بريء التوتاليتارية: كيف استلهم وحيد حامد فكرة فيلم “البريء”؟
الأحداث والقصص التى تصبح في ما بعد علامتنا الإرشادية تحمل في طيَّاتها المعنى الكاملَ لما نُريد قولَه
–حنا آرندت
سنة 1977 في الـ 17 من يناير انتفض الشعب المصري في الشارع؛ فالدولة كانت تمر بأزمة اقتصادية صعبة جدا فيما جاء خبر غلاء أسعار السِّلَعِ بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البعير؛ لذلك سُمِّيَتْ تلك الانتفاضةُ بانتفاضة الخُبْز… لكنَّ الحكومةَ كان لها مُسَمى آخر؛ فأطلقتْ عليها انتفاضة الحرامية، وأمر رئيس الجمهورية آنذاك (انور السادات) مُقاومة هؤلاء الحرامية بكل قوة. وعليه، امتلأتِ الشوارعُ بالمُنْتَفِضِين الفقراءِ وعساكر الأمن المركزي الفقراء أيضا! وحدث هجوم يمكن وصفُه بالبشع بين عساكر الأمن المركزي المُسَلَّح وبين أفراد الشعب الأعزل المُتَضَّمِّن: العامة والصفوة المثقفين من الفنانين والشيوعيين واليساريين الذين انضموا بعد ذلك إلى الانتفاضة. وأثناء المشادات والضرب وبدلا من أن يُوْسِعَ أَحَدُهُم واحدا من أفراد الشعب الأعزل ضربًا تنزل يَدَاهُ في حركة دراماتيكية مصدوما؛ لأنه اكتشف أن من بين يديه هو الكاتب وحيد حامد، ابن قريته المُتَعَلِّم الذي لا يُمْكِن أن يكون من هؤلاء الحرامية الذين يريدون تخريب البلد. ومن هذا المشهد صرح وحيد حامد أنه كان نواة فيلم “البرىء”.
تساءل وحيد حامد عنِ السبب الذي يجعل شخصًا فقيرا يضرب بهذا العنف، بل يكون على استعداد تامٍّ أن يُهَشِّمَ رأسَ أحدِهم حتى وإن كان من يحاول ضربَه هذا ينتفض ويحارب من أجله ومن أجل قوت يومه. ومن هنا ابتدع شخصية “أحمد سبع الليل”؛ الشاب الريفي الفقير الذي يعيش مع أمه وأخيه، المتخلف عقليا، هذا الذي لم تُمَكِّنْه ظروفُه الاقتصاديةُ من التَّعَلُّم، ومفهومة عن الوطن لا يتخطى حدود الحقل والترعة التي يقذف بنفسه فيها حينما يشعر بالحر، وتسليته الوحيدة هي محل البقالة الذي يتجمع فيه الشبان؛ ليتسلوا بالسخرية والتنمر على الذين هم مثل “سبع الليل”.
بعد ذلك يتم استدعاؤه للتجنيد الإجباري ولا يفهم المغزى وراء تركه للقرية وأمه وأخيه؛ فيشرح له “حسين وهدان” صديقه اليساري معني الجيش وأهميته لحماية الوطن. ثم ينتهي الأمرُ بسبع الليل أن يكونَ من قوات حراسة أحدِ المعتقلات الخاصة بالمسجونين السياسيين في منطقة صحراوية معزولة. ورغم كل تلك الطيبة المُتَأَصِّلَة، أو ما يمكن أن نقول: السذاجة التي يعوم فيها، لماذا قد يقترف مَن مثل سبع الليل أفعالا شنيعة ولا يشعرون بالندم ولا الحزن أو حتى تأنيب الضمير؟ مَن أو ما الذي جعله وحشا هو ومن هم على شاكلته؟!
حسب ما تُورده حنا آرندت -في كتابها “أسس الـتوتاليتارية“- نجد أنَّ عملية التحويل تلك عملية تحتاج إلى منهجيات وبرمجيات صَهْرٍ وتَلْقِين ودعاية مُكثفة تُمَثِّلُ العمودَ الفقري للأنظمة الشمولية/التوتاليتارية. وأول من أطلق هذا المصطلح هو الصحفي و السياسي جيوفاني امندولا؛ ليصف به الفاشية الايطالية واختلافها كنظام اختلافا جوهريا عن الديكتاتوريات التقليدية.
وتوضح آرندت أنَّ أهمَّ أداة تعتمد عليها الأنظمة التوتاليتارية هي الجماهير (بمعناها السلبي)؛ فتضم إليها أفرادا معزولين مُبَعْثَرِين ومُجَرَّدين من روابطهم الاجتماعية؛ حتى يصبح الفرد منهم لا يستشعر نفعَه إلا من خلال انتمائه إليهم؛ أعني: الحركة التوتاليتارية. ويُشترط أن تكون تلك الجماهير مستقيلة سياسيا، أو غير مبالية بالأحداث السياسية وغير فعالة فيها، وهذا ما عبر عنه “الصول” بسؤاله عن الدفعة الجديدة إذا كان فيهم من يستطيع القراءة أو الكتابة، أو إذا كان”حد منهم متربي في البندر [المدينة]؟!”. وعندما علم أنهم حفنة من الذين لا يعرفون حتى كيفية فك الخط ويعيشون في النجوع والكفور [المّطرفة]؛ ليكونَ أولُ حصاد من هذه العزلة واللامبالاة السياسية والجهل هو الولاء غير المشروط وتنفيذ الأوامر دون تفكير. وهذا ما نجده جليا عندما يُطلب من “سبع الليل” أنْ يضرب من يقف بجانبه فيفعلها، ثم عندما يُسْأَل: لماذا؟ يجيب بثقة: أنه يجب عليها إطاعة الأوامر حتى وإن كانت خاطئة؛ فيبتسم الصول ابتسامة رضا عنه.
إنَّ النِّظام التوتاليتاري تتمُّ خطته في الاستحكام بخلق تَصَوُّر لدى تلك الجماهير بأنَّ هناك خطرا مُحَلِّقًا جلبته الديمقراطياتُ الغربيةُ، ويجب فضحُها ومحاربتُها، وهو ما تم اختزاله في الفيلم باسم “أعداء الوطن”، وهذا ما مِن شأنِه أنْ يُضْفِيَ وَهَمَ أنهم أصحابُ قرارٍ، وأصحاب إنتاج بمحاربتهم الأعداء، وبالتالي فإنهم يُقَدِّمُونَ قرابينَ الولاءِ والطَّاعَةِ. وهي خطوة أخرى لإحلال التوتاليتارية؛ حيث يتم إقناعُهم أَنَّهُم يُمْسِكُون زمامَ الأمور بالإيحاء، بينما تُسحب منهم السلطة الحقيقيةُ ويتم إبدالها بوهم إذا ما سادتِ العزلة والتَّجرُّد.
على جانب آخر، تعمل الأنظمةُ الشمولية على مَسْخِ إنسانِها وتحويلِه من فاعلٍ إلى كادِح؛ تجعلُه محصورًا بما يحتاجُه لقُوتِه دون ما يجب أنْ يفعله بوصفه حرا؛ فنجد ذلك مُمَثَّلًا في المشهد الذي حاول فيه “أحمد سبع الليل” العزفَ على نايه الذي صنعه بيديه؛ ليسليه أثناء الخدمة؛ فيزعق فيه العريف ويذكره أنه لم يَعُدْ في الغيط مرة أخرى؛ ليعزف كما كان يحلو له في السابق.
ومن نتائج التوتاليتارية أيضا: الإقفار، ليس بمعنى الوِحدة أو العُزلة، إنما الإقفار هو ذلك المصطلح الذي أطلقتْه آرندت؛ للتعبير عن فُقدان الأنا والتواصل مع الذات أو عمل حوار مع الذات، وهو من أدوات الإدراك والفهم التي تفتقر إليها الجماهيرُ المنسحقةُ تحت تلك الأنظمة.
عندما يطارد “أحمد سبع الليل” المعتقلَ “رشاد عويس” الكاتب اليساري، ثم يقتله مُتَفاخرا بذلك رغم كل سذاجته عن: كيف ولماذا حدث هذا؟ تُجيب حنة آرندت على هذا السؤال بعدة إجابات متشابهة. ففي أكثر من كتاب لها كما جاء في “أسس التوتاليتارية” وكتاب “أيخمان في القدس” نجدها تقول أن السلطة التوتاليتارية قادرة على جعل مرتكبي الجرائم لا يشعرون بفظاعتها، وإنما بأنها أمر عادىٌّ درجةَ أنَّ الفرد لا يعي مسؤوليتَه تُجَاه أيِّ شيء إنسانيِّ؛ لأنه فقط يُنَفِّذُ الأوامر. معنى هذا: أنه الشرَّ ليس مُتَجَذِّرا فيه، ولكنه يطبِّق أوامر إدارية رسخت فيه؛ أي أصبح ينفذها دون الحاجة إلى تذكيره بها. بجانب اللامسؤولية التي يتمتع بها؛ تلك التي تجعله يحد من أي شخص لا ينتمي إلى هويته أو حزبه. وهذا يدل على تجرده من السُّلطة الحقيقة؛ لأنَّ السلطة بمعناها الحقيقي توجد أينما وُجِدَتِ المسؤولية عن اتجاه مسار العالم بأيِّ شكل. لذلك تُطْلِقُ حنة على مثل هذه الأفعال -من قتل أو تعذيب أو ما شابه- اسمَ تفاهة الشر؛ لأن فاعلها يكون مجرد ترس في ماكينة بيروقراطية. وهذا ليس تسويغا أو تخفيفا للاتهامات الموجهة نحو عساكر الأمن المركزي أو سبعِ الليل نفسِه، أو أيخمان الذي زجّ حشدا من اليهود في معسكرات الإبادة، ولكنه إدانة بشكل وبصورة أشمل وأعم من اختزالها في حادثة، أو في كينونة إنسان لا معنى له.