فيلم Spirited Away: بين الاستهلاك والهُويّة
تتكوّن رائعة الرسوم المتحركة Spirited Away -الذي أخرجه لنا هاياو ميازاكي عام 2001- من مجموعة من الأحداث العرضيَّة، حيث تتَّسِم مَسَاعِي البطلة “تشيهيرو” بالرموز شديدة الدلالة، وما يربط هذه المساعي بعضها البعض هو الاستهلاك؛ الاستهلاك بمعناه الحرفي للطعام.
على غير المُتوقَّع، يرتبط مفهوم الاستهلاك في فيلم Spirited Away بالفُقدان وليس والاكتساب، وتحديدًا فُقدان الهُويّة. يفقد والدا “تشيهيرو” ذاكرتيهما بعد تناولهما الطعام بشراهة ممَّا يجعلهما يتحوّلان إلى خنزيرين. ويفقد أيضًا “لا وجه” و”هاكو” هُويّتيهما، لكن يحصلان على المساعدة من خلال إرغامهما على تقيُّؤ التأثيرات المفُسِدة التي ابتلعاها. وبفضل “تشيهيرو“، يستعيد “هاكو” هيئتَه الحقيقيةَ كـ”إله النهر” من خلال مُساعدته في التخلّص من سنوات من التلوُّث. فنلاحظ أنّ بطلتنا يتوجّب عليها مرارًا وتكرارًا تطهير الشخصياتِ رمزيًا؛ كي يستعيدوا هُويّاتِهم المَفقودة أو المَنسيّة.
كغيره من الأفلام العظيمة، يحتمل فيلم Spirited Away عددًا من التفسيرات. على سبيل المثال، ترى ناقدة الرسوم المُتحرِّكة اليابانية “سوزان نابيير” الفيلم كقصة ترمز إلى الهُويّة اليابانية الحديثة، حيث يُجسِّد سعيُ “تشيهيرو” إلى إعادة تأهيل الشخصيات التي نَسَتْ هُويّاتها الحقيقية استعارةً لكفاح اليابان من أجل استعادة هُويّتها الثقافية الفريدة في مواجهة العولمة، والتحوُّل الصناعي، والتأثيرات الأجنبية المُفسِدة.
دعونا نستعرض كيف للاختبارات الرمزية التي مرَّت بها “تشيهيرو” أن توصلها إلى النموِّ الداخليِّ بطريقة تجعل فيلم Spirited Away أحد أفضل القصص التي تتناول قضية الوصول إلى سِنِّ الرُّشُد. من الأشياء التي تُميّز الفيلم وتُضْفي عليه طابعَ الاستثنائيَّة هو الإحساس بـ(البينية – Liminality)، التي يرجع أصلها إلى الكلمة اللاتينية (عَتَبَة أو حَدّ – Limen)، ويُستخدم هذا المصطلح في وصف المراحل الانتقالية مثل منطقة الأعراف والشفق، لكنه أيضًا مهم في مجال (الأنثروبولوچيا – علم الإنسان)؛ حيث يُشير تحديدًا إلى مرحلة طقوس العبور الانتقالية التي يفتقر خلالها المُشارِك إلى حالة اجتماعية مُحدَّدة.
ويُعد أكثر الأمثلة وضوحًا على هذا النوع من البينية هو مرحلة المُراهَقة؛ فحينها لا يُعَدُّ المرء طفلًا، لكنه لم يصبح راشدًا بعد. إنّ أيامه كيرقة قد انتهتْ، وهو الآن شرنقة تنتظر حتى يحين الأجلُ وتُصبح فراشةً. ويعتقد الكثير من علماء الأنثروبولوچيا أنّ هذا الافتقار إلى الهُويّة هو أحد أسباب شيوع الارتياع والقلق بين الشباب في كثير من الثقافات.
بالمعنى الحرفي، تدور أحداث الفيلم في أماكن بينية مُتعدِّدة. فمن جانب، تجري أحداث القصّة بأكملها خلال رحلة “تشيهيرو” من حياتها القديمة إلى نظيرتها الجديدة. ومن جانب آخر، تجري الأحداث في مركز للاستحمام يربط العالم الحقيقي بعالم الأرواح. وعلاوة على هذا وذاك، هناك العشرات من المشاهد المُهِمَّة التي تحدث في أماكن انتقالية بالمعنى الحرفي مثل المصاعد والسلالم والجسور والأنفاق والسيارات والقطارات.
كل هذه المراحل البينية هي انعكاسات لبطلتنا وهي في منعطف سِن المُراهَقة. وعلى الأرجح أنّ مُتَحَدِّثِي اليابانية سيُميّزون أنّ اسم “تشيهيرو” يتكوّن من جزأين: “ألف – Chi” و”سبر الأغوار – Hiro”؛ بمعنى “ألف طريقة لسبر الأغوار”. عندما تدخل «تشيهيرو» الحَيِّزَ البينيَّ لمركز الاستحمام، تستحوذ «يوبابا» على الجزء الثاني من اسمها مُختزِلةً إياها إلى مُجرَّدِ رقم ليُعبِّر عنها، مُنتزِعةً منها الجُزء الذي يسعى إلى المعنى.
وعلى المنوال نفسه، تُشكِّل بطاقة الوداع التي تحمل اسم “تشيهيرو” صورةً متكررةً غاية في الأهميّة؛ لأنها تُجسِّد خوفها الحقيقي من فُقدان ذاتها السابقة وأن تُصبح بلا هُويّة؛ خوفٌ يُرمَز إليه بالعديد من مواجهاتها المُخيفة مع الشخصيات التي نَسَتْ هُويّاتِها. ليستْ محض مصادفة أنّ هذه الشخصيات تتميّز بالجوع؛ فـ”لا وجه” ليس له وجه فحسب، بل ليس لديه صوت أيضًا. إنه يبتلع الناس كي يأخذ أصواتهم وسماتهم، في إشارة إلى أنّ توقه إلى الطعام هو في حقيقة الأمر توق إلى هُويّة خاصّة به.
باحَثَ العالمُ النفسي «فيليب كوشمان» في مقالته التي نُشرت عام 1990 تحت عنوان “لماذا النفس خاوية” أنّ ثقافة المُستهلِك قد غيرتْ جذريًا الطريقة التي يتعامل بها الناس في القرن العشرين مع مشكلة الهُويّة.
قُولبت النفسُ في العصر الڨيكتوري خلال ظهور التحليل النفسي في شكل قوّة جامحة يتولّى المجتمع المُتحضِّر أمرَ قمعها واحتوائها. ومع ذلك، أدّى الارتفاع الهائل في التمدّن والتصنيع والعُزلة الاجتماعية المُتزايِدة في القرن العشرين إلى أزمة جماعية في الهُويّة استجابتْ لها الصناعات بما يسمى “حلول المعيشة“، حيث يَعِدُكَ المُنتَج أنّه سيوفّر لك المعنى والشخصيّة والهُويّة. وكنتيجة لذلك، تغيَّر تخيُّلُ الناسِ للنفس من قوة يجب إخضاعها إلى فراغ يتعيَّن ملؤُه. وتُشجِّع ثقافةُ المُستهلِك -من أجل الحفاظ على نفسها- المستهلكين بنشاط على أن يعتبروا أنفسهم أوعية فارغة إلى الأبد؛ لن تستكفي أبدًا، ولن تصل إلى الكمال، ودائما أنت في حاجة إلى الملء.
يمثّل الأمر مشكلةً من وجهة نظر نفسية لأنّه يتحتّم على الناس المرور بطقوس العبور أو المراحل البينية التي نفتقر فيها مؤقتًا إلى الهُويّة حتى نتمكّن من النمو. إنّ أكثر الانتقادات شيوعًا التي تُوجَّه إلى ثقافة المُستهلِك هي أنّها تجعل الناس أنانيين وسلبيين وطفوليين – تمامًا مثل شخصيّة “تشيهيرو” في بداية فيلم Spirited Away -. يُساعد “ميازاكي” بطلةَ الفيلم بالطريقة نفسِها التي تلجأ إليها مع الشخصيات التي تُقابلها من خلال تطهيرها من هُويّتها السابقة ودفعها إلى الأمام إلى حالة بينية؛ فيُساعدها على مواجهة الخوف من الفراغ الذي يجعلها سلبية للغاية ولا حول لها ولا قوّة، وحينها فقط يمكنها أن تُدرك أنّها ليست فارغة أو عاجزة على الإطلاق.
الدرس الختامي من فيلم Spirited Away
هذا هو الدرس الذي يُعلّمنا إيّاه فيلم Spirited Away من خلال التكرار الرمزي. ما يُعلّمنا “ميازاكي” هو عبثية البحث عن هُويّة من خلال الاستهلاك؛ فشهية “لا وجه” -التي لا تعرف الشبع- أتتْ بنتائج عكسية ومُدمِّرة ذاتيًا، حيث كُلّما أسرف في إطعامها توحّشَّتْ. وفقط عندما يتمكّن من تقيؤ كل هُويّاته الزائفة يستطيع المُضيّ قُدُمًا نحو إحساس حقيقي بالانتماء. يُوضّح لنا “ميازاكي” أنّ الطريقة الوحيدة التي تُمكننا من التغلُّب على الخوف من الفراغ هي التوقُّف عن تغذيته.
يُعرب فيلم Spirited Away عن أمله في أن تتمكّن اليابان الحديثة من إيجاد توازن بين الرخاء الاقتصادي والتُّراث الروحي. وهناك تركيز كبير على تذكُّر اسم الشخص وهوية والديه، حيث يضطلعان بدور تكوين أواصر مع السلف. تتعمّق الرسالة عندما ننظر إلى سياق الفيلم؛ في الوقت الذي أُنتِجت فيه العديد من الأفلام المتحركة باستخدام أجهزة الكمبيوتر، رُسِم فيلم Spirited Away، كما تمنح قصته الأمل في أن تزدهر الأجيال المقبلة جنبًا إلى جنب مع احترامهم لتاريخ أشكال الفن.
نرشح لك: أفلام استوديو جيبلي- عالم لبطلة شجاعة
المصادر: - موقع IMDB، فيلم Spirited Away. - قاموس Oxford English Dictionary. Ed. J. A. Simpson and E. S. C. Weiner. 2nd ed. Oxford: Clarendon Press, 1989. OED Online Oxford 23, 2007. - كوشمان، فيليب. «لماذا النفس خاوية: نحو علم نفس قائم تاريخيًا.» - نابيير، سوزان چيه. «المادة في غير محلّها: الكرنڨال والاحتواء والانتعاش الثقافي في فيلم (Spirited Away) لـ(ميازاكي).»