لماذا يبتسمون في الصور؟
لم أكن أعي ما هو الموت وأنا في سن الخامسة، لم أكن أعي ما معنى أن يموت أحدهم، وكيف أن الموت هو الشيء المشترك بين جميع البشر صغارًا وكبارًا وأن الجميع سيتذوقه.
كلُّ ما كان يهمّني هو أن أستيقظ صباحًا لتذاكر لي جدتي دروسي ولأكتب أحد الموضوعات 20 مرة تقريبًا لأحسّن من خطّي في الكتابة ومن ثمّ أتناول غذائي، حيث كانت تُعِد لي طبق الأرز بالبيض والطماطم، مُرفَقًا بحساء الدجاج الساخن الطيب، وتضيف إليه الكثير من الحب.
وحين يأتي وقت النوم كانت تقبّلني قبلة حانية وتغمرني بحبها ودفئها لأنام هادئة البال تمامًا، إلا أن الأيام التي كانت تسبق الأعياد لم يكن للنوم أن يعرف طريقي، كنت أحتضن ملابس العيد وأحترق شوقًا ليأتي الغد، فلم يكن الانتظار يحتمل في مخيّلتي سوى معنى واحد لا غير؛ وهو قدوم السعادة التي انتظرت لأجلها لا محالة، فيأتي الغد وأرتدي ملابس العيد وأجري في أروقة البيت حتى أصل إلى جدتي وجدي فأقبل أيديهما وأنظر إليهما في فضول ليسلّماني العيدية؛ بضع أوراق نقدية أدسّهم في جيبي وأنطلق خارج المنزل ليحين وقت اللعب مع الرفاق وسباق الدراجات فتزداد الفرحة أضعافًا.
كم كان كل شيء رائعًا في الوقت الذي كنّا فيه غير مدركين للحقائق! كم هو مؤلم الآن أن تأتي جميعها لتصطدم بوجهك دفعة واحدة بعد تخطّيك سن العشرين.
الموت سيكون من نصيبك أيضًا ولن تعرف متى سيصيبك.. أو متى سيصيب من تكترث لأمرهم، تلك أهم الحقائق وربما.. أقساها.
إلى أن أتى هذا اليوم، الذي توفيت فيه جدتي.. ذاق قلبي تلك المرارة ثم صرت أراقب تلك اليد المتصلبة وأتحسّسها برفق.. كيف أصبحت كذلك وقد كان يعمّها الدفء البارحة.. تلك اليد الحنونة التي لطالما ربتت على كتفي ولطالما حملت كل الطيبات..
بعد عددٍ محددٍ من الليالي والأيام.. ستغدو رمادًا.. كنت أعجز عن التصديق وعصف التفكير بعقلي وكيف للأحداث أن تتحول على نحو مفاجئ وبسرعة إلى وقائع أبدية غير قابلة للتغيير؟! هكذا خُلقنا.. لا ندرك وقع الحدث جيدًا إلا عندما يقع لنا، فينهش ألمه في روحنا ليعلمنا أنه لا استثناء.
بعد أن تسلّلتُ بعيدًا عن جمع الناس الذين أتوا لأداء واجب العزاء، دخلت إلى الغرفة ذات الإضاءة الخافتة وواربت الباب.. أصوات الجميع بالخارج باتت خافتة الآن لا أستطيع تمييز جملهم المعتادة.
اقتربت من حقيبة مهترئة من القماش تضم صورًا قديمة لجدتي.. تمتد يدي المرتعدة إلى الصور وتراقب عيناي التفاصيل، لم تذرف بعد دمعة واحدة! لم أفهم ماذا دهاني.
في جميعها تبتسم.. وعلى ظهر كل صورة كتب بخط أنيق تاريخ التقاط الصورة مرفقًا بجمل توثّق الذكرى.
أخذت أتحسس بأناملي ابتسامة وجهها في الصور، أحدثها: لا تبتسمي هكذا ولا تبتسم عيناكِ!.. كيف يمكن لابتسامتك التي أنارت طرقي في كل مرة ألقيت بنفسي داخل ذراعيك أن تعتصر قلبي وتؤلمه بعد الرحيل؟
لم أشعر بجدي وهو يدلف إلى الغرفة في هدوء.. نظرت إليه في جمود وسألته: لماذا يحل الحزن دومًا في نهاية الطريق؟
استلم مقعدًا وقربه مني ليجيبني قائلًا:
“آه يا صغيرتي كم تشبهينها.. كانت أمك صبيّة في مثل عمرك تمامًا.. تبتسم برقة وبراءة وتقول لي هذه الدنيا رائعة وكل الناس طيبون.. قالت لي بحق السماء المفعمة بالسلام وهذا العشب الأخضر وتلك الطيور الجميلة وبعددهم جميعا لن أستسلم.. سأكافح لأجل هذا الجمال لأجل ذلك النقاء سأقف بوجه أي صعب لأجل الإنسانية ولتدوم ابتسامة الأطفال.. سأمحو الشر من الوجود.”
لم أعقب على كلامها.. منعتني نظرتها البريئة وحماسها المشتعل في عينيها من أن أبوح لها بالحقيقة.. أردت أن أقول لها يا ابنتي الشر سيظل والحزن سيدوم والطيبون فقط من يذهبون ضحايا.. أردت أن أقول لها أنه لا فائدة.. منذ خلق الأرض والقتل جزء منها.. الشر في هوائها نتنفسه منذ أول فعل شرير ارتكب عليها.. لقد احتلت الشرور العالم منذ القدم ودنست أراضيه.. أردت أن أقول لها إن “كل شيء سيكون على ما يرام” لم تكن سوى كذبة يقولها المحب ليهدأ روع حبيبته عندما يعتريه الخوف هو الآخر.. وتلك الحكايات التي كانت ترويها لك أمك كل ليلة لتنتهي بانتصار الخير وهزيمة الشر وإنقاذ الأمير لحبيبته لم تكن سوى ترهات تتلوها عليك لتكوني في عالمك الوهمي خوفًا عليك من معرفة واقع العالم قبل الأوان، يا صغيرتي.. على الأميرة أن تنقذ نفسها في كل مرة.
أردت أن أقول لها.. اعدلي عن طريق المقاومة.. لا يوجد حل النهاية في كل حكاية محتومة.. ولا أريد لروحك أن يعتريها التمزق، لا أريد أن تلمس وجنتيك دموع المرارة والعجز.. أردت أن أخبرها أن قلبها سلاح سيرديها يومًا ما عند الخذلان.. ستحبين يا صغيرة وستعيشين أيامًا رائعة ولكن سيمضي كل ذلك مثل الماء. أردت إخبارها ولكن كبلتني روحها الحماسية ولم أستطع قول حرف.. لتمضي السنين وأنا أرى جمالها الهادئ قد ربضت عليه لمحات الحزن والألم.. لقد أخذ منها الاكتئاب ما أخذ.. لا تفارق رأسي عندما حدثتني تلك المرة وهي تنظر شاردة من نافذة المشفى قائلة بنبرة لوم واضحة: “ليتك أخبرتني، ليتك ألقيت التحذيرات.. الحياة جميلة ومخيفة بالقدر ذاته.”
أتذكر كيف كان شعرها الكستنائي الناعم بخصلاته المبعثرة يتمايل بفعل نسمات الهواء الباردة قبل أن تصعد إلى الحافة في ثوان معدودة وتلقي بجسدها النحيل من النافذة لتمنح هي روحها الخلاص الأبدي ولأقف مكاني والصدمة تعمّ كياني، مع ازدياد وتيرة بكائك على الفراش الأبيض وقد كنت لم تبلغي من العمر بعد أربعة وعشرون ساعة فقط.
أريدك الآن ألا ترتكبي الخطأ الذي وقعت به أمك، لا يحل الحزن أبدًا في نهاية الطريق، طالما يجد الألم طريقه لقلبك فتلك حتما ليست النهاية، السلام وحده يكمن في نهاية الرحلة، فتقبلي يا صغيرة حقيقة الألم والخوف والعجز والحزن ستتذوقينهم جميعهم طالما تهديك الحياة الحب والرحمة والنظر إلى السماء وابتسامة من تحبينهم وعناقًا يجبر روحك.. وابتسامة غريب تصادفينه في يوم عاصف وإحساس الحياة الذي يدب في عروقك حين تلمس بشرتك دفء المياه.”
نظرت إلى جدي باستسلام فبادرني بنظرات متألمة، وقفت بمواجهته بينما أسلم بين كفيه الكثير من الصور، أخذ يتأملها ثم ارتفعت عيناه إلى وجهي.. الإضاءة الخافتة لم تنجح في إخفاء ألم اعتصار قلبه الذي بدى في عينيه لاعنًا الخفوت معلنًا عن حضوره.
سألته قائلة: لماذا يبتسمون في الصور؟ هل لتحترق قلوبنا عليهم لوعة!!
ربت الجد على كتفي قائلًا: لندرك يومًا أن تلك الروح قبل انطفائها قد تمتعت بوهج لامع يشتعل داخل الجسد، يطلّ بريقه على العين توَّاقًا إلى تذوق الحياة في كل صورها، لنتذكرَ يا صغيرتي، علينا دائمًا أن نتذكر..
نرشح لك: بهاء طاهر وسانديب روي بين الرمزية والشخصية في القصة القصيرة