مُترجَم| فتغنشتاين والحرب: تأثير الحرب على أفكار “الرسالة”
يذهب بيتر أدامسون -أستاذ الفلسفة في جامعة لودفيغ ماكسيميليان- إلى أنَّ هناك شيئًا ما جيّد حدث نتيجة وقوع الحرب العالميّة الأولى.
هناك الكثير من الإجابات المُعلبة والجاهزة عن الحربين العالميتيّن، وعلى الرغم من تأثير الحرب العالميّة الأولى المحوري في تاريخ العالم ومصيره إلّا إنَّها تُدرّس على أنَّها بلا جدوى. باتت صورة هذه الحرب مطبوعة في أذهاننا على أنَّها مجرد مجموعة من الجنود متحصنين في الخنادق مع دباباتهم. على الرغم من هذا كله فقد انبثق من هذا الصراع المأساوي كتاب غَيَّر تاريخ ومسار الفلسفة، إنَّه “رسالة منطقيّة فلسفيّة”، كتاب فتغنشتاين الذي نسج أفكاره في خضم خدمته مع الجيش النمساوي، وأكمل نَسْجَه فيما بعد أثناء فترة سجنه كأسير حرب في إيطاليا.
كان فتغنشتاين واحدًا من العديد من الأوروبييّن الذين استقبلوا الحرب بنوع من الاضطراب والفزع. كتب في أحد الدفاتر التي كان يحتفظ بها أثناء الحرب “إنَّ الموت فقط مَن يعطي الحياة معناها”، وتبعًا لذلك كان يقحم نفسه في أي فرصةٍ لمواجهة الموت. دوَّن اسمه في قائمة المتطوعين للخدمة في جيش بلاده عام 1914. بينما كان الجنود يتفادون العمل في بعض الأماكن لخطرها كان فتغنشتاين يختارها للقيام بواجبه فيها، حيثُ القذائف مُتحزِّمةً حوله طوال الليل. لقد كان يؤدب نفسه ويؤنِّبها سريعًا لمجرد شعورها بالخوف، حيث كتب في ملاحظاته “الخوف من الموت يأتي من نظرة خاطئة للحياة”.
بغض النظر عن مشاعر الخوف بداخله، إلّا أنَّ سلوكه الظاهريّ تحلّى بالشجاعة، لذلك لا نستغرب نَيله للعديد من الأوسمة وترقّيته لرتبة ضابط مع نهاية الحرب. في نهاية عام 1918 قُبض عليه ومكث في معسكرات أسرى الحرب الإيطالية مسجونًا حتى حلول صيف عام 1919. عاد فتغنشتاين للفلسفة في السجن، لقد كان السجن حاضنًا مناسبًا لنضوج أفكاره، حيث الهدوء. وكانت النتيجة هي “الرسالة”.
نشأ فتغنشتاين في كنف عائلة غنية وموهوبة وكان والده أحد الأقطاب المهمة والثرية في صناعة الصلب والحديد، كانت عائلة ذائعة الصيت في فيينا. لتقريب الصورة أكثر، كانت عائلة لودفيغ تعاني من مشاكل نفسية كثيرة أدت إلى انتحار اثنين من إخوته قبل الحرب، وآخر انتحر خلالها، حتّى فتجنشتاين نفسه لطالما شكّلت فكرة الانتحار مصدر إغراء له. على الرغم من ذلك، كانت عائلة فتغنشتاين موهوبة بشكل مذهل، وخاصةً من الناحية الموسيقيّة.
اتَّجه فتغنشتاين للفلسفة في كامبردج بعد أخذه بنصيحه الفيلسوف جوتلوب فريجه. قابل في كامبردج برتراند رَسِل، وأثار إعجاب فتجنشتاين بدايةً، وبعدها انتقل للجدال معه حتّى تأزمت علاقتهما وعندها تجاوز فتغنشتاين رَسِل. شعر فتغنشتاين باليأس والاستياء من أنَّ رَسِل لم يستطع فهم ما يريد فتجنشتاين قوله. كان دائم الظنّ أنَّ لا سبيل لفهم أفكاره، حتى وإن تمكن من الخروج من الحرب ونشر نظرياته، فلن يستطع أحد إدراك أهميتها، حيثُ نرى ذلك واضحًا في مذكراته التي كتبها في السجن والرسائل المتبادلة مع رَسِل.
بالنظر إلى أنَّه حتى فريجه ورَسِل كانا يواجهان صعوبة في فهم وشرح أفكار فتجنشتاين، ليس لدي الكثير من الأمل في اختزالها وشرحها في هذا المقام، لكنّنا سنتطرق إلى بعض الأفكار الرئيسة التي قالها فتجنشتاين لنا في رسالته. يقول فتجنشتاين في رسالته أنَّ اللغة، إذا قمنا بتحليلها، لا بدَّ لها أن تصف مجموعة من الوقائع. اللغة عند فتغنشتاين هي وصف منطقي للعالم، وصدق القضية يعتمد على ما تصوره اللغة من وقائع ويتطابق معها. وأخيرًا، إنَّ الفكرة الأساسية لفتجنشتاين في “رسالة منطقيّة فلسفيّة” هي أنَّ الجمل شكل من أشكال التصور، فتحليل العالم ينتهي بنا إلى أشياء وتحليل اللغة ينتهي بنا إلى أسماء، وعلى اللغة أن تكون صورة للعالم. ويذهب فتجنشتاين في رسالته إلى أنَّ الأخلاق والجمال أمور لا يمكن أن تظهر في اللغة ولا يمكن التعبير عنها بل يمكننا إظهارها فقط. وفي آخر الرسالة رفض فتجنشتاين أفكاره الوارده في الكتاب وشبهها بالسلّم الذي تصعد عليه لترى العالم من جديد وعندها ترمي السلّم حيث لا حاجة له، ولا حاجة حتّى لأي فلسفة!
“إنَّ ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه، ينبغي عليه أن يصمت عنه”.
هل أثَّرت الحرب العالميّة الأولى على أفكار “رسالة منطقيّة فلسفيّة”؟ يقدم راي مونك إجابة عن ذلك، حيث يشير إلى أنَّ تجربة الحرب دفعت فتغنشتاين لتوسيع اهتماماته الفلسفيّة إلى مجموعة كاملة من المواضيع التي درستها الفلسفة تقليديًا. يبدو أنَّ الحرب التي تُعتبر غالبًا بلا معنى، قد دفعت فتغنشتاين إلى كتابة عمل فلسفيّ يُعرِّفُ بدقة الحدود الفاصلة بين “المعنى” و”اللامعنى”.