الصباحُ الذي لا يُشبهنا
قصة قصيرة
عَجزٌ بغيضٌ يفتك بالأمل، يصطاد الأحلام كقنّاصٍ محترفٍ يبتلع أيَّ ذكرى يمكن أن تشفع للحياة عندي، ألمٌ لعينٌ يقتات الرُّوح، ينهشها كذئبٍ جائعٍ مفترس. لقد شاخت الإرادة وأصابها ضمورٌ كُلّي، والوحدة لم تتردَّد هي الأخرى بالالتحاق بالمركب … تشيح الآن عن وجهها المُخيف بعد أنْ اعتدنا على وجهها الوديع البرَّاق. الأهل، الأحباب، الأصدقاء، كلُّ تلك المسمَّيات تذوب اليوم كشمعةٍ مُنطفئةٍ في غرفةٍ شديدة الظَّلام، تتساقط الألقاب ويَدَّعى أصحابها بأسمائهم الحقيقيَّة. صباحٌ ثقيل، كرأسٍ ثملٍ استفاق من غيبوبته على أثرِ أشعةِ الشمس التي اخترقت نافذة غرفته، صباحٌ مثقلٌ بأحداثِ ليلة البارحة، ولولا ضوء الشمس لمَا ميَّزت أنَّه صباح … مازلت أعيش في البارحة، إنَّ هذا الصباح ليس إلّا امتدادًا للبارحة.
طرق باب الغرفة ثلاث مراتٍ متتالية، لا حاجة لي أنْ أسأل مَن الطَّارق؛ إنَّها الخالة سلمى أتت لتجلب لي الفطور ولا حاجة للطَّارق أنْ ينتظر إذني له بالدُّخول، فهي تعلم جيِّدًا أنّي في هذه الساعة من الصباح –عند الساعة السابعة والنصف بالضبط– أجلس القرفصاء على سريري أنتظر وجبة فطوري.
الخالة سلمى: صباح الخير سوزي
سوزي: صباحٌ مشعٌّ كوجهك المُضيء يا خالة.
-للأمانة كانت الجملة ثقيلةً على لساني، تفوح منها رائحة النِّفاق. ولكن لا بأس بقليلٍ من الكذب في سبيل إسعاد مَن نُحب-.
اعتادت سوزي على تناول الفطور وحدها في الغرفة لأنَّها لا تحتمل صوت مضغ الطَّعام على المائدة، كما أنَّها لا تحتمل أيضًا سماع خشخشة الملاعق والصُّحون، تُحس وكأنَّ أحدهم يطرق رأسها بالمطرقة، بالإضافة إلى أنَّ نوعيَّة الطَّعام الذي يتناولونه أهلها لا يُناسبها، طعامٌ دَسمٌ مليءٌ بالدُّهون واللُّحوم، وهي نباتيَّة تقرف من أكل كلَّ شيءٍ يتعلق بالحيوانات؛ لأنَّها تؤمن أنَّ كلَّ مَن يأكل اللُّحوم هو شريكٌ في وحشيَّةِ الإنسان الذي يقتل الحيوان ليُشبعَ غريزته. حاولت أنْ تشاركهم مرَّةً على مائدة الطَّعام ولكن لم تأكل من طعامهم، أعدَّت لها الخالة سلمى وجبتها النباتيَّة الخاصة، التهموا إخوانها وبنات عمَّتها صحنها بنظراتهم التي تشعُّ بالازدراء والسُّخرية.
سليم: ستموتين قريبًا بسبب أكل القطط هذا، وتذكَّري كلامي هذا لاحقًا في قبرك، لن تبلغي حتى الثلاثين من عمرك إذا استمرَّيتي في تناول هذا الطعام.
*تعالت القهقهات في صالة الطعام، استظرف أحدهم ببلاهةٍ قائلًا: كيف ستشعر بذلك وهي ميِّتة؟!
ضحك الجميع ببلاهة، كان بإمكان سوزي أنْ تُخرِسَهم جميعًا؛ ولكنّها لم تشأ أنْ تستنزف طاقتها التي قد أوشكت على النفاد أصلًا.
حضَّرت سوزي نفسها لتذهب إلى عملها، تزيَّنت وتعطَّرت. دخلت إلى المكتب بخطواتٍ ثابتةٍ بمِشيةٍ عسكريَّةٍ يشوبها القليل من الأنوثة، صوت كعبها العالي يتردَّد صداه في ممر المكاتب ويجذب أسماع الموظفين قبل عيونهم.
سوزي: صباح الخير “يا أحلى ناس”.
نادية: صباحك حب وتفاؤل وجمال كجمال ابتسامتك العريضة.
منال: كيف كانت سهرة البارحة؟
سوزي: ممتعة، رقصتُ كثيرًا حتَّى تورَّمت قدماي … ما هو فطوركم اليوم؟
نادية: رُبَّما نفطر متأخرًا اليوم، “يعني ع الساعة ١٢”، اعتبريه غداءً وفطورًا في آنٍ واحد. منال ستطلب لنا اليوم مائدةً شهيةً ودسمة؛ أليس كذلك يا منال؟
منال: نعم، سنطلب اليوم “كوارع ومحاشي” من مطعمٍ شاميٍّ قريبٍ منا، طلبت منه أنا وزوجي البارحة؛ لن تتخيلوا لذة طعمه.
سوزي: يا ربّااااه كم أعشق هذا الطعام، احسبوا حسابي معكم وبصحنين رجاءً.
*خخخخخخ ضحك الجميع*
سوزي: بمناسبة الحديث عن اللُّحوم والمأكولات الشهيَّة الدَّسمة؛ أتدرون مَن يثير شفقتي حقًا في هذه الحياة؟ النباتيون ..
*قالت الكلمة الأخيرة بصوتٍ منخفضٍ ثُمَّ توقفت عن مواصلة حديثها؛ فجأةً تذكَّرت بأنَّ زميليها فاطمة وأحمد في المكتب المجاور نباتيون!
نادية: اكملي ما بكِ يا مجنونة!
سوزي: اششش، لحظةً سأُغلق الباب. حسنًا هكذا نستطيع أنْ نتحدث براحةٍ أكبر…
كنت سأقول بأنَّ النباتيين مثيرون للشفقة حقًا؛ فهم لا يتلذذون بأكلٍ مثل هذه المأكولات مثلنا، لا يمكنني أنْ أتخيَّل مُعاناتهم! كيف يحرمون أنفسهم من كل الأطعمة الشهيَّة المليئة باللُّحوم و الشُّحوم؟
نادية: النباتيون فئاتٌ متعدِّدة، ولكلِّ فئةٍ أسبابها الخاصَّة في اختيار هذا النَّمط أو النِّظام الغذائي، ولكن هناك من يبني قراره هذا على أساسِ معتقدٍ غريبٍ ومثيرٍ للسُّخرية؛ وهو أنّه يقرف من اللُّحوم لأنَّ هذه اللُّحوم جاءت بطريقةٍ وحشيَّةٍ لا أخلاقيَّةٍ؛ وهي قتل الإنسان للحيوانات، مجانين أقسم لكِ!
سوزي: هههههه يقرف من اللُّحوم! وهل يوجد إنسانٌ يملك ذرَّةً من حاسَّة التَّذوُّق يقرف من اللُّحوم؟ وذرَّةٌ من العقل ليتَّهِم الإنسان الذي يأكُلها بالوحشيَّة؟ دعكِ من النباتيين، سأقول لك ما هو أكثر إثارة للسُّخرية منهم … بنت خالتي سعاد (الدلُّوعة الغنُّوجة) تتجنب دائمًا الأكل معنا على مائدة الطَّعام لأنَّها لا تحتمل صوت مضغ الطَّعام وخشخشة الملاعق والصحون على الطاولة.
نادية: ليتها تحتسي الشاي معنا مرَّةً واحدة، لعَمري رشفة شايٍّ منكِ ستشفيها من هذا المرض.
سوزي: هههههههه، صدقتِ.
* عادت سوزي إلى البيت عند المساء، دخلت مُسرِعةً إلى غرفتها وأغلقت الباب جيِّدًا، ثمّ أخذت تتقيَّأ كلَّ الصَّباح.