الوباء الذّي يجتاح مملكة زراد، وهو ليس الوباء الأوّل من نوعه، أوّل وجه تراه هو طبيب الوباء يطلُّ بقناع الغراب الذّي يرتديه. هو عالَمٌ كئيب لن ترغب في العيش فيه، ولكنَّه سيثير اهتمامك وسترغب في معرفةِ المزيد عنه بمجرّد أن تقرأ السُّطور الأولى.
تساعد مقدّمة الرّواية على إضفاء هذا الجوّ من القتامة والاكتئاب على عالَمِ الرّواية، حيث يقول الكاتب: “يكتملُ قمرا القرن ليغمر ضوؤهما الأحمر سماء (زَرَاد) ويحيل ضبابها قرمزيًّا، وفي ثنايا الضَّباب يتخبّط الملاعين السُّكارى في طقس عهدت رؤيته كلَّما اكتمل القَمرَان. إنَّه حدثٌ جللٌ، لا يحدث إلّا مرّة كلّ عامٍ، وجده الملاعين مناسبةً طيّبة ليثملوا ويتصارعوا في الطُّرقات، وكلّ المناسبات هي مناسبةٌ رائعة للملاعين ليثملوا ويتصارعوا في الطّرقات. فقط الميناء الشّماليّ تلوَّن بالأخضر القاتم، وابتعد عنه كلٌّ من الضّباب والملاعين، وأنوار القَمرَين أيضًا. لم يثمل أحدهم كفايةً ليتجاهل الأعلام الخضراءَ الخاصّة بالعزل الصّحيّ. تتعالى الأمواج في الميناء، بفعل مدّ القمرين، ومعها النَّسائم الكبريتيّة النّتنة.”
بهذه الكلمات يؤسّس الكاتب لعالمه، فيخبرك عن هذه المملكة الغريبة التّي تُدعى زراد، يضيءُ سماءها قمران لا قمرٌ واحد، وسكّان هذه المملكة الذّين يطلق عليهم اسم الملاعين، ويخبرك عن الوباء الذّي يهدّد المملكة، وطبيبُ الوباء بقناع الغُراب الذَّي يشبه قناعَ أطبّاء الطّاعون في القرون الوسطى، وكهنة النَّار، والملك السّجين، وغيرها من الأشياء التّي ستجعلك تلتهمُ صفحات الكتابِ لمعرفة المزيد عن هذا العالَمِ الغريبِ الشّيق.
الممالِك والمخلوقات الأسطوريَّة
زراد ليست هي المملكة الوحيدة في عالم الرّواية، فهنالك مملكة ثيام التَّي هرب إليها النّبلاء من زراد، وهناك الرّحى التّي يَحكُمها المُرتزقة، وهناك الممالك القديمة والطّهباء وثول وجزيرة أبراج الصّمت وغيرها من الأماكن التّي ينقلنا الكاتب إليها عبر صفحات روايته. وهنالك العديدُ من الأديان في هذا العالَمِ، فهنالك كهنةُ النَّار الذّين يعبدون النّار واستبدلوا عملة زراد القديمة بكريستالات اللّهب، وهم حرَّاسُ الملك السَّجين حاكم زراد. وهنالك رهبانُ القمر، الذَّين يعبدون القمرَ بالطّبع، ولديهم هوس بالمذؤوبين والذّئب الأوّل الذّي يعدُّونه نبي القمر. هنالك أيضًا هؤلاء الذَّين يعبدون شياطين الصَّمت، أو ملائكة الصَّمت من وجهة نظرهم، ولكلِّ طائفةٍ معتقداتها وطقوسها الأُخرى، بل يلمح أحد الأشخاص من الممالك القديمة إلى أنَّ الأقمار كانت اثني وستين قمرًا لا قمرين فقط، ولكلّ قمرٍ إله، قبل أن يبتلعَ الصَّمت ستين قمرًا منها، ومن هنا ولدت عبادة الصَّمت في الممالك القديمة.
لا يخلو عالم زراد أيضًا من المخلوقات الأسطوريَّة التّي ابتكرها الكاتب، بعضُها مستوحًى من التُّراث العربيّ والعالميّ مثل الغيلان والمذؤوبين والحبارم التَّي تشبه السّيرين في الأساطير الاغريقيّة، نصفها إنسان ونصفها سمكة، تغوي البحّارة بجمالها وصوتها الذّي لا يقاوم وتجذبهم إلى الأعماق. وهنالك مخلوقاتٌ أسطوريَّة أُخرى من بنات أفكار الكاتب بالكامل مثل الأغوش أم الغيلان وسُمها القاتل، والسّقريات التّي تشبه الذّئاب بحراشف ولسان مشقوق كالسّحالي، والنّبلاء الحديديون الذّين يشبهون البشر بدروعهم الحديديّة التّي تعدُّ جزءًا من تكوينهم ويتغذّون على الذّهب ومهمّتهم حماية النّبلاء بأيّ ثمن. والجميل أنّ الرواية بها العديد من الرّسومات التّي توضّح شكل هذه المخلوقاتِ الخياليّة للقارئ، وقد أبدع الرّسام محمود رأفت في تصويرها.
أبطال غير معتادين
لم يكتفِ الكاتب ببطلٍ واحد ٍنرى العالم والحبكة من منظوره، بل أوجد العديدَ من الأبطال والشَّخصيّات في الرّواية الذّين نرى العالم من منظورهم. أوّل الأبطال الذّين نتعرّف عليهم في الرّواية هو سيفاد آنشتون طبيب الوباء، الذّي تحمل عائلته على عاتقِها مهمّة مواجهة الوباء كلّما ظهر في زراد، يصفه الكاتب عند ظهوره قائلًا: “وحيدًا وعلى رصيف الميناء يتقدم ظلٌّ أسود يثير الهلع؛ فبرأسه منقار طويلٌ كمنقار الغراب وبيده عكّاز مدبّب تتلاعب به الظِّلال لتظنَّ أنّه امتدادٌ ليده، ولا تساعد خطواته عالية الصّوت ـ التّي تشي بنعلٍ معدنيّ لا يرتديه العامّة ـ على تغيير هالة عدم الرّاحة المحيطة به“. هو ليس بطلًا تقليديًا ولا تستطيع من اللّحظات الأوُلى معرفةً إن كان يجب عليك أن تخشاه أم تتعاطف معه، ويتغيَّر طبيب الوباء مع تغير أحداث الرّواية بشكلٍ مثير للاهتمام، حتّى يصل للشّك في كل ما يعتقده في هذا العالم المعقّد المُتشابك.
هنالك أيضًا كاهنةُ النّار ميرا وإحدى حرّاس الملك السّجين، ولكن لا يغريك كونها كاهنًة فهي مقاتلةٌ بارعةٌ، وباستطاعتها مواجهة الغيلان بسيفها، بل والوقوف في وجه أحد النّبلاء الحديدّين. وخاشيد الذّي يظهر كسكّيرٍ لا يعبأ بشيءٍ سوى كوب آخر من الدُّخْن يغيب به عقله، قبل أن تظهر حقيقتُهُ المُستترة وراءَ هذا القناع الثَّمل. والملك السّجين ذاته، ذلك الرّجل الأسمرُ الذّي يعدُّ الأخيرَ من جنسه والذّي يحكم زراد من زنزانته في سجن كهنة النّار. والفيدا هينادا النّبيلة التّي تخطّط لعودة النبلاء من ثيام إلى زراد، وساليك المتمرّد الغامض، وعاند الطّفل الغريب خادم طبيب الوباء، والآركون كبير كهنة النار، وغنتاق السعدبي حاكم الرّحى وملك المرتزقة، والعديد من الشّخصيات الأُخرى التّي تزخر بها الرّواية بشكلٍ مثير للإعجاب، ويشي بمخيّلةٍ خصبةٍ للكاتب الذّي لم يهتمّ فقط بتفاصيل الشّخصيات الرّئيسة، بل وحتى الشّخصيات الفرعيّة، فقد أعجبني الكاتب حينما اهتمّ بذكر بعض التّفاصيل عن الجنود الذّين سقطوا في إحدى المعارك، أحلامهم وطموحاتهم؛ قد يبدو هذا غير هامًّا من وجهة نظر البعض؛ أنْ تتكلّم عن شخص قبل موته في معركة، ولكنّه من وجهة نظري أضفى بُعدًا إنسانيًّا على الرّواية؛ كثيرًا ما ننسى ونحن نشاهد هذه المعارك في الرّوايات الفانتازيّة بل وحتّى التّاريخيّة أنّ هؤلاء الجنود هم أشخاصٌ لهم أحلامٌ وطموحاتٌ وعائلاتٌ وأصدقاء، وليسوا مجرّد أرقام أو بيادقَ تتساقط على رقعة الشُّطرنج.
رواية زراد هي رحلة شيّقة في عالمٍ خياليّ مقبض، وإضافة قَيِّمة إلى الفانتازيا العربيّة. ممالك وأديان وأبطال وأشرار ومخلوقات غريبة ومخيفة، ستتركك في النّهاية راغبًا في المزيد. نهاية الرّواية تشي بجزء ثانٍ من زراد، ولعلّها سلسلة من أجزاءٍ عدّة. أنتظر لأرى ما يوجد في جعبة الكاتب، ويبدو أن في جعبته الكثير، ومتحمّس لزيارة هذا العالم السّحريّ الغريب مرةً أُخرى، ومعرفة المزيد عنه.