المخيخ هو “دماغك الصغير” – وهو يقوم ببعض الوظائف الهامّة جِدًّا
يمكن لدائرة دماغية مُحَدّدة حديثًا تربط المخيخ بمراكز المكافأة في أدمغة فئران أن تساعد العلماء في سبر أغوار مرض التوحّد والإدمان. بقلم ديانا كوون نشر في 18 يناير/ كانون الثاني 2019
لم يحظَ المخيخ (Cerebellum) -وهو بنية تشريحية معقدة تبلغ حجم قبضة اليد تقع في قاعدة الدماغ- بكثير من الاهتمام من قبل علماء الأعصاب لفترة طويلة من الزمن.
إذ اعتقدت الأوساط العلمية على مدى حوالي قرنين من الزمن أن المخيخ (كلمة لاتينية تعني “الدماغ الصغير”) -والذي يحتوي على نصف الخلايا العصبية في الدماغ تقريبًا- كان مخصصًا للتحكم في الحركة فحسب. إلاّ أنّ مجرى الأمور شرع في التحوّل في العقود الأخيرة، إذ كشف الباحثون عن تفاصيل بخصوص دور تلك البنية في الإدراك والمعالجة الانفعالية والسلوك الاجتماعي.
يمكن ملاحظة الاهتمام طويل المدى بالمخيخ من خلال دراسة ماري جان بيير فلورنس -وهو عالم فرنسي مختص في علم وظائف الأعضاء. استأصل فلورنس المخيخ من بعض الحمام فاكتشف أنها أصبحت غير متوازنة رغم أنها لا زالت قادرة على الحركة. واستنادًا إلى تلك الملاحظات، خلص فلورنس إلى أن المخيخ مسؤول عن تنسيق الحركات. يقول كامران خوداخا -وهو عالم أعصاب بكلية ألبرت أينشتاين للطب: “لقد ساهمت تلك الدراسة في اكتشاف مبدأ جديد ألا وهو مسؤولية المخيخ عن التنسيق الحركي؛ لقد تجاهلنا لسنوات عدة الدلائل التي أشارت إلى أن المخيخ يشمل وظائف أخرى.”
ظهرت واحدة من أقوى الأدلة على قدرات المخيخ الواسعة منذ حوالي عقدين عندما شرح جيريمي شمهمان -طبيب الأعصاب بمستشفى ماساتشوستس العام- أعراض المتلازمة المخيخية المعرفية العاطفية (متلازمة شمهمان) بعد اكتشاف التغيرات السلوكية مثل القصور في القدرة على الاستدلال المجرد والتنظيم العاطفي لدى الأفراد الذين تضرر المخيخ لديهم. منذ ذلك الحين، توَسّع نطاق هذه الدراسة؛ إذ أظهر التشخيص التصويري للأعصاب البشرية أن المخيخ يساهم في المعالجة المعرفية والتحكم العاطفي. كما وكشفت الأبحاث التي أجريت على الحيوانات أن المخيخ مهم للتطور الطبيعي للقدرات الاجتماعية والمعرفية. وربط الباحثون بين تغير وظيفة المخيخ وبين الإدمان والتوحد وانفصام الشخصية.
رغم أن العديد من هذه النتائج تشير إلى اضطلاع المخيخ بدور هام في السلوك المرتبط بالمكافأة والسلوك الاجتماعي، إلّا أن الباحثين كانوا يفتقرون إلى آلية عصبية واضحة لتفسير هذه الصلة. ويُظهِر بحث جديد -نُشر هذا الأسبوع في مجلة Science- أن المسار العصبي الذي يربط المخيخ بمنطقة الغشاء البطني (VTA) -وهو أحد مراكز المتعة الرئيسة في الدماغ- يمكنه التحكم في هاتين العمليتين. تقول جولي فيز -عالمة الأعصاب المعرفية في جامعة بيتسبرغ والتي لم تشارك في هذه الدراسة-: “إن هذه العملية تساعد في إبراز الدوائر العصبية التي تربط المخيخ بالمعالجة الاجتماعية و عملية المكافأة؛ أعتقد أنه أمر مثير حقًا.”
وقد ركز خوداخاه -أحد مؤلفي الدراسة- بحثه على دور المخيخ في التنسيق الحركي إلى أنْ عثر على دراسات حول وظائف الهيكل غير الحركية أثناء استعراضه للمنح المقدمة من قبل جامعته. وشرع خوداخاه- بعد أن أثارت علاقات المخيخ بحالات نحو التوحد والإدمان اهتمامه- في البحث في إمكانية الاتصال المباشر للمخيخ بمنطقة الغشاء البطني- وهي منطقة في الدماغ كانت تُربَط سابقًا بهذه الاضطرابات.
لقد أشارت أبحاث سابقة في مختبره إلى احتمال وجود روابط غير متوقعة بين المخيخ وأجزاء أخرى من الدماغ؛ خاصّةً أثناء فحص الدارات الدماغية المتسببة للتشنج -وهو اضطراب حركي يسبب تقلصات عضلية غير قابلة للسيطرة- لدى الفئران. اكتشف فريق خوداخاه اتصال المخيخ مباشرة بالعُقَدُ القاعِدِيَّة (التي تشمل وظائف الحركة والتحفيز والمكافأة) للسيطرة على الحركات المعقدة. كان يعتقد سابقًا أنه لتنسيق مثل تلك الحركات تتصل منطقتي الدماغ بعضها ببعض عن طريق القشرة الدماغية- المنطقة المسؤولة عن المهام العليا مثل التخطيط وصنع القرار. يقول خُوْداخَاه: “لقد أمدّنا ذلك حقًا بالمعلومات للشروع في البحث في تلاعُب المُخيخ المباشر بهياكل الدماغ الأخرى.”
للبحث في الصلة بين المخيخ ومنطقة الغشاء البطني، حقن فريق خوداخاه لأول مرة خلايا مخيخ فئران بفيروسات الحلأ (هربس) التي تعمل بمثابة حراسٍ متنقلين أثناء انتقالها عبر المشابك العصبية (الفجوات الدقيقة بين خلايا الدماغ) بينما تحمل هذه الفيروسات إشارات مُضاءة. وكشفت هذه التجربة عن وجود العديد من العصبونات في المنطقة الغشاء البطني (VTA) مضاءة بالعلامات المتوهجة، مشيرةً إلى أن الخلايا في هذه المنطقة الدماغية كانت تتلقى اتصالات مباشرة من المخيخ. بعد ذلك، باستخدام تقنية الجينات الضوئية (وهي طريقة تُمكِّن العلماء من تنشيط أو إيقاف خلايا معينة داخل مسلك عصبي بومضات من الضوء) برهن الباحثون على أن تحفيز الخلايا العصبية المخيخية يمكن أن ينشّط الخلايا في منطقة الغشاء البطني.
اختبر الفريق بعد ذلك قدرة الدائرة على أن تؤثر في السلوكيات الاجتماعية والمكافأة على حد سواء. ووجد الباحثون أن تحفيز هذا المسلك العصبي عبر توظيف تقنية الجينات الضوئية في الوقت الذي تستكشف فيه الفئران ربعًا واحدًا من العلبة المربعة تسببت في انبعاث نزعة قوية داخلهم تجاه تلك البقعة. كان العلماء قادرين أيضًا من خلال تفعيل هذا المسلك العصبي، على تكييف القوارض الليلية لدعم استكشاف مقصورة مشرقة، على الرغم من تفضيلهم الطبيعي للأماكن المظلمة. يقول خوداخاه: ” تشير هذه النتائج إلى أن هذا المسار العصبي يمكن أن يكون مرتبطًا بالسلوك الإدماني.” ويُشير إلى أن التجربة الأخيرة استخدمت بشكل مستفيض لدراسة إدمان المخدِّرات على الحيوانات، وتخطط مجموعته لمزيد من الدراسات. قد توفر تجربة مستقبلية الكوكايين للقوارض لمعرفة إذا كانت عرقلة المسار بين المخيخ ومنطقة الغشاء البطني يمكنها معالجة السلوك الإدماني.
كما واكتشف الباحثون أمرًا مثيرًا للاهتمام عندما أجروا تجارب مماثلة على فأر باستخدام ثلاث غرف متصلة ببعضها؛ إذ صادفت الفئران حيوانًا مألوفًا وضع في نفس الحجرة (أُطلِق عليها اسْم “الغرفة الاجتماعية”) تجاورها مقصورة فارغة أطلق عليها (“غرفة الكائن”). تقضي الفئران عادةً وقتًا أطول في الحيز الاجتماعي. ولكن بعد إلغاء تنشيط مسار المخيخ ومنطقة الغشاء البطني عن طريق توظيف تقنية الجينات الضوئية اختفت تلك النزعة، وهو أمر يعكس السلوك الذي يلاحَظ عادةً عندما يجري العلماءُ الاختبارَ نفسه على نماذج حيوانية مصابة بالتوحد.
ومن المثير للاهتمام أن الفريق اكتشف أن تحفيز هذه الدائرة لم يزِد من تفاعلات القوارض مع حيوان غير مألوف. ووفقًا لمجريي هذه الدراسة، فإن هذه الملاحظة تشير إلى أن المسار لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة السلوكيات المؤيدة للمجتمع؛ ولكنه بدلًا من ذلك يجعل الأشياء الجامدة (غير الحية) مكافأةً تضاهي التفاعل مع الآخرين. يقول إجيديو دانجيلو -مختص في علم الأعصاب بجامعة بافيا في إيطاليا: “تعتبر هذه الدراسة واحدة من أكثر البراهين وضوحًا وإثارةً للاهتمام والتي تثبت أن المخيخ يساهم بالفعل في التحكم في الوظائف عالية المستوى وغير الحركية. ولكن هذا العملية تُجرى على الفئران -والآن علينا أن نرى إذا كان الأمر نفسه ينطبق على البشر”. علمًا بأن هذا العالِم لم يساهم في هذه الدراسة بل كتب تعليقًا مصاحبًا للبحث.
ويشير شمهمان (الذي لم يشارك في الدراسة أيضًا) إلى أن هذه النتائج تؤكد وجود مسار اقترحه العلماء لأول مرة منذ عدة عقود. وأضاف: “لقد سعدتُ بالاطّلاع على هذا البحث، إنهم يوفرون لبنةً أساسيةً أخرى هامة في محاولتنا المستمرة لفهم مساهمة المخيخ في الإدراك والعاطفة.”
و يقول خودخاه: “إن المزيد من البحث في دائرة المخيخ و منطقة الغشاء البطني يمكن أن يساعد العلماء يومًا ما في علاج مختلف الاضطرابات. فيمكن التلاعب بهذه الدائرة عن طريق استخدام تقنيات التحفيز المغناطيسي الجمجمي أو التحفيز الدماغي العميق لدى الأفراد الذين يعانون من الإدمان أو التوحد. إلا أن القيام بالمزيد من الأبحاث أمر ضروري قبل أن تطبق مثل هذه الإجراءات على أرض الواقع.” وفي الوقت الراهن، يخطط فريق خودخاه لاختبار بعض هذه الطرق على الفئران.
و أفصح خوداخاه: “هذا وقت يبعث الحماس حقًا للقيام بأبحاث حول المخيخ. أعتقد أنه خلال السنوات القليلة القادمة سنرى أن المخيخ يضطلع بدور أكثر بروزًا في الوظائف غير الحركية، مثل المعالجة المعرفية والانفعالية.”
قد يعجبك أيضًا: اكتشاف قنوات سرية بين الجمجمة والدماغ