وحيدًا.. للأبد حتى تحترق النجوم

أنت تجلس وحدك في عالمك في منزلك في غرفتك في سريرك، وحيدًا لأنك شاب.. وحيدًا لأنك في دولة العواجيز.. وحيدًا لأنك في هذه الدولة.. وحيدًا “للأبد.. حتى تحترق النجوم.. وحتى تفنى العوالم.. وحتى تتصادم الكواكب”

يصيبك المرض دائمًا في مثل هذا الوقت بين الليل والصباح الباكر حيث لا تجد صيدلية بالقرب منك ودائمًا يختفي الدواء المسكّن الذي تحتفظ به في هذا الدّرج المهمل وتكتشف أنك وحدك بالمنزل لا تجد من يخفف من آلامك ولو بكلمة، فتصبر وتتحامل على هذا الألم أيًا ما كان حتى الصباح فتنزل من منزلك مهرولًا لتضع نفسك في وسيلة مواصلات عامة لتذهب للمستشفى العام، وللصدفة تجد كرسيًا فارغًا فتحاول الجلوس ثمّ تُفاجأ برجلٍ عجوز يجلس دون الاهتمام ولا النظر لك.. نعم أنت هو الشاب الذي يعيش بمفرده وتحتويك الوحدة من كلّ الجهات حتى في ألمك فتجد الفيروسات تأتيك أنت دون غيرك، ربما لتُؤنس عليك تلك الوحدة.

عند وصولك للمستشفى تجد طابورًا طويلًا مملًا غير مستقيم فتقرّر أن تتجاهله وتمرّ عبر البوابة الواقف عليها حارس الأمن العجوز الذي يتجاهلك فتتجاهله، تحدّد وجهتك نحو مكتب الاستقبال فتسأل حارس أمن -عجوز آخر- عن طبيب ربما يفحصك في وسط تلك المعركة الحاضرة أمامك في تلك الغرفة، والأطباء محاطون بالمرضى من كل اتجاه ثم يخبرك الحارس أن الطبيب المخصّص لمرضك هذا لم يأتِ بعد وربما لن يأتي اليوم. نعم، هذا طبيعي لك، لقد اعتدتَ على تلك النهايات الدرامية السخيفة، فتخرج من المستشفى وبداخلك غضب لا تعرف طبيعته، فتقرّر أن تبتاع علبة سجائر رغم مرضك ورغم إقلاعك المنقطع المتواصل عن السجائر.

تواصل المشي في الأنحاء تشحذ أفكارك غير المرتبة حتى تنتهي لمنزلك وقد أحرقتَ نصف علبة السجائر؛ أين وكيف حدث هذا؟ بأيّ طريقة ذهب هذا الوقت؟ لا تعلم ولن تعلم أبدًا، تجلس ثم تقوم وتصرخ صرخةً صمّاء كما فعلها ألباتشينو في الأب الروحي، كل هذا لتبعد فكرة الألم الذي يضرب رأسك كالمنشار، وتقرّر القراءة ولو قليلًا لتفادي الألم فتجد عبارات في الرواية التي قررت قراءتها تزيد ألمك ألمًا؛ لا يكفي أنّ اسم الرواية “داي” – بمعنى يوم – وتدور أحداثها في يوم واحد ولكنّ عباراتها البسيطة تؤلمك. “كانت المشكلة أنّ لديك الكثير جدًا مما تفعله: التنفّس النوم والاستيقاظ والأكل؛ لا تستطيع أن تتجنبها، شُيّدتَ لتحتاجها، وهكذا استمرّت.” نعم، هذا لكثيرعليك أيها الوحيد الفريد من نوعك أنت أيها الأقلية في مجتمعنا..

يمرّ الوقت مرة أخرى ويأتي المساء متثاقلًا عليك ويزداد ألمك معه وتجد نفسك هربتَ من المنزل والبشر وقبعت في مستشفى منتظرًا الطبيب، كلّ شيء تمّ.. فقد قطعت تذكرتك، دفعت المال، جلست في كرسي وحيد مثلك لأنّ كل الكراسي الثنائية يجلس عليها مريض بصحبة رفيق له، إلاك كنت رفيقًا للكرسي الوحيد الموضوع في نهاية الطرقة، الجميع يتحدث بصوت خافت لبعضهم البعض وأنت تخرج هاتفك وتقرأ كتابًا منه بصمت وفي سكون، حتى تحرّك رجل الاستقبال العجوز وأمسك بالريموت ورفع درجة الصوت للتلفاز ليشاهد مسلسل رأفت الهجان، في تلك اللحظة حرّك الجميع رؤوسهم لمشاهدته للمرة المليون؛ ربما من الملل والمرض حرّكوا رؤوسهم إلا أنت..

ثمّ تأتيك تلك الذكرى العالقة في ذهنك أنّك منذ بضع سنوات أتيت لنفس المستشفى جلست على نفس الكرسي ورأيت العجوز يشاهد نفس المسلسل وربما نفس الحلقة؛ تغيرت رسوم الكشف وتضاعفت، ولكن أنت هو أنت والعجوز كما هو ينتظرك عندما تخرج من الكشف ليسألك عن حالك وعن بعض الأموال ويرفع صوت التلفاز وأنت تنتظر بألمك ويقوم بتجاهلك وإدخال مرضى حضروا بعدك فقط لأنهم كبار في السنّ وأنت شاب عليك الانتظار، أنه هو.. نعم أعرفه، هذا هو “سيد حبارة” الذي قال عنه د/ أحمد خالد توفيق. نعم، هذا هو الرجل الموالي للحاكم والناقم عليه الكاره للناس ولكنه لا يكفّ عن التدخل في شؤونهم فمن الطبيعي أن يجعل بعض المرضى الكبار في السن يسبقونك في الدخول ويتركك أنت لأنك أيضًا من “شباب عاوز الحرق“، رغم تجنّبك لهم وصمتك عن حماقتهم ومحاولة احترام حقوقهم لأنها من وجهة نظرك حقهم في التعبير عن رأيهم أيًا كان، اليوم تأكدت لماذا مرضك اليوم مختلف.. نعم، يجب على كلّ الأمراض أن تأتيك حتى لا تشعر بالوحدة، فربما تمرض لتذهب للطبيب ليعاملك معاملة حسنة ويسألك عن صحتك ويطمئنك على حالك وأنك ستكون بخير لتستطيع مواجهة هؤلاء العواجيز وحدك بكامل طاقتك المتبقية.

إعلان

إعلان

اترك تعليقا