مخرج الحلم البعيد: “أخذت الأبطال في رحلة بعيدة لذواتهم”
حوار صحفي مع مروان عمارة
* شرم الشيخ واحدة من أكثر النقاط المؤمّنة في مصر من قبل الثورة وحتى الآن. أي عامل هناك من المفترض أنه يحمل بطاقة هوية موازية للبطاقة الشخصية، لا يمكنه دخول المدينة بدونها. إذا قررت أن تستقل حافلة وتذهب لهناك، أعتقد أنه سيتم توقيفك وتفتيشك في الطريق ما بين 6-9 مرات، ستضطر للنزول من سيارتك والصعود إليها مرارًا وتكرارًا. سيكون هناك متاريس وكلاب. سقوط الطائرة الروسية كان ضربة في مقتل. يمكن أن تحدث في أي مدينة، إلا شرم الشيخ.
هكذا وصف مروان عمارة مخرج فيلم “الحلم البعيد” المدينة التي صوّر بها أول فيلم طويل له.
أذهب لألتقي مروان عمارة أمام سينما أمير بمدينة الإسكندرية، التي يقيم فيها حاليًا مع زوجته وابنته الرضيعة التي وُلدت من فترة قريبة أثناء المراحل المونتاجية الأخيرة من فيلمه. ملامح مروان أصغر بكثير من أن يكون زوجًا وأبًا، لكنها تتماشى مع مخرج شاب طوّع السينما للتعبير عن أحلام جيل بأكمله، جيل اجتاز تجربة الثورة والأحلام الضائعة. هذه هي المصطلحات التي استخدمها مروان في مكالمتنا الهاتفية الأولى.
يقول مروان في طريقنا للكافيه:
أتعامل مع كل فيلم أنخرط فيه وكأنه فيلمي الأخير. قطعًا هناك تحدٍّ كبير، والربح غير مضمون، لكن حتى الواقفون خلف سينما الشباك غير متأكدين من أجر الغد، وصناع الدراما يتناقص رصيدهم على الشاشات مع كل موسم. أعتقد أن صناعة السينما على مستوى الوطن العربي ليست في أفضل حالاتها، وهذا طبعًا يتعلق بالأزمة الاقتصادية الراهنة. أي شيء غير ربحي في دولة لديها أزمات سيظل على الشفير دائمًا. انصرفت للكسب من التدريس السينمائي، ثم وجدته شيئًا غير جيد أن أقتات على أحلام جيل جديد.
من هو مروان عمارة:
مخرج مصري من حي المعادي بالقاهرة، يبلغ من العمر 31 عامًا، حاصل على بكالوريوس فنون تطبيقية قسم تصوير فوتوغرافي وسينما وتليفزيون. أنجز دبلومة بأكاديمية فنون وتكنولوجيا السينما التي أسسها رأفت الميهي، ليتخرج منها عام 2011. عمل بالتدريس السينمائي في الجامعة الألمانية بالقاهرة بدوام كُليّ، ثم في الجامعة الأمريكية بدوام جزئي. أنجز قبل “الحلم البعيد” ثلاثة أفلام تترواح مدتها بين 35-50 دقيقة، جميعها يغلب عليها الطابع التسجيلي التجريبي، مع اقتناص عناصر من السينما الروائية؛ تلك التوليفة التي تُسمى في الحقل النقدي بـ”الديكودراما”.
– تتعامل مع كل فيلم على أنه فيلمك الأخير، هل تظن وضع الصناعة الحالي، مثل شريط الصوت في فيلم، قد ينقطع عن فمك فجأة؟
* لا أصنع فيلمًا إلا إذا كان في جعبتي ما يمكنني قوله. وأعلمُ جيدًا أن شيئًا كهذا يستنزف من طاقتي ووقتي الشهور والسنين. ما خرج مني لا يمكن أن يعود، أو على الأقل لن يخرج مرةً أخرى على نفس الشاكلة. لست على دراية إن كنت سأكرر التجربة أو شيئًا يشبهها أم لا، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار تكلفة فيلمي الأخير التي تخطت الـ6 مليون جنيه مصري، أي 350 ألف يورو. أعتبر نفسي محظوظًا وسط بقية زملائي من السينمائيين المستقلين الذين يديرون أفلامًا كاملة بدون مليم واحد.
(الحلم البعيد تجربة سينمائية مشتركة بين صناع مصريين وألمان. تشارك إخراجه مع مروان ألمانية هي يوهانا دومكي. يدور الفيلم حول الشباب الذي يهاجر من مدن مصر كافة ليلتحق بفوج العمالة بشرم الشيخ، مدينة السلام التي عرفها الشعب كموطن للرئيس مبارك ومعقل المناوشات الإيروتيكية مع الأجانب. في توقيت يتزامن مع حالة الخمول السياحي التي وقعت هناك بسبب أوضاع البلد غير المستقرة والأحداث الإرهابية من بعد ثورة 25 يناير، وعلى رأسها كارثة الطائرة الروسية. تصنيف الفيلم: تجريبي/وثائقي/درامي. بدأ التحضير له من نهاية 2012، وذهب فريق التصوير للمدينة أول مرة عام 2015. استغرق تصويره خمسة أسابيع فقط، وهي مدة تقترب من مهلة الفيلم الروائي أكثر منها للوثائقي).
– لم تذهب لمدينة شرم الشيخ قبل أن تصنع فيلمك، فما الذي أوحى إليك بالفكرة غير المطروقة، والتي ليس لها مرجع فني أو تتبع لعمل سابق؟
* تكلفة السياحة في شرم الشيخ ألفناها دومًا عالية، وبالتالي تمثلت لنا السياحة نحن القاهريين في الساحل الشمالي والإسكندرية. ظلت شرم مدينة خرافية نسمع فقط عما يدور فيها. في 2012، ذهبت زوجتي، وكانت وقتها خطيبتي، لشرم الشيخ مع أمها. زوجتي في الأساس مصورة فوتوغرافية، ومن هناك كانت تهاتفني فيتخلل مكالماتنا سردها لتفاصيل تراها بعينيها عن معيشة العاملين هناك الذين يدركون جيدًا كيف تخنقهم المدينة بعجائبيتها، ومع ذلك يبقون فيها لا لشيء سوى تكسُّب العيش، وفي سبيل ذلك هم على استعداد أن يرقصوا عراة، أو يدهنوا أجسامهم بالورنيش، أو يدلكوا أجسام الأجانب، أو يصبّوا المشروبات الكحولية على البارات، أو يؤدوا حركات بهلوانية على حمامات السباحة لتلطيف الجو وإضفاء المرح على النزيل الأجنبي. ناهيك أن أمورًا كثيرة من هذه تعتبرها العمالة المهاجرة من الصعيد والريف وأحيانًا العاصمة نوعًا من الرذيلة، لكنهم يمارسونها كي يعيشوا.
يواصل مروان سرده:
* سبق “الحلم البعيد” تجربة مشتركة أخرى مع يوهانا، هي فيلم “كروب”، الذي أُدرج ضمن قائمة أفضل الأفلام المُنجزة عن ثورات الربيع العربي. بعدها فكرنا في مشروعنا التالي، وكانت أمامنا مدينة شرم الشيخ، وهي بقعة سياحية داخل دولة إسلامية حكمها في وقت ما الإخوان المسلمون، وحتى الآن هي دولة يتحكم الدين في مجريات أمورها بنسبة 90%، سواء للمسلمين أو المسيحيين، فهناك حالة التزام بشكل عام. الأمر الذي شكل فجوة درامية: وجود مدينة لها طابع سياحي غير متناغم بل يبدو شاذًّا بالنسبة للثقافة الدينية المحافظة المهيمنة على الشعب.
* بشكل عام، الأجنبي القادم لديه صورة نمطية عن هؤلاء العرب المصريين الذين يقابلهم من لحظة وصوله المطار وحتى القائمين على نظافة غرفته في الفندق، كذلك المصري يملك مخيلة فانتازية عن ذلك السائح الذي يملك كل الدولارات ولا يملك قيمة دينية واحدة. الفيلم بمقدوره أن يعبث بتلك القوالب النمطية، سواءٌ عند المتفرج العربي أو الأجنبي، وأن يصل بالاثنين لنقطة التقاء يرون فيها شيئًا من الداخل.
* الكريسماس الماضي قضيته أنا وزوجتي في ألمانيا، كنا في السوبر ماركت ووجدناهم يوزعون علينا كتالوجات سياحية تتضمن أهم المزارات في كافة أصقاع العالم، وضمن القائمة كانت مصر. تخيل أنه يمكن للسائح الألماني أن يقضي أسبوعين فقط بـ300 يورو أي ما يعادل 6 آلاف جنيه مصري شاملة مصاريف الطيران والإقامة. أنا كمصري لو قررت أن أقوم بنفس الرحلة داخليًّا من الإسكندرية أو القاهرة لشرم سأدفع أكثر. ما لا يعرفه المصريون أن الأوروبيين الذين يأتون لشرم الشيخ هم الطبقة المتواضعة ماديًّا هناك. وللمفارقة، بمجرد أن يصل ذلك المواطن الأوروبي البسيط وطننا، وربما يكون في بلده مجرد عامل، يُقابل هنا على أنه ثري مهيب. ويعزز ذلك الشعور لديه مقدار الاحتفاء الذي يتلقاه ممن يخدمونه وهم يتلقون منه مجرد يورو واحد كبقشيش، بينما ذلك اليورو لا يعني له شيئًا.
– يمكننا القول أن شرم الشيخ استحدثت هرمًا طبقيًّا مقلوبًا!
* هو كذلك بالفعل، زد على كل النقاط السابقة أن بيئتي المنزلية تركت ترسباتها لديّ. كان والدي يعمل محاسبًا بفندق “نايل هيلتون”، وبالتالي كنا من أسرة أرستقراطية ودخلنا مدارس أجنبية، ولما حدثت في بداية التسعينيات الضربات الإسلامية في الأقصر والمتحف المصري، تأثرت منظومة بيتنا وانتقلنا لمدارس أخرى حكومية، ثم تعود وتتحسن أوضاع البلاد فننتقل لمدارس لغات. وهكذا، نشأت في منزل صغير يتأثر بالمناخ السياحي العام.
وقعت أكبر كارثة في تاريخ الطيران الروسي يوم 31 أكتوبر من العام 2015 بتحطم طائرة Airbus A321 التابعة لشركة “كوغاليم أفيا” فوق شبه جزيرة سيناء، ما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها، بينهم 217 راكبًا و7 أفراد الطاقم. وكان تنظيم داعش قد أعلن مسؤوليته عن الكارثة.
المصدر: RT
– تتحدث عن الصور النمطية أو ما يُعرف في لغة الفن بالـ”ستريو تايب”، لكن “الحلم البعيد” أطاح بكل الأنماط جانبًا، والغريب أن أفلام المهرجانات لا تدخر جهدًا في تسليط الضوء على تلك المواد المحلية اللذيذة بالنسبة للمتفرج الأجنبي. فقبل عرض فيلمك في مصر بعدة أشهر، سبقه عرض فيلم آخر هو “يوم الدين”، لكنه اعتمد بشكل كبير على الصورة النمطية للمصريين بآثارهم الفرعونية وعشوائيتهم وبيروقراطيتهم.
* أنا ويوهانا قادمان من خلفية فنية وليست تجارية. كنا على وعي بالستريو تايب. لم نكن نطمع في البيع. وضعنا الأخلاقيات في المقام الأول، وآخر ما فكرنا فيه هو استغلال محنة شخص ما في التكسب من الجماهير أو نوال جائزة. حتى فيلمنا السابق “كروب” والذي يخص الثورة لم يرتفع صوتنا فيه ولم نركز على الهتافات الحنجورية. في “الحلم البعيد” لا نقدم شيئًا جديدًا من حيث المحتوى، ولكن المعالجة تصنع فارقًا. كان عليّ أن أنحّي جانبًا أي كليشيه أثناء التعامل مع الشخصيات والمدينة، طالما أريد صنع فيلم مُرضٍ لي ولمشاهديه. الفيلم عُرض في أمريكا وألمانيا ومصر، ودائمًا كان يترك خلفه نقاشات وليس أحكامًا. المصريون بالذات تلامسوا مع شخصيات الفيلم، وقالوا أن كثيرًا من الجُمل الحوارية بدت وكأنها خارجة من أفواههم هُم. أعلم أن فيلمي لن يستمر في الصالات فترات طويلة، سواء في مصر أو خارجها، لكن أي شخص يريد مشاهدة ما يتخطى المتوقع، أعتقد أن “الحلم البعيد” سيمنحه ما يريد.
– كان في إمكانك أن تصنع مجرد فيلم وثائقي، لكنك تخطيت هذه النقطة وجعلت منه مادة تجريبية درامية!
* ثالوث أي فيلم يتكون من: الموضوع، صانع العمل، والمعالجة، وضْع الثلاثة على خط واحد يصنع فيلمًا معقولًا؛ هذا ما أقوله لطلابي عادة. كيف ستصيغ أيقونتك بعد أن أمسكت بالفكرة؟ هذا هو السؤال الذي يؤرق أي فنان. جميعنا اجتزنا فكرة أن نكون في وقت من الأوقات سائحين في بلد لا نعرفه. تدور حوارات دومًا بين الضيف والعامل، بعضها يكون حقيقيًّا والبعض الآخر لا. ربما أخبرك أنني من روما بينما أنا من نابولي. حينما ذهب فريق العمل لشرم الشيخ فوجئ بكم رهيب من تجارب الناس، هناك الذين لم يعتادوا الحكي، ومع ذلك، كان لديهم فيض من القصص مستعدين كل الاستعداد أن يدلقوها. يكفي أن تجالس أحدهم لمدة ساعة على المقهى كي تسمع منه ما لا يعرفه عنه أهله المغترب عنهم، لكني في النهاية لست متأكدًا من مدى مصداقية ما يرويه.
ثانيًا، كان الأمر في البداية يأخذ شكل الدردشة، لكنه حينما ينتقل لمرحلة الجدية والوقوف أمام الكاميرا يبدؤون في التراجع والتفكير في أهاليهم وما يخفونه عنهم بخصوص حياتهم المهنية في شرم الشيخ. أضف إلى ذلك تخوفاتهم من الكاميرا أو علاقة أكل عيشهم بما سيقولونه علانية.
* كان انطباعنا الأول كصناع للفيلم، حينما ذهبنا أول مرة للمدينة، أنها تأخذ شكلًا قريبًا من خشبة المسرح؛ كل شخص يعمل هناك يؤدي دورًا ما بعيدًا كل البعد عن حياته الشخصية ومعتقداته الأخلاقية والدينية، ولا يجبره على البقاء إلا تزويد أهله بالمصروف الشهري أو الصرف على دراسة إخوته أو تزويج أخواته. وما إن يترك مكانه ويعود لغرفته حتى يتلامس مع ذاته مرة أخرى. كذلك الأجانب، صاروا يحبون دور الثري الذي يهرع خلفه خادموه ليشموا رائحة العملة الصعبة من جيوبه. إذًا الكل هناك يمثل، ونحن غير متأكدين مما سيقوله الممثلون، وهم بدورهم خائفون من كل كلمة يتفوهون بها. فلم يبقَ أمامنا سوى أن تصير تجربتنا التوثيقية ذات طابع درامي بحت؛ وبذلك نحلق فوق فخ المصداقية، ويحلق معنا شركاؤنا الممثلون في حالة أن الحقيقة لم تكن الشيء المحبب في بعض لحظات تقديمهم لواقعهم.
– هناك فيلم “في الليل يرقصن” نفّذته مخرجة كندية في 2010 عن راقصات الأفراح الشعبية، واستعانت فيه بالراقصات الحقيقيات. ويقول يوسف شاهين: أصدق ممثل هو آخر شخص جرّب الوقوف أمام الكاميرا! هل ما فعلته كان رغبة في إدهاش المتفرج أم محاولة للاستيلاء على تصديقه، كونك تستعين بالشخصيات الحقيقية كي تمثل حياتها؟
* على مدار تاريخ السينما، اعتمد مخرجون كثيرون على هواة لتمثيل أفلامهم. فيلمنا ليس الأول طبعًا. ولو كنت استعنت بممثلين محترفين يؤدون القصص لم يكونوا ليخرجوها بنفس هذا الصدق. كان لدينا تحدٍّ أن تحكي هذه النماذج ما لديها. أن يقول أحدهم بمنتهى الأريحية أن لديه زوجتين إحداهما أجنبية وكبيرة في السن تغدق عليه الأموال وتمنحه سيارة فارهة، كأنه نوع من العلاج النفسي، أو نوع من التصالح. بدأنا بالبحث عن نماذج عديدة، مع الاشتراط أن يكونوا من شرم ويعملوا بالسياحة، يملكون قصصا ثرية واستعدادًا يضاهي قوتها كي يحكوها.
– وكيف تمت عملية الانتقاء الأخيرة؟
* قبل التصوير بعام ونصف العام ذهبنا للمدينة وأجرينا Casting Call فأجّرنا مكانًا مهجورًا لاستقبال الناس. طبعنا إعلانات وتركناها في كل مكان. استعنّا بعربة نصف نقل زودناها بمكبر صوت أعلنّا من خلاله استعداداتنا لتصوير فيلم. وفي يوم واحد حصلنا على 250 شخص. جعلناهم خمسين ثم ثلاثة عشر. وفي النهاية تم الاستقرار على سبعة نماذج.
– لكنك استعنت بمدرب تمثيل هو سلام يسري. في أي مرحلة اتخذت هذا القرار، وما الذي دفعك إليه؟
* أنا ويوهانا احتكاكنا بالسينما الروائية طفيف. لم نرغب في تمثيل مبهر ولكن تمثيلًا صادقًا ومعبرًا. الأصعب من أن تمثل دورًا هو أن تمثل حياتك الشخصية بعيوبها ونقائصها. حينما بحثنا عن يسري لم يكن بحثًا عن مجرد مدرب تمثيل. نريد شخصًا يتواصل مع هؤلاء الناس بكل الطرق الممكنة لاستخلاص تجاربهم في شكل أدائي. جعلناهم يغنّون مشكلاتهم حتى ينتهي بهم الأمر أن يروها لا تستحق كل هذه الرهبة. ليس هناك أي دراما أو تكلف. قمنا بتشتيتهم عن صعوبات التمثيل بالتركيز على نغمة أصواتهم مثلًا. يحكي جاك نيكلسون أنه أحيانًا كان يضع زلطة داخل حذائه حتى تلهيه عن التفكير في صعوبة الدور الذي يؤديه أمام الكاميرا. سلام يسري لم يخبرهم كيف يمثلون بقدر ما دربهم كيف يألفون ذواتهم.
– ذكرت أنكم أجّرتم مكانًا في المدينة بمجرد ذهابكم لتجروا فيه تجارب أداء الممثلين، هل كان الدعم المالي متاحًا من البداية؟
من سبتمبر 2012 وحتى مطلع 2014، لم نملك جنيهًا. كان لدينا أنا ويوهانا بعض الأفكار. قمنا بزيارات استطلاعية فردية للمدينة، حاولنا أن نلملم أطراف الحدوتة معتمدين على ما رصدناه في زياراتنا المتقطعة. وكنا نملأ استمارات ترشح في ورش تطوير سينمائية ومهرجانات عبر “تريلر” قصير يروي إرهاصات القصة للجهات التي نرغب في دعمها لنا. التريلر لم تتجاوز مدته الدقيقة، ولم يتضمن أي شخصيات؛ بل شريط صوت لمقاطع تسجيلية حصدناها، ركبّناها على مناظر من طبيعة المدينة الكوزموبوليتانية التي تجمع الجِمال بمانيكانات الديناصورات، فأسميناها “ديزني لاند حينما أصابها الجنون”. والمدهش أننا حصلنا على معظم الأموال من تلك الدقيقة الوحيدة، فكان أول دعم من مؤسسة “آفاق”، ثم تبعه دعم مؤسسات أخرى من أمريكا وكندا.
– استعنت بفريق عمل من استوديو “فيج ليف” بالإسكندرية، كيف كانت تجربة السفر الشاقة لهذا الفريق من الإسكندرية لشرم الشيخ، واستقرارهم لفترات طويلة في مدينة سياحية لغرض غير سياحي ومُتعب، خاصة أنهم يقطعون كل هذه المسافة للعمل على فيلم ليس له سيناريو واضح، وربما لا يحظى بمشاهدة عالية؟
اختيارنا لاستوديو “فيج ليف” أتى متأخرًا. كان هناك منتجان مصريان قبله لم يستمرا معنا، حتى استقر الأمر على “مارك لطفي” بترشيح مني لـ”رومان رويتمان” المنتج الألماني المشارك في الفيلم. مارك في الأساس مخرج وشاعر، وله رؤية فنية مغايرة، والأهم أنه كان يملك قدرة تنفيذية عالية ستخولنا للقيام بما نريد. لا أعتقد أنه كان له مُنافس في مصر وقتها. وانتهى الأمر بالفيلم بأن يصير له مخرجان، أحدهما مصري والأخرى ألمانية، وأيضًا منتجان أحدهما مصري والآخر ألماني. والحق أن فريق “فيج ليف” كان يتقافز لتحقيق أقصى ما يرضي تخيلاتنا في المهلة المحددة للانتهاء من التصوير ومغادرة المدينة، مع العلم أننا كنا دائمي تغيير أفكارنا وخططنا، وهذا يشكل صعوبة لوجيستية لطاقم العمل حينما يبذلون مجهودًا كبيرًا دون إلمام بكل مجريات الأمور. كل ليلة، كنا نجتمع أنا ويوهانا وسلام يسري ويعقوب مدير التصوير، ونسأل أنفسنا السؤال إياه: ما الذي نريد التقاطه بكاميراتنا في تلك المدينة الغرائبية غدًا؟
– ربما يتحملك طاقم العمل، لكن كيف مرر فريق الممثلين غير المحترفين فكرة فيلم ليس له سيناريو أو برنامج تصوير مفصل؟
اعتبروا الأمر فرصة لا يمكن تفويتها، حسب ظني. أيضًا في ذلك الوقت، كانت السياحة خاملة وأشغالهم لا تتطلب وقتًا كبيرًا منهم. حينما طلبوا السيناريو مثل أي ممثل محترف أعطيناهم ما يُعرف بـ”تتابع مشاهد”، وهو وصف مختزل لطبيعة كل مشهد من حيث ممثليه وفكرته الرئيسية. ثم وضعنا لهم جدولًا صوريًّا ليرتبوا عليه مواعيدهم، مع تنبيههم إلى أنه قابل للتغيير دومًا. ولا ننكر أن التنسيق الودي بينهم لعب الدور الأكبر.
– هل يعني كلامك أنهم تعاملوا مع الفيلم على أنه مشروع خاص بهم؟
أعتقد نعم! لقد ورطناهم معنا إلى حد كبير، رغم أنهم أتوا من خلفيات بعيدة عن الوسط الفني. والغريب أنهم تماهوا معنا نحن الصناع، وأدركوا أثناء مراحل التصوير أنه ليس فيلمًا شعبويًّا عاديًّا ستتهافت الجماهير أمام شبابيكه يوم العيد. ولإقحامهم في الحالة، اقترح أحد المنتجين التنفيذيين أن نعرض عليهم “ميكروفون” كنموذج للفيلم الذي يبدأ بلا سيناريو صارم، ويعتمد على الارتجالية والاشتباك مع الحدث في موقع التصوير. وكانت المفاجأة أنه حينما أوشكنا على الانتهاء من أيام العمل أصابتهم خيبة أمل.
– هذا ليس فيلمًا لمخرج واحد بل اثنين، ويوهانا شريكتك غير عربية، هل أعاق هذا عملية الانسجام والحكي بين الممثلين وبينكم؟
كانت يوهانا قريبة من الفتيات بحكم طبيعة الجندر، أما أنا فتعاملوا معي على أني مروان ابن البلد الذي لن يؤذيهم ويشهّر بمشاكلهم. وبعضهم رأى أن المصريين أكثر ميلًا لإصدار الأحكام الجائرة على بعضهم بعضًا بصورة أوسع مما قد يفعله الأجنبي، ذلك الأخير الذي يعتاد السمع أكثر من الحديث، ويحب أن يسألك أكثر مما يتحدث عن نفسه. ولا أنكر أن البعض الآخر فضّل التعامل معي أنا وسلام مدرب التمثيل. وفي النهاية، هذا التضارب في الثقافات والشخصيات صنع ما فاق الستريو تايب.
– شرم الشيخ، بحكم أنها كانت استراحة للرئيس مبارك ومركزًا مُستغلًّا للتعاملات المستبيحة مع الأجانب، أخذت صورة معينة في أذهان المصريين، هل شغلتك هذه الصورة أثناء التحضير للفيلم؟
كانت الشخصيات مثار اهتمامنا أكثر من المدينة. ويخيل لي أنه ليس فيلمًا عن شرم الشيخ، وإنما عن الذين هاجروا من كل مكان في مصر ليكسبوا عيشهم في شرم الشيخ. كان همي الأول قصص هؤلاء والامتزاج بتفاصيلها التي في الأغلب لا يعرفها أقرب الناس إليهم، وعلى رأسهم أهلهم. خاصة أن الأمر تخطى مجرد علاقات يقيمونها مع أجانب، وصار متعلقًا ببقائهم أو عودتهم لمُدنهم في ظل السياحة المتردية التي لم يكن لهم ذنب فيها. بعض الأمور التي حكوها كانت أكثر تعقيدًا، وكانت لتُحدث فرقعة أكبر، لكننا تعمدنا حذفها لحمايتهم.
– هل قرر أحدهم أن يغير مساره المهني ويمتهن التمثيل؟
يضحك: أعتقد جميعهم.
– كيف تقبلوا صورتهم حينما رأوا الفيلم في هيئته الأخيرة وشاهدوا أنفسهم بالحجم الكبير على شاشات السينما والمهرجانات؟
شاهدوا الفيلم لأول مرة في مهرجان الجونة السينمائي بعد سنة وتسعة أشهر من انتهاء أيام التصوير. لم يكن لديهم أي تصور عما سيرونه؛ لأنه خلال المونتاج كان يتم تغيير الحبكة عشرات المرات، وأحيانًا يصل الأمر لاستبعاد أحداث أو شخصية معينة. استمرت عملية المونتاج لمدة سنة كاملة، خمسة أيام في الأسبوع 8 ساعات يوميًّا. ليلة أول عرض كانوا خائفين طبعًا. كانت صدمة بالمعنى الجيد حينما وجدوا أنفسهم أخيرًا على الشاشة الكبيرة أمام المشاهير والنقاد. لم نحصل على جائزة واحدة في ذلك المهرجان، فوجدتهم يتعاملون مع الأمر بمنحى شخصي، ويتساءلون لماذا لا يقتنص فيلمنا جائزته من لجنة التحكيم هذه؟! ثم شاهدوه مرة ثانية في مهرجان القاهرة، وهذه المرة كانوا تصالحوا مع أنفسهم ومع مشاكلهم بقدر أكبر، وأعتقد أن هذا هو أكبر مكسب وأحسن شعور حققته لنفسي من وراء الفيلم.
– ألم تواجهوا أي صعوبات مع الجهات الأمنية أثناء تصوير فيلم بهذه الحساسية؟
* إذا أردت التصوير في أي مكان بمصر، بما فيهم هذا الكافيه الذي نجلس به، يتطلب الأمر منك استخراج تصاريح من وزارة الداخلية، إلا سيناء. فحتى يتسنى لك التصوير هناك، نظرًا لظروفها الأمنية، تحتاج لتصاريح من وزارة الداخلية وأيضًا وزارة الدفاع، ولا يمكن الشروع في العمل بتصريحات جهة دون أخرى. تمثلت مشكلتنا الكبرى في أننا لا نملك سيناريو بالمعنى الواضح، وهذه الجهات تحتاج قبل أي شيء ورقًا تقرؤه وتمنحك على أساسه موافقة مبدئية للتصوير، مختلفة عن موافقة العرض في السينمات. كانت هناك صعوبة في تصنيف الفيلم، والحق أنها منحتنا نقطة لصالحنا، وفي أحيان أخرى أثارت حولنا الريبة. إذا كان فيلمًا تسجيليًّا، فما الذي تريد قوله بالضبط للعالم عن مصر؟ وإذا كان روائيًّا، فمن هم أبطال هذه القصة؟ يمكنني القول أننا تعطلنا بعض الشيء نظرًا لطبيعة الفيلم، لكن لم يتم منعنا.
– كيف تلقت الرقابة الفيلم؟ هل كان المشهد قريبا من رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم التي أخبرتني أنك قرأتها؟ ألم يحذفوا أي مشهد؟
* ولا مشهد! أنقذني الحلم البعيد من اللجنة الكافكاوية التي تخص صنع الله إبراهيم. صحيح الفيلم ينطوي على مواقف انتقادية، لكنهم قد يرونها إيجابية. وهو غير مُوجَّه وغير مُحرِّض، ونحن لسنا سينمائيين نشطاء لهم أصوات عالية. لا أنتقد هذه النوعية من الأفلام، لكنها ليست المفضلة لي. الحلم البعيد كان أذكى من أن يكون بتلك المباشرة التي تورطه في مواقف تعطله.
– والآن وقد انتهى العمل على الفيلم وصار يُعرض في السينمات، يأتي الجزء الأصعب: الاستشفاء منه وتركه!
* أعتقد أن ميلاد ابنتي الذي تم في المراحل الأخيرة من المونتاج انتشلني بشكل كبير وأعادني للحياة مرة أخرى.
– “ستيفن سبيلبرج” يقول أن المخرج الذي بلا أُسرة يعيش حياة تعيسة! أيهما يضعك على عتبة الخلود: أن تصنع فيلمًا عالميًّا أم تنجب طفلة؟
* زوجتي مصورة فوتوغرافية، وأعتبرها أكثر موهبة مني. تجربة الإنجاب زَجّت بي في منطقة روحانية واقتصادية لم آلفها. حلول إنسان جديد على حياتك، بلا شك، يجعلك ترى أمورًا لم يكن من الممكن أن تدركها من قبل. الآن يمكنني أن أنظر للحلم البعيد وأقول له: “صرتَ أكبر، ويمكنك أن تمضي مشيًا، لم تعد في حاجة أن أظل بجانبك!”.