الأدب: صورة الإنسان في زمن الحرب
بريخت نموذجاً...
“إن لم تعد قادرًا على النضال ستهلك، سواء كان الخطأ خطؤك أم لا”
هذا ما يقوله بريخت لمن خانته شجاعته، ولم يعد قادراً على الاستمرار في ظل سيطرة الموت، وفقدان الأمل نتيجة للاستنزاف البشري والإنساني أثناء الحرب العالمية الثانية.
في الحروب؛ نجد أنفسنا أمام معضلة تقودنا إلى عبثية مدمرة، ما لم نستطع النهوض والاستمرار: الموت المستمر، فقدان الشعور بالهوية، خوف من الانتماء، اللامبالاة والسخرية من الأحداث الكبرى، فوضى العلاقات، فقدان الشعور بالألم… وغيرها من المكنونات التي تجعلنا نفقد القدرة على الاستمرار.
تلك اللحظات القاسية تدفع الإنسان للبحث عن مخرج حقيقي، يعيد إليه الحياة ويبث الروح في جسده المتعب، ويساعده على المضي قدماً بالرغم من كل شيء. هنا تتبلور حقيقة أهمية الفن بشكل عام، والأدب بشكل خاص بوصفه طريقة يستطيع فيها كل منا تجاوز الصعاب التي نعانيها خلال الحروب.
لقد نشط الأدب خلال الحروب بوصفه حلاً لشعور الناس بالإحباط، وتشير أغلب الأدبيات التي كتبت خلال قرون مضت، أن الحروب كانت محفزاً حقيقياً للكتاب والمؤلفين كي يسلطوا الضوء على الأحداث التي مرت بها الإنسانية كتوثيق اتخذ أشكالاً متعددة منها تسجيل الأحداث في الأدب الواقعي أو السخرية منها في الأدب الهزلي وغيره.
ويعد بريخت أديبًا استطاع أن يبني نسقًا خاصًا به، اعتمد فيه على نفسٍ فلسفي عمل من خلاله على تجاوز عقبات الحياة التي عانى منها بالدرجة الأولى، بدءاً من غربته التي عاشها في المنفى بعد أن سيطرت القوات النازية على ألمانيا، وصولاً إلى رفضه للسياسة المتبعة في بعض الدول التي عاش فيها خلال فترة نفيه.
ورغم أن بريخت يعد مسرحياً بامتياز، إلا أن كتاباته النثرية لا تقل أهمية عن ما نظمه في المسرح. فالروح التي كتب فيها حوارات المنفيين مثلاً تؤسس لفلسفة خاصة في تلقي الأزمات، وتقبل الواقع المحاط بالموت اليومي.
يستخدم بريخت في نثريته هذه أسلوباً ساخراً من جانب، ولكنه واضح وصريح في بعض المقتطفات، ويناقش ضمنها مجموعة من الأفكار عن طريق حوارات يضعها متسلسلة ومبوبة بين شخصين يلتقيان مصادفة في مطعم محطة القطار في هلسنكي، الأول عالم فيزياء بدين يسمى تسيفل والثاني نحيل هزيل وله يدا عامل اسمه كالا.
نقاش الهوية
يبدأ بريخت في حواراته بنقاش الهوية، فهي أهم ما يملكه أي منا، الهوية الإنسانية والهوية الصنعية، فبعد أن عانت أوروبا كلها من نيران الحرب العالمية الثانية، باتت هوية كل إنسان مهددة، وبات هناك صراع بين الهوية الإنسانية والهوية الصنعية (جواز السفر) وانتصرت الهوية الصنعية في هذا الصراع، وبات جواز السفر هو أثمن شيء في الإنسان.
هنا يتحول الإنسان فقط إلى حامل للجواز، وتصبح الجوازات التي صنعها الإنسان لتنظيم الحياة أهم من صانعها ذاته، وتصبح الإنسانية قابلة للبيع والشراء، وتستخدم الرشوة كي يتم تطبيق النظام، فلكي يحصل الشخص على دوره في أي مؤسسة، أو لكي يحصل على حقه، عليه أن يدفع رشوة.
نقاش المادية
صراع الطبقات الغنية والفقيرة، ذلك الصراع الأزلي الذي لا ينتهي، ولكن أثره يشتد أو يقلّ بحسب ما تمر به الدول من ظروف، فالغني يزداد قوة وسطوة والفقير يزداد جوعاً، والأسوأ من ذلك أن الغني يبدأ بتصريحات غريبة من نوعها؛ ينصح من خلالها الفقير كي يقتصد أو يبتعد عن الملذات المكلفة، متناسياً أن هذا الفقير لا يملك قوت يومه كي يفكر بالملذات، فها هو تسفيل يقول:
“لمن المحزن أن البعض لم يرَ الأهرامات، ولكنه من المفجع جداً أن لا يكون هذا البعض قد شاهد قطعة لحم ستيك مقلية بشكل جيد ومغطاة بالفطر”.
في هذا السياق ينتقد بريخت اليساريين أيضاً لكونهم اهتموا بالجانب النظري لأفكارهم، فتحولت لمجرد أفكار مثالية غير مطبقة، ويتابع بسخريته من أفكار النازية التي لعبت بعقول الشباب تحت حجة أنهم جاؤوا لإنقاذ الناس.
تدمير بنية التعليم
تبدأ المسألة في الصراعات من التعليم، لأن التعليم يرتبط بمن يتحكم بالبنية الفكرية للمجتمع، ففي حالة ألمانيا خلال الحكم النازي؛ تَمثّل دور المعلم في تلقين التلاميذ المعلومات التي تخدم الفكر النازي، فكل معلم يهدف إلى تعزيز الشر في داخل التلاميذ، فيتحولون إلى عيون على بعض، وتغدو العلاقات الإنسانية في جو المدرسة مبنية على الكراهية والخوف.
ضمن واقع الحروب، تهتز المفاهيم وتطال منظومة التعليم بالدرجة الأولى، وتغدو الأفكار والمعايير متغيرة متبدلة تبعاً للظرف والحدث. ففي الحروب يغدو التعليم مجرد واجهة، ويفقد خصوصيته في نقل الثقافة والفكر.
الانحلال الأخلاقي
في الحروب يخسر الأديب والمفكر فرصتهما بعيش كريم، فالناس لا تدفع لقاء الثقافة في هذه الحالة، ويغدو من الصعب على الشاعر مثلاً أن يسد رمقه بأي شيء.
تتغير المعايير الأخلاقية، وتغدو الفضائل ضرباً من الخيال، تنتشر الدعارة المقنّعة وربما تغدو العاهرة أكثر وقاراً من أولئك المتصنعين والممثلين البارعين، منتهزي الفرص، أولئك صنيعة الحروب.
تدهور أحوال الناس
كان استيلاء هتلر على الحكم في ألمانيا بمثابة موت محتم، فقد تغيرت صورة الحياة تماماً، وهذا الذي ادّعى أنه جاء ليخلص الأمة، وليبني عصراً جديداً، تسبب بدلاً من ذلك بانهيار الأمة وضياع فرص الناس.
هتلر حوّل ألمانيا لسلعة يتاجر فيها متى يشاء ويقرر هو وحده الحسن والرديء، فهو من جعل من قتل الناس دون مبرر خدمة مجانية وضرورة للنجاح والتطور، ففي الحروب تغدو الحقيقة واهية، وتستحق الحياة السخرية التي قام بها بريخت.
بيضة كولومبوس السحرية
يحكى أن كولومبوس قد اجتمع مع عدد من النبلاء الذي قاموا بالتخفيف من أهمية اكتشافه، فطلب منهم إحضار بيضة متحدياً إياهم بأن يقوم أحدهم بجعل البيضة تقف على أحد أطرافها، وعندما فشلوا قام بكسر البيضة كسراً خفيفاً من أحد الأطراف وثبتها على الطاولة، هنا قال للنبلاء إن هذه الفكرة باتت متاحة بعد أن جعلتكم ترونها.
لقد استخدم هتلر قصة بيضة كولومبوس في كتابه كفاحي ليؤكد للناس بأنه ليس من المهم ما يتم اكتشافه، بل المهم هو من قام بهذا الاكتشاف، وأراد بذلك أن يشير إلى نفسه بوصفه شخصاً عظيماً، وهذا ما يفعله المسيطرون في زمن الحرب، يصبحون أبطالاً.
التلاعب الأيديولوجي
خلال الحروب يتم التلاعب الأيديولوجي والفكري بعقول الأطفال والشباب، فقد كان هتلر يجبر الناس أن ينتسبوا هم وأطفالهم ضمن تنظيمه، يقومون بتدريب الأطفال على منهج محدد يجعلهم مطواعين، ينفذون ما يؤمرون به حتى لو كان التجسس على أهلهم.
هنا لا يتوانى بريخت عن ذكر المجازر التي قام بها الأمريكان ضد الهنود الحمر، مشيراً بشكل ساخر إلى نوع الحرية التي يعتقد فيها المواطن الأمريكي أنه يحققها، فهم يعملون لساعات طويلة وفي نهاية يومهم يحاولون تأكيد حريتهم من خلال ممارسة ما يرغبون به.
يختم بريخت كلامه هنا بقوله:
إن من يتحدث عن الحرية لا بد أن يكون حذاؤه ضيقاً، ويضغط على قدميه. إذ أني نادراً ما اسمع أحداً من الذين يلبسون أحذية مريحة، يتحدث عن كم هو مريح حذاءه ولا يضغط على قدميه، أو يولد له مسامير مؤذية.
حياة المنفى
يتنقل الناس من مكان لآخر، فقد حولت الحرب الوطن إلى كتلة مشتعلة، ولم يعد من الممكن البقاء. تعرض بريخت للنفي ووجد نفسه تائهاً من بلد لآخر، يقوم بأعمال صعبة ومذلة.
في سياق ما يحدث معه ينتقد بريخت هيغل بقوله إن:
“اتساق الدولة يعتاش على اللاانسجام واللااتساق القائم بين الطبقات، تماماً… مثلما يتشاجر اثنان ويهدد أحدهما الآخر بالسكين، بعدها يجلسان سوية ويتناولان العشاء سوية، وكأن شيئاً لم يكن”.
يجد بريخت أن تلك الكذبة التي تسمى الديالكتيك، ليست إلا تبريراً أحمقًا لكل حدث يحصل مع الإنسان تحت طائل أن التناقض من أساس الحياة، وأن الحالة الجدلية هي التي تولد الاستمرار.
كل ما سبق هو عبارة عن نتائج الحروب، وليس الحرب العالمية الثانية فقط، إنها صورة الإنسان في تلك اللحظات الصعبة، والتي حاول بريخت أن يسلط الضوء عليها ليس بهدف فقدان الأمل، وإنما بهدف تخطيها.
كلمة الختام
تأتي على لسان كالا، مفارقة غريبة ينهي بها بريخت كتابه بأن يجعل كالا العامل يقدم كلمة الختام بدلاً من المثقف الجامعي تسفيل الذي يرفض في النهاية كل الفضائل التي آمن بها معتبراً أن حالة الرفاه التي وصل إليها الإنسان هي التي حولته ليكون وحشاً أنانياً يحاول السيطرة على غيره.
في المقابل يحاول كالا على بساطة تعليمه وقلة ثقافته أن يجد حلاً للاستمرار، العمل هو الحل.
عندما نقرأ نثرية بريخت الهامة، تستوقفنا محطات المنفى التي عانى منها خلال الحرب العالمية الثانية، خجله من وصم الألمان بالعنصرية نتيجة لما قام به هتلر في ذلك الزمن، خوفه على مستقبل الإنسان وعلى الإنسانية، إيمانيه بوظيفية الفكر في توثيق الحدث، وفي استنهاض القدرة في داخل كل إنسان للاستمرار، فأول سبل الحل هو في تحديد المشكلة والحديث عنها بشجاعة، فمهما كانت بشاعة المنفى وقساوته، إلا أن ثمة بريق يعيدنا إلى تلك اللحظات التي كنا فيها كما نرغب، إلى تحقيق ملذاتنا البسيطة منها والكبرى، إلى عيشنا في واقع مستقر يحقق إنسانيتنا.