لماذا كوننا على ما هو عليه؟
نحن نقول مرارًا إن العلم هو الشكل الأكثر موثوقية لمعرفة العالَم لأنه يقوم على افتراضات قابلة للاختبار، لكن الدين، على النقيض من ذلك، يقوم على أساس الإيمان، مصطلح توماس الشكاك(Doubting Thomas) (1) يوضح الفرق بجلاء؛ ففي مجالات العلوم الشك الصحي هو ضرورة مهنية، في حين أنه في الدين كان يعتبر الاعتقاد بدون وجود أدلة على أنه فضيلة.
هل يختلف العلم عن الدين اختلافًا كليًا؟
المشكلة في هذا الفصل الدقيق يعود إلى “تسلط غير متوافق”، كما وصف ستيفن جاي جولد (Jay Gould) العلم والدين، إن العلم له نظام اعتقاده الخاص للعقيدة الدينية، وتمضي كل العلوم على افتراض أن الطبيعة منظمة بطريقة عقلانية وواضحة، فلا يمكنك أن تكون عالِمًا إذا كنت تعتقد أن الكون كان خليطًا بلا معنى من المصادفات الصغيرة التي وضعت جنبًا إلى جنب بشكل اعتباطي، عندما يرصد الفيزيائيون مستوى أعمق من البنية دون الذرية، أو يوسع علماء الفلك نطاق ما تصل إليه أجهزتهم فإنهم يتوقعون أن يواجههم نظام رياضي أنيق ممتاز، وحتى الآن فإن هذا الاعتقاد مبرر.
إن التعبير الأكثر تشذيبًا لعقلانية الكون بشكل واضح يوجد في قوانين الفيزياء، القواعد الأساسية التي تدير الطبيعة، فقوانين الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوانين التي تنظم العالم داخل الذرة وقوانين الحركة، كل ما يتم التعبير عنه بعلاقات رياضية أنيقة.
ولكن..
من أين تأتي من هذه القوانين؟ ولماذا لديها هذه الصورة التي تعمل بها؟
عندما كنت طالبًا كانت قوانين الفيزياء تعتبر محظورة تمامًا، فمهمة العالِم -قيل لنا- هي اكتشاف القوانين وتطبيقها، وليس الاستفسار عن مصدرها، فتم التعامل مع القوانين على أنها “مُعطاة” -مطبوعة على الكون مثل علامة صانع في لحظة الولادة الكونية-، وثابتة إلى الأبد، ولذلك لكي تكون عالِمًا يجب أن يكون في اعتقادك أن الكون محكوم بقوانين رياضية عالمية وثابتة وموثوقة ومطلقة ذات أصل غير معين، ويجب أن تعتقد بأن هذه القوانين لن تفشل، فلن نستيقظ غدًا لنجد الحرارة تتدفق من البارد إلى الحار، أو أن سرعة الضوء تتغير كل ساعة.
على مر السنين في كثير من الأحيان سألت زملائي الفيزيائيين لماذا قوانين الفيزياء تكون على ما هي عليه، تتفاوت الأجوبة من “ليست مسألة علمية” إلى “لا أحد يعرف”.
الرد المفضل هو “ليس هناك أي سبب أنها تكون هكذا، هي هكذا فقط”.
فكرة أن وجود القوانين بلا سببية هي مضادة للمعقول بعمق، ومع ذلك جوهر التفسير العلمي ذاته لبعض الظواهر أن العالَم منتظم منطقيًا، وأنه توجد أسباب أن تكون الأشياء كما هي، لكن إذا تتبع أحد هذه الأسباب على طول الطريق وصولًا الى أساس الواقع -قوانين الفيزياء- فقط ليجد تلك الأسباب ثم يتركها لنا، فإنه يسخر من العلم.
هل يمكن أن يكون الصرح العظيم لنظام طبيعي ندركه في العالم من حولنا في نهاية المطاف راسخًا في عبثية غير مبررة؟
إذا كان الأمر كذلك، إذن الطبيعة ما هي إلا قطعة ذكية بوحشية من الخداع؛ فاللامعنى والعبث يتنكر بطريقة أو بأخرى بنظام بارع وعقلاني.
على الرغم من أن العلماء منذ فترة طويلة لديهم ميل إلى تجاهل مثل هذه الأسئلة المتعلقة بمصدر قوانين الفيزياء، فإن المزاج تحوّل الآن إلى حدٍ كبير، السبب الأول لذلك هو القبول المتزايد بظهور الحياة في الكون، وبالتالي وجود مراقبين مثلنا يعتمدون بحساسية أكثر على شكل القوانين، فإذا كانت قوانين الفيزياء مجرد كيس قديم من القواعد، فإنه يكاد يكون من المؤكد أن الحياة غير موجودة.
والسبب الثاني المتعلق بمصدر قوانين الفيزياء الموجودة الآن في نطاق البحث العلمي هو الإدراك بأن ما اعتبرناها قوانين مطلقة وعالمية لمدة طويلة قد لا تكون أساسية بالفعل أبدًا، ولكنها أقرب إلى اللوائح المحلية، ويمكن أن تختلف من مكان إلى آخر على نطاق كوني ضخم.
هل تساعدنا الأكوان المتعددة في حل المعضلة؟
النظر بدقّة قد يكشف عن خليط واسع من الأكوان، ولكلٍ منها مجموعتها المميزة من اللوائح الداخلية، في هذه “الأكوان المتعددة (multiverse)(2)” الحياة سوف تنشأ فقط في تلك البقع بقوانين غير مؤدّية للحياة (bio-friendly)، لذا ليس غريبًا أن نجد أنفسنا في كون معتدل (Goldilocks universe)، والذي يكون فقط مناسب للحياة، وقد اخترناه بوجودنا ذاته.
نظرية الأكوان المتعددة تحظى بشعبية متزايدة، ولكنها لا توضح بقوة أن قوانين الفيزياء تبدو كمراوغة للقضية برمتها، يجب أن يكون هناك آلية مادية لخلق كل هذه الأكوان وإعطائها قوانينها، وهذه العملية تتطلب قوانين خاصة بها، أو قوانين فوقية، فمن أين أتت؟
المشكلة ببساطة تحولت من مستوى قوانين الكون إلى القوانين الفوقية للأكوان المتعددة.
من الواضح إذن أن كلًا من الدين والعلم مؤسسان على الإيمان، أعني على الاعتقاد بوجود شيءٍ خارج الكون، مثل رب غير بيّن أو مجموعة من القوانين الفيزيائية غير المبررة، وربما حتى مجموعة ضخمة من الأكوان غير المرئية أيضًا، لهذا السبب فكلًا من الدين التوحيدي والعلم المتشدّد فشلا في تقديم سردٍ كاملٍ للوجود المادي.
هذا الفشل المشترك أمر طبيعي، لأن فكرة القانون الطبيعي ذاتها هي لاهوتية في المقام الأول، الأمر الذي يجعل العديد من العلماء يتضايق، فإسحق نيوتن تحصّل لأول مرة فكرة قوانين مطلقة وعالمية وكاملة وثابتة من العقيدة المسيحية بأن الإله خلَقَ العالم ونظّمه بطريقة عقلانية.
تصوّر المسيحيون الإله كداعم للنظام الطبيعي من وراء الكون، في حين يفكّر علماء الفيزياء في قوانينهم التي تقطن في عالَمٍ متعالٍ مجردٍ مكوّنٍ من علاقات الرياضية المثالية، ومثلما يدّعي المسيحيون أن العالَم يستند وجوده بشكل مطلق على الإله، في حين أن العكس ليس صحيحًا، لذلك يعلن الفيزيائيون عدم التماثل المشابهة: الكون محكوم بقوانين أبدية (أو قوانين فوقية)، ولكن هذه القوانين غير متأثرة تمامًا بما يحدث في الكون.
ويبدو لي أنه ليس هناك أي أمل أبدًا لشرح السبب في أن الكون المادي هو كما هو عليه طالما أننا متعلقون بقوانين غير قابلة للتغيير أو قوانين فوقية موجودة بلا مبرر أو تفرضها العناية الإلهية، لكن البديل هو اعتبار كلٍ من قوانين الفيزياء والكون كأنهم يحتكمون كجزء واحد لا يتجزأ من نظام موحد، ومدموجان سوية ضمن مخطط تفسيري مشترك، وبعبارة أخرى ينبغي أن يكون للقوانين تفسير من خلال الكون لا ينطوي على أي احتكام إلى قوة خارجية، تفاصيل هذا التفسير هي مسألة للبحث في المستقبل، ولكن حتى يأتي العلم بنظرية قابلة للاختبار عن قوانين الكون، فادعائه أنه بلا إيمان هو واضح الزيف.
المصدر: بول ديفيز: عالم فيزياء بريطاني ومدير مركز ما وراء عن المفاهيم الأساسية في العلوم في جامعة ولاية أريزونا، إلى جانب كونه مؤلف للكثير من الكتب في تبسيط العلوم منها "الله والكون والعقل" و"الثلاث الدقائق الأخيرة" و"الجائزة الكونية: كوننا مناسب للحياة" وغيرها. الهوامش: 1/ توماس الشكاك: المشكك الذي يرفض أن يصدق بدون تجربة شخصية مباشرة، إشارة إلى الحواري توماس الذي رفض أن يصدق حواري السيد المسيح أن المسيح قد بعث من جديد حتى يرى ويستلم جروح المسيح على الصليب. 2/ الأكوان المتعددة: إحدى نتائج ميكانيكا الكم، الفكرة التي قدمها العالم إيفرت عام 1957م وترى أننا نعيش في كون من مجموعة أكوان متعددة.