هل باستطاعة اللّغة تغيير إدراكنا للواقع؟
بنية اللّغة وأنماط التّفكير البشريّ
تلعب اللّغة دورًا أساسيًّا في حياة الإنسان، فهي لا تقتصر على «الفونيمات» «Phoneme» (الوحدات الصّوتيّة الصّغرى الخالية من المعنى /د/ ، /ض/)، و«المونيمات» «Moneme» (الوحدات الصّوتيّة الصّغرى التي لها معنى)، و«الغرافيمات» «Grapheme» (الشكل التي تتّخذه الأصوات، أي الأحرف) التي تحقّق غايةً علائقيّةً وتواصليّةً من النّاحية الاجتماعيّة، بل تتعدّاها إلى المستويين النّفسيّ والفكريّ، فترتبط اللّغة بشخصيّة الفرد وبنمط حياة مجتمعٍ بكامله، وتلازم إدراك الإنسان وفهمه للواقع، وهذا ما يستدعي السّؤال: هل تحدّد اللّغة نمط حياتنا وتفكيرنا وشخصيّتنا أم أنّ الإنسان يملك القدرة على التّأثير في اللّغة؟
أمام هذه الإشكاليّة تبرز فرضيّة سابير-ورف “Sapir-Whorf hypothesis” المتطرّفة، وتقول باستحالة استقلاليّة التّفكير الخاصّ عن هيمنة قواعد لغويّةٍ معيّنةٍ، لذلك لا نرى هذه الاستقلاليّة تنعكس بالسّلوكيّات الفردانيّة بمعزلٍ عن محيطها اللّغويّ، وبمعنى آخر تحدّد الألسنة أو اللّغات أنماط التّفكير البشريّ، وقد تساهم، بنسبةٍ معيّنةٍ على الأقلّ، في تحديد شخصيّة الفرد النّاطق بها.
مثالًا على ذلك، نجد أنّ بعض الألسنة (اللّغات “Langues”) لا تملك “أدوات التّعريف والتّنكير” “Articles” التي قد تكون من السّوابق “Prefixes” (في أوّل الكلمة) كـ”الـ” العربيّة للتّعريف، و”The” للتعريف و”a, an” للتنكير الإنكليزيّة، و”Le, La, Les, L’” للتعريف و”une, un, des” للتّنكير الفرنسيّة، أو قد تكون من اللّواحق “Suffixes” (تأتي في آخر الكلمة) مثل “أولاف” “ܐ” السّريانيّة للتّعريف (ܟܬܳܐܒ/ كتاب ¬ ܟܬܳܐܒܳܐ/ الكتاب). فإنّ انعدامها يصعّب على ناطقي تلك اللّغات القيام بعملٍ فكريّ يتطلّب مجهودًا على المستوى العقليّ المجرّد، فلا يضعون لأنفسهم ولمجتمعهم علومًا تجريديّةً، لأنّ نمط تفكيرهم تمّ احتواؤه في حدود المعرفة العمليّة. لذلك لا يمكننا التّكلّم عن المعجزة الإغريقيّة “Greek Miracle”، أي ما حدث في اليونان القديمة من تطوّرٍ للعلوم والفنون، من دون التّطرّق إلى واقع اللّغة اليونانيّة القديمة وتركيبها اللّيّن الذي ساعد ناطقيها على توليد ألفاظٍ جديدةٍ لازمت تطوّر المجتمع الإغريقيّ في المدينة “Polis”، والواقع أنّ هذه المصطلحات الفلسفيّة الحديثة آنذاك لم يوجدها الفلاسفة من العدم ex nihilo، بل كان أساسها وأصلها في الدّين الإغريقيّ القديم، كما بيّنها العالم والمؤرّخ كورنفورد “F. M. Cornford”، فجاء هؤلاء الفلاسفة وبنوا عليها ثمّ أضافوا على معانيها دلالاتٍ أخرى، وهذا ما يشير إلى أنّ الواقع اللّغويّ هيّأ العقل اليونانيّ ومكّنه من احتواء المفاهيم الجديدة واستيعاب الأفكار المختلفة قبل انفتاح التّجّار اليونانيّين على ثقافات الشّعوب المجاورة لبلادهم. من هنا نستطيع أنْ نفهم صعوبة التّفلسف باللاّتينيّة مثلًا، والعمل الجبّار الذي قام به سيسرو “Cicero” في نقل الفلسفة من اللّغة اليونانيّة التي تحتوي على أدوات التّعريف (“Ο” / “Η”) إلى اللّغة اللاّتينيّة الخالية منها. وعلاوةً على ذلك، إنّ خلوَّ اللاّتينيّة من أدوات التّعريف والتّنكير يُفسّر سبب ابتعاد الرّومان عن الفلسفات التي ترتكز على الكلّيّات “Universals” (الإنسان، الحيوان، الجماد) والجزئيّات “Particulars” (سمير، أرنب، طاولة) أو الماهيّات “Essences” (جواهر الأشياء، الأشياء في ذاتها)، واتّجاههم نحو الفلسفات التي تعتمد على الممارسة الأخلاقيّة والسّياسيّة العمليّة كالرّواقيّة “Stoicism” والأبيقوريّة “Epicureanism”.
يقول فتغنشتاين “Wittgenstein” في رسالته “Tractatus Logico-philosophicus”: “حدود لغتي هي حدود عالمي”، وهذه الملاحظة الوصفيّة تدعمها الكثير من الحقائق العلميّة، إذ قد تؤدّي النّاحية المعجميّة للّغة في تأطير حدود المعرفة العقليّة لمتكلّميها، لذلك نعثر عند بعض قبائل أفريقيا على لغاتٍ يغلب عليها أفعال الحركة وألفاظٌ تتعلّق بالسّحر والماورائيّات ما يعكس عقليّةً أنتجت لغتها ركودًا فكريًّا. وإذا لاحظنا تاريخ اللّغة العربيّة وقارنّاه مع تاريخ العرب لبدت لنا الصّورة أقلّ إبهامًا ممّا هي عليه للمؤرّخين، فالشّعر العربيّ خيرُ دليلٍ على سلطة المعنى في توجيه الإدراك وما ينتج عن الإنسان من ابتكارٍ وإبداعٍ (أي الفنّ). فالقصائد العربيّة وخصوصًا الأشعار المكتوبة ما قبل الإسلام حتّى العصر الإسلاميّ لا تحتوي على ألفاظٍ تتخطّى الجَمَل والنّاقة، والأطلال، والحروب القبليّة. وما نُسِب من وصفٍ متجدّدٍ إلى شاعرٍ جاهليّ كان ويكون، بلا ريبٍ، منحولًا. لذلك لا نعثر على رؤيةٍ جديدةٍ في القصيدة العربيّة القديمة، ولا على لفظٍ ثوريّ منحوتٍ من صلب اللّغة العربيّة إلاّ وكان مستعارًا من اليونانيّة، وعوضًا عن ذلك تبرز ستّة آلاف لفظةٍ للجَمَل.
أمام هذه الحتميّة اللّسانيّة “Linguistic Determinism” ألا يستطيع الإنسان أنْ يقوم بنوعٍ من حرّيّة الاختيار في توليد ألفاظٍ بمعانٍ تخرج عن هذه الحتميّة والسّياق الزّمكانيّ للغته؟ ألا يمكنه أنْ ينهض بإدراكٍ جديدٍ ورؤيةٍ مميّزةٍ للعالم تخرج عن العرف الذي وضعته له لغته الأمّ؟
إنّ القراءة المتمعّنة لتاريخ الحضارات والشّعوب تعلّمنا أنّ بعض الأفراد يستطيعون أنْ يتخطّوا هذه الحتميّة اللّغويّة المفروضة عليهم منذ نشأتهم، فيشيدون نمطًا جديدًا يتّخذ شكل ثورةٍ دينيّةٍ، فكريّةٍ، أو سياسيّةٍ، وهؤلاء الأفراد المميّزون هم الأنبياء، والفلاسفة، وأنصاف الآلهة. إنّهم يشكّلون البطل “Hero” الذي نادى به كارلايل “Carlyle” في كتابه “On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in history” هذا الفرد المتميّز الذي يأتي بمفاهيمَ جديدةٍ، فيحرّك التّاريخ الذي، بحسب كارلايل، ليس سوى سيرِ حيوات الأبطال. لكنّ الاعتراض على هذه النّظريّة يكمن في أنّ القوّة الفرديّة محدودةٌ ضمن قوانينَ معيّنةٍ، أوّلها القوانين اللّغويّة، أي القواعد، لذا من المستحيل تجاهل سلطة المعنى، أضف إليها وهْمَ الحرّيّة المطلقة لذلك الفرد المتميّز.
هكذا مثلما تأطّر القافية كلّ بيتٍ شعريّ كذلك تفعل اللّغة بالإدراك البشريّ، وإنْ عثرنا على بعض التّغيّرات النّمطيّة عند بعض متكلّمي لغةٍ معيّنةٍ فهذا لا يعني الاستقلال التّامّ والمطلق عن سلطة المعنى المفروض اعتباطيًّا على الفرد، فمن دون شكّ أنّ حرّيّة الاختيار تلعب دورًا في تحديد المعاني المعطاة للألفاظ فتصبّها في سياقٍ خاصّ، إنّما هذه الحرّيّة نفسها مشروطةٌ ضمن قواعد دقيقةٍ، كالشّطرنج لا يخرج اللاّعب، أي المتكلّم، عنها. إنّ سلطة المعنى تضعنا تحت وزر معضلةٍ أخلاقيّةٍ جديدةٍ: كيف يؤثّر البعد اللّغويّ على إدراك الجماعات للقضايا الأخلاقيّة من الإبادة الجماعيّة، والتّطهير الإثنيّ، والتّمييز العنصريّ، وصولًا للإجهاض، والقتل الرّحيم، والتّعديل الجينيّ؟ فهل تستطيع سلطة المعنى أنْ تغيّر إدراك البشر للمفاهيم الأخلاقيّة الثّابتة؟
قد يعجبك أيضًا: هل يمكن أن يتحدث العالم بلغة واحدة؟
المراجع - فرنان، جان بيار، أصول الفكر الإغريقيّ، ترجمة جمال شحيّد، هيئة البحرين للثّقافة والآثار: المنامة، ط 1، 2016. - فريحة، أنيس، نظريّات في اللّغة، دار الكتاب اللّبنانيّ: بيروت، ط 2، 1981. - كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الأوروبيّة في العصر الوسيط، دار القلم للّطباعة والنَّشر والتّوزيع: بيروت _ لبنان، لا ت. - كوبلي، بول، دليل راوتليدج لعلم السّيمياء واللّغويّات، ترجمة هبة شندب، المنظّمة العربيّة للترجمة: بيروت، ط 1، 2016.
References - Carlyle, Thomas, On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in history, Cosimo Classics: New York, 2010. - Cornford, F. M., From Religion to philosophy a study in the origin of western speculation, Dover publications: New York, 2004. - Hanna, Sami A., and others, Dictionary of modern linguistics English-Arabic, Librairie du Liban Publishers: Beirut, 1997. - Wittgenstein, Ludwig, Tractatus Logico-philosophicus, translated by C. K. Ogden, Cosimo Classics: New York, 2007.