الرواية والتمرد
لا تنفصل العمليةُ الإبداعيَّةُ عن نَزْعَة التمرد ويضيفُ الإبداع بأشكاله المتنوعة أبعادًا جديدة إلى الحياة بحيثُ لا يكون المرءُ مُقيَّدًا بما يعيشهُ ويشاهده إنما يتمكنُ من تحويل ما اختبره إلى مادةٍ في تشكيلٍ ما يوازي التجربةَ الحياتيةَ وهذا يعني أنَّ الإبداعَ محاولةٌ للامتداد خارج محدوديَّة الزمن، وإيجاد المعني في المسافة الفاصلة بين مجهولين، فإذا كان الموتُ استحالةً لإمكانيَّةٍ أخرى على حدِّ قولِ هايدغر فإنَّ الإبداع يوفرُ فرصةً لمضاعفة الإدراك والافتراض ضمن إمكانية الحياة ولو ظلت الحياة محدودة بعوامل بيولوجية فإنَّ ما يتحركُ في اللاوعي لا يمكنُ التعبير عنه أو نقله سوى من خلال الفنون الإبداعية، هنا يعطي شوبنهاور الأفضلية للموسيقى التي تتفوقُ على اللغة من حيث القدرة على الانطلاق بالمخيلة نحو مدىً أوسَع.
هذا عن علاقة الإبداع بالتمرد عمومًا، ولكن كيف يتمظهرُ فعلُ التمرد في الفنِّ الروائيِّ بالتحديد؟ طبعًا تتمُ مساءلة الواقع واستشراف المستقبل من خلال هذا الفن أكثر من ذلك حيث إن ما تتيحهُ الرواية من مجال المناورة في توظيف الأساطير والتاريخ والرموز يكونُ أداةً لمناوشة المُتَّفَق عليه اجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا فالبتالي يتأسسُ وعيٌ مفارِقٌ لما هو سائد كما يَنزَعُ النصُّ الروائيُّ إلى تفكيكِ الظواهرِ المهينة ويتبدَّى هذا الملمح في الروايات التي تعتمدُ على بنيةٍ سِجَاليَّةٍ إذ يكون القاريء أمام نقاشٍ بشأنِ محدِّدات الوعي الجمعي وتقانة السيطرة على المخيال بوصفهِ حالةَ رغبةٍ جامحةٍ لا تعرف موضوعها، إنها تريد كلَّ شيء في الحال وبشكلٍ مباشَرٍ لا يقبل التأجيل كما يقول “سعيد بنكراد” من هنا نفهمُ لماذا تُعَدُّ الروايةُ مثيرةً للريبة أكثر من أي جنس أدبي آخر إذ تتراخي في فضائها ما يسميه سعد محمد رحيم بأَنْطِقَةِ المُحرَّم.
وعلى هذه الحال فقد أصبحت الرواية منصةً للتيارات الفلسفية وإرهاصًا بنشوء المشاريع الفكرية، الأمر الذي قد تراه بالوضوح في المذاهب العبثية. بوادرُ تسبقُ ظهور أي مذهب فلسفي جديد، عدةُ مؤشراتٍ تنبيءُ بتحولات على مستوى الواقع والفكر، وهذا الموقفُ ينسحبُ على ما يشهدهُ الأدب أيضًا من التطور على صعيد التعامل مع معطيات حياتية فمن المعلوم أنَّ التيار الوجودي كان احتجاجًا على ضمور القيم الإنسانية والشعور بالإحباط من الالتفاف على مبدأ الحرية إذ يربطُ سارتر بين المسؤولية ومفهوم الحرية ولولا ذلك الترابط بين الحالتين لاستحالَ تحمُّل الكائنِ البشريِّ لمسؤوليةِ أفعالِه. فهذا هو أساس المذهب الوجودي كما يمثلهُ سارتر، فالإنسان بالنسبة لصاحب رواية “أبواب مقفلة” لا شيء سوى العمل.
وما يفرق بين التشاؤم لدى شخصيات سارتر الروائية والشخصيات المتحركة في روايات أمين زولا على سبيل المثال أنَّ الأخير يفسر أسباب الخمول والضعف وفقًا للعوامل البيولوجية. وهذا ما يرتاحُ إليه القاريءُ بينما لايكونُ الخمولُ والتشاؤم لدى سارتر سوى اختيارٍ فرديٍّ وهو يقول في “الوجودية منزع إنساني”: إن مذهبه يسببُ الذعر لعدد من الناس لأن هؤلاء الأشخاص ليس لديهم إلا طريقة واحدة لتحمل بؤسهم وهي أنّ الظروف كانت ضدهم وما أنصفت جَدَارَتهم. وإذا تحولنا إلى متابعة الشخصية الرئيسة في رواية “الغثيان” وهي باكورة الأعمال الروائية لسارتر لا يشقُّ عليك أن تفهم ما يرمي إليه المؤلف من التعبير عن موقف فلسفي من خلال أقوال وتصرفات “روكنتان” إذن تستشفُ من محتويات الرواية بوادرَ مشروع سارتر الفلسفيَّ هذا ناهيك تحرك ظلال بعض الاتجاهات الفلسفية السائدة آنذاك على سلوكيات “روكنتان” الذي يتكفل بسرد الرواية وتسجيل انطباعاته حول وقائع أيامه ومما يَرِدُ على لسان البطل الضد يفصحُ عن همومٍ وجوديَّةٍ فهو يقولُ:
” كم أودُّ لو أتبصَّرُ في ذاتي بوضوحٍ قبل أن يفوت الأوان”
فتلمسُ شكًّا ديكارتيًّا إضافةً إلى رنين آراء هايدغر بشأنِ نسيان الكينونة والوجود. ومن ثمَّ يتم التأكيد على دور العمل في تشكيل هوية الذات يخاطبُ العصاميُّ صديقَه لافتًا نظره إلى ما تَحْمِلُه الأفعال من الأهمية “إن في أتفه أفعالك قدرًا هائلًا من البطولة” أكثر من ذلك فإنَّ المسؤولية الأصعب تكمنُ في أن يكون المرءُ إنسانًا بنظر سارتر طبعًا يوافقهُ غريمه كامو في هذا الرأي ولا تغيبُ فكرة الانتحار بوصفها خيارًا قائمًا لدى شخصيات سارتر غير أن ما يمسكُ العصامي من المضي نحو الانتحار هو التفكير بأنَّ لا أحد يتأثر بموته بل يكونُ في موته أشد وحدةً مما كان عليه بالحياة. إذن فأن الارتماء إلى العمل هو ما يعطي للحياة قيمةً برأي سارتر
أما عن علاقة الإنسان بما يقعُ عليه نظرهُ من الأشياء فلا وجودَ لشيء خارج المظاهر والجديرُ بالذكر هنا أنَّ جان بول سارتر يشيرُ إلى صراع الإنسان مع الزمن في سياق روايته ويوحي ما يقوله بهذا الشأن أنَّ الزمن لايمتليءُ وكل ما يغمسُ فيه يميعُ ويتمطى حسب تعبير روكنتان. ضد الزيف تنزلُ رواية “الحارس في حقل الشوفان” للكاتب الأمريكي ج.د.سالنجر ضمن الأعمال الأدبية التي تعبرُ عن السخط بل هي بلاغ ضد الزيف كما أنَّ روكنتان ما انفك يشعر بالغثيان كذلك حال هوفمان في رواية. سالنجر حيثُ يثورُ على زيف عالمه ويهربُ من المدرسة رافضًا نفاق القائمين عليها كما لا يقبلُ التدجين في النظام الأسري يفكرُ في حياة جديدة مع سالي التى لا ترى فيما تسمعهُ منه سوى رومانسية المراهق. ومما يضاعفُ من غضب هوفمان البالغ من العمر ستة عشر عامًا هو الاضطرار للنطق بما يخالفُ حقيقة المشاعر وكان الانتحار يراوده في لحظة ما غير أنَّ ما منعه من الإقدام عليه هو عدم التأكد من وجود شخصٍ يغطي جثته وهو لايريدُ أن يكون مكشوفًا أمام الأنظار.
يتقاطعُ روكنتان مع هوفمان في الشعور بالسأم والتغرُّب عن الواقع والاستخفاف بالمُتَّفَق عليه اجتماعيًّا والتوتر في العلاقة مع المرأة إذ يميلُ الاثنان إلى تخيل المرأة التي تعيشُ حياتها الحميمية مع شخصٍ آخر. يُشار إلى أن السردَّ في رواية سالنجر يتَّصفُ بالعفوية إذ يستجلي الكاتبُ ما يعترمُ في أعماق جيل جديد من الغضب والرغبة في الثورة على الزيف، كما يُذكَر أنَّ هذه الرواية حسب ما يقوله الكاتب العراقي “علي حسين” قد أثارت لغطًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية بأمريكا واللافتُ في أجواء هذا العمل الروائي هو تحرر معجمها اللغوي من غطاء الاستعارة والكناية.