رجل عاجز عن الحب
مشاهد مختلفة، كلها فى نفس المكان. يتفحص في نظرة متوسطة طول المدة للجالسين على الكراسي الخشبية المصفوفة على سور المقهى بجواره، يسرق النظر إلى الورق المرصوص على المنضدة أمامه في ثوان، ثم ينتفض برقبته للأعلى، حيث لا طيور. يقضي ما تبقى من الستين ثانية بالنظر إلى السماء. فقط سماء قاتمة اللون، تثير في نفسه شيئًا من البله.
بعد خمسة وعشرين عامًا، ما زالت تنهش الوحدة قلبه، تأكله. حتى أصبح ضخ الدم حملًا ثقيلًا تختبئ الراحة في قرار إيقافه. وفي ليال أربع، قبل أن يعلن للجميع بصوتٍ منهزم غير مسموع انتحارَه، قرر أن يعيش.
يقطع دورةَ نظراته وصولُ القهوة. وضعها القهوجي على طرف المنضدة، بجوار كوب ماء. وعلى الطرف الآخر، أمامه أربع ورقات، تتوسط كل ورقة جملة واحدة. قالتها رفيقة كل ليلة من الليالي الأربع التي عاشها حتى يومنا الخامس.
فى الليلة الأولى…
أخرجت يده المتعرقة، بعد حبسها الطويل في “جاكيت” يحمل نسمة بلاد الريف خاصته. وسحبته منها إلى منتصف الجسر. ترفع ذراعها الأبيض فى حركة خفيفة يمينًا ويسارًا ” هناك القاهرة، وهناك الجيزة.” ” نحن في نقطة لا تمسها وطأة الجغرافيات.”
جعل يتلفت حيث تشير ولكن سحرًا ما أخذه في سماء القاهرة، سحرًا يرى فيه نجيب محفوظ. كما يرى في الأسد الرابض فى أول قصر النيل، قصةٌ لم تروَ. ترحَّم على الخديوي ونجيب ومع كل جملةٍ تنهيها يردد ” القاهرة جميلة”.
كررها من المرات عشرات، بنبرة مونوتونية أفقدتها بهاء الليلة. في النهاية فطنت لحقيقة شروده، كأن روحه أمر مؤجل تنتظر الصعود للسماء. وهي تودعه فى محطة مصر صارحته: “رجل كثير الصمت قليل الكلام”
فى الليلة الثانية…
بعد استرضاء البواب الأسيوطي، صعد إلى شقتها بالزمالك. رآها مرة في متحف للفنون حيث لاحظت اهتمامه بلوحة رمزية تصور نسرًا كامنًا فوق عرشٍ وهمي على سفح جبل ينظر من فوقه على مجموعة متقاتلة لسببٍ غير واضح من البشر، وسألته حول إيمانه بالرب. بعد لحظات من هضم الصمت المرادف للحكمة ألقى على مسامعها ما قاله بورتاغوراس قبل ألف عام ” إن المسألة دقيقة وحياة الإنسان قصيرة”.
لم يتأكد من صحة الرقم الذي أدخلته بيدها على هاتفه حتى اتصل بها في وقت سابق، وشاركها برغبته في اصطحابها للسينما. لطالما رغب في موعد سينما، أن يشاركه الشغف أحدهم، ليريه كيف يصف الحسِية جاسبر نوى وكيف يعبر كايسلوسكي عن المشاعر بالألوان. طلبت نقل الموعد إلى بيتها ووصفت له العنوان. وبعد أن انفرجت شفتيه أمام مشاهد دافيد لينش لم يُغلقهم على شفتيها.
وهو يهم بالرحيل، أبت مرافقته حتى الباب. قالت: “أنت عاجز في فهم الأنثى”
فى الليلة الثالثة…
تعثر بها فى طريقه المعتاد للمنزل، لم يعتد رؤيتها منذ أن انتقلت للجانب الآخر من المدينة. بعد قسم مغلّظ شهدت عليه السماء والتفاف الأصابع في المرحلة الجامعية بالبقاء صديقين، أبطلت الأيام نفاذ وعدهم. اقتصرت اللقاءات على المناسبات، لم تستطع أن تغلب إحساسها بالعجز بعد فشلها عن إصلاح مسار عقله، ومساندته في الرؤية الطبيعية للأمور، وانتشاله من الغرق المستمر في الحزن غير المفهوم. أو حتى استمالة قلبه لها، غنت له ما سمعته من صباح عن الحب، عن الشوق، عن النهايات السعيدة ولكنه أبدًا لم يقرأ لها سوى الأشعار الحزينة لإدجار ألان بو وتشارلز بوكوفوسكي. وبعد تضخم المسافة بينهما، أصبحت الصدفة وحدها من تتحكم في لقاءاتهم. أعجبته تسريحتها الصبيانية الجديدة، وأثار تعليق أو اثنين على مساحيق وجهها والكحل الخفيف الذي يزين عينها وسألها ما إن لاحظت فيه أي تغيير، ولكنها اختصرت إجابتها في جملة واحدة “مازلت تفضل الموت عن الحياة”
فى الليلة الرابعة..
ذهب إلى صالون ثقافي، يتحول إلى مسرح في بضعة أيام، يتنفس فيه الفن بمنأى عن عوادم الواقع، شاركه في الأمر اثنين، اتضح فيما بعد أنهما المؤلفة الشابة والمخرج المسرحي، هو الجمهور الوحيد للمسرحية. كانت مسرحية قصيرة عبارة عن شاب يحاول تعلم رقص الباليه، وبعد تقديمه تجربة أداء، ترفضه المدربة قائلة: “أنت ثقيل”. ثم يظهر مجددًا بجسد أنحف ووزن أقل، ويقدم تجربة أداء أخرى وترفضه المدربة قائلة: “أنت ثقيل”، ولا يغيب حتى يعاود الظهور بجسد أكثر نحافة ووزن كالريشة، ويقدم تجربة أداء أخرى وترفضه المدربة مجددًا قائلة: “أنت ثقيل” ثم تقترب منه وتشير بيدها على ناصيته: “أنت ثقيل هنا”. “الباليه تعبيرٌ عن الحياة. ولا يحس المرء المعنى الحقيقي للحياة وعقله مثقل بالتفكير. والعقل بالتفكير يرفض هوان القلب، والقلب ينبض بمعنى الحياة، بالحب. لا يمكنك رقص الباليه حتى تتعلم الحب وتستطيع أن تعبر عن الحياة” وتنتهي المسرحية. ويضطر أن يصفق بما أنه بشخصه الجمهور الوحيد للمسرحية، ثم كان عليه أن يطرح سؤالًا، حيث تجاهلت المؤلفة الشابة حقيقة عدم وجود غيره وصعدت إلى المنصة وطلبت من الجمهور عرض أسئلتهم حول المسرحية. ولم يجد في تفكيره سوى أن يسألها عن معنى الحدث. قالت وهي تضع يدها على قلبها فى مشهد مسرحي آخر: “نعرف الحياة من خلال الحب”.
فى نهار اليوم الخامس، وهو جالس على المقهى، فتش بيده عن شيفرة حادة خبأها في جيب بنطاله، وتأكد من وجودها. استرق النظر مجددًا للجملة التي وضحت من الترتيب الذى أحدثه منذ قليل في الورق أمامه قبل أن يفيق ويلقي ورقة بعشرة جنيهات على الطاولة ثم يهم بالرحيل. وحين أسرع القهوجي بالتقاط الحساب وقعت عينه على الجملة التي نفرت صاحبها: “رجل عاجز عن الحب”