هل يسمح الشَّرْع بتوريث الحكم؟

ذهب البعض إلى أن من حق الحاكِم توريث الحكم لمن بعده، وعلى الشَّعْبِ طاعة الحاكِم في ذلك، باعتباره أحد قراراته الواجب طاعتها، ولا فرق بين الأمر النافذ في حياة الرئيس أو بعد مماته. واستدلوا باستخلاف أبي بكر لعمر، واستخلاف عمر للستة، واستخلاف معاوية ليزيد، واستخلاف سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز!

وعلى هذا الاختيار تجرَّعت الأُمَّة الدم والدمار، وبهذه الطريقة تحوَّلت الخلافة الراشدة القائمة على البيعة الحُرَّة واختيار الأُمَّة إلى ملكٍ عضوض واستبداد باسم الدِّين، وقهر للأُمَّةٍ وإسكاتٍ لصوتها، فأصبح عصر الأمويون والعباسيون والمماليك والعثمانيون قائمًا على توريث الحكم، وبات التوريث هو القانون المتَّبع، لا يَشِذّ عنه إلا انقلابات عسكريَّة تنقل الحُكْم من أسرةٍ إلى أسرةٍ تتوارث هي الأخرى الحكم فيما بينها!

وعلى هذا الاختيار المتسلِّط قامت المَلَكِيَّة واستمرت حتى يومنا هذا في السعودية، والإمارات، والكويت، وقطر، وسلطنة عمان!

يقول راشد الغنوشي: “يشعر المرء بنوعٍ من القرف من استمرار هذا العفن قائمًا في تراثنا الدينيّ وفِكْرنا السياسيّ، إذ يضع يده مباشرة على هذه الألغام التي قوَّضت حضارة الإسلام وأسلمتنا إلى الانحطاط. إنه لا بد من ثَّوْرة شاملة تطيح بهذه السموم التي لا تزال تجري في دماء الأُمَّة وتَشِلّ طاقاتها عن الانطلاق، وتجهض انتفاضاتها”([1]).

الإسلام والاستخلاف

إن أردنا إنساب حُكْم إلى الدِّين، فلا دليل يُرجع إليه إلا العقل، والكتاب، والسنة.

إعلان

أما عن العقل، فليس في التوريث حكمة واحدة تدعو العقل إلى استحسان تَوْرِيث الحُكْم، بل على العكس، يحكم العقل بقبح هذه الجريمة، إذ غالبًا ما ينتج عن توريث الحكم تسليم البلاد والعباد إلى أبناء قُصَّر، أو ولاة عهد سفهاء، أو جهلاء، وتقتضي المصلحة أن يختار الشَّعْب الحاكِم الأصلح سواء كان ابنًا للحاكِم أو غير ذلك.

وأما عن القرآن، فلا نجد آية واحدة تُقِر توريث الحكم، بل وجدنا دعوة لإبراهيم أن تنال ذريته عهد النبوة، لكن يرد الله تعالى بأن الأمر ليس وراثة، ولا ينال عهد النبوة إلا الصالحين، أما الظالمين فلا، ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾([2])، وهي إشارة من القرآن لرفض تَوْرِيث المناصب لمجرَّد النَّسَب، وإنما العِبْرَة بصلاح الفرد.

وأما عن النبي ففي بداية دعوته، واجه أذىً كثيرًا، وتآمرات من قادة قريش لقتله، وتعذيب المؤمنين، وحصارهم وتهجيرهم، فعرض النبي على قبائل العرب في مكة وخارجها أن يُسْلِموا ويحموه ويحموا المؤمنين من الأذى، وكل قبيلة طرق بابها قابلته بالرفض والطرد، وأخيرًا قبلت قبيلة بني عامر بن صعصعة، لكنها عرضت عليه عرضًا، فقالوا: “أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثُمَّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟”

فقال النبي: “الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء”.

فقالوا: “أنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك”([3]).

هنا النبي يرفض عرضًا مغريًا من قبيلة كبيرة في بداية دعوته، وهو رفض بلا شَكّ دَفَعَ ثمنه سنوات من التعثُّر، والتضييق، وعدم الأمان على نفسه ولا دعوته، وتعذيب للمؤمنين، لكنه ما كان ليتنازل قط عن حق الأُمَّة في تولية من تراه أصلح لها.

ولم يثبت عنه توريث الحكم لأحدٍ بعده قط.

وقال النبي: “من وُلِيَ من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباةً، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم”([4])، فإن كان تولية الرئيس لأحد ولاته من حقوقه، لكن إن شابه محاباة، فقد حرَّمه الله ورسوله، فما بالنا بمن يولِّي رئيسًا بعد انتهاء حياته، فلا هو حقه، ولا في مُدَّة ولايته، ولا من سُلْطته، ولا فيه مصلحة للأُمَّة، بل هو محاباة فقط؟!   

استخلاف أبي بكر لعمر

ينقل السيوطي الحدث فيقول: “أخرج الواقدي أن أبا بكر لمَّا ثَقَل عليه المرض، دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال: هو والله أفضل من رأيك فيه.

ثُمَّ دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر؟ فقال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.

وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن حضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسُّخْط، الذي يُسِرُ خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه.

ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل منهم: “ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: “بالله تخوفني؟ أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من ورائك”.

ثُمَّ دعا عثمان، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختومًا، فبايع الناس ورضوا به.

ثم دعا أبو بكر عمر خاليًا، فأوصاه بما أوصاه، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه، وقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيًا، فولَّيت عليهم خيرهم”([5]).

أولًا: قانونًا وشرعًا، لا يحق للوكيل أن يوكِّل غيره بدون الرجوع للمالِك الأصلي، كذلك الحاكِم، وهو وكيل عن الشَّعْب لإدارة الدولة، لا يحق له أن يوكِّل الإدارة لغيره ويستخلف حاكمًا من بعده دون الرجوع إلى المالِك الأصلي، وهو الشَّعْب.

يقول الماوردي: “إن تنازع اثنان على الإمامة، وادَّعى كل واحد منهما أنه الأسبق، لم تُسمع دعواه ولم يُحلف عليها، لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعًا، فلا حُكْم ليمينه فيه، ولا لِنْكُولِه عنه. وهكذا لو قطع التَنَازُع فيها وسلَّمها أحدهما إلى الآخر، خرج منها المُقِرُ ولم تستقر للآخر، لأنه مُقِر في حق المسلمين”([6]).

ويقول راشد الغنوشي: “كما أنه لا يسوغ لأحدٍ أن يجري وظيفة الوكالة من تلقاء نفسه من غير تفويض من المالِك، كذلك لا يسوغ لأحدٍ أيًّا كان أن يقوم بوظائف الخلافة رأسًا، من دون تفويض واضح من الأُمَّة له”([7]).

ثانيًا: لم يكن في هذا العهد أي وسيلة سياسيَّة تُمكِّن الحُكَّام من استبيان رأي الأُمَّة فردًا فردًا، ولم يشارك كل أفرادها في السياسة وشئون الحُكْم، بل الواقع حينئذ فَرَضَ أن السياسة يتولَّاها الحاكِم ومعه هيئة من أهل الحل والعقد، هم أهل المشورة والرأي، وبذلك مطالبة الحاكِم وقتئذ باستبيان آراء الأُمَّة فردًا فردًا هو مستحيل عمليًّا، وحينئذ كان يكفي موافقة أهل الرأي ليتحقَّق رضى الأُمَّة.

ثالثًا: لم يرشح أبو بكر عمر للولاية إلا بعد استشارة أهل الحل والعقد، فقد استشار عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وأسيد بن حضير، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وبعد الاتفاق على عمر، أعلن أبو بكر ما توصلت إليه المناقشات.

إذن فقد عاد أبو بكر للمالِك الأصيل يتسأذنه، وهو الشَّعْب، متمثلًا في كبار الصحابة، وأهل الحل والعقد. كما أن باقي الشَّعْب حين عَلِمَ بترشيح أبي بكر لعمر لم يعترض، بل قَبِلَ ورضي، وهذا الرضا من الشَّعْب هو موافقة منه بتولي عمر، وقد ظهر بوضوح أكثر حين بايع الناس عمر باختيارهم.

فروى ابن حبان أن أبا بكر دعا نفرًا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر([8]).

يقول أحمد جاد: “الثابت تاريخيًا أن أبا بكر إنما رجع إلى أهل الحل والعقد في هذا الأمر، وسألهم إن كانوا يرضون من يوليه عليهم فوافقوا جميعًا، لا أنه ولَّى عمر كما يزعم البعض ثُمَّ قبلت الأُمَّة”([9]).

رابعًا: لم يجد المسلمون حرجًا أن يعترضوا على أبي بكر، وينهروه، ويعاتبوه، ويرفضوا حكمه، والكل يعلم من هو أبو بكر، وعلاوة على ذلك كان أبو بكر يعاني من مرض الموت الذي يلجم كل معارض، ورغم ذلك لم يثنيهم ذلك عن اعتراضهم وتصدّيهم للقرار أوَّل الأمر.

وحين اعترض البعض على قرار أبي بكر، تراجع أبو بكر واعتبر استخلافه لعمر هو مجرَّد ترشيح يعرضه عليهم، ولهم إما أن يقبلوه أو يرفضوه، وقال: “إن شئتم اجتمعتم فأتمرتم، ثُمَّ وليتم عليكم من أردتم، وإن شئتم اجتهدت لكم رأيي.

فقالوا: يا خليفة رسول الله، أنت خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا”([10]).

خامسًا: الأهم أن عمر لم يَنَلْ منصب الخلافة إلا بعد بيعة الناس له في المسجد، فكل ما سبق هي تداولات وترشيحات، أما الحكم الفصل في القضية فهو موافقة الأُمَّة ومبايعتها لعمر باختيارها دون قهر أو جبر، وإلا لكانت البيعة مجرَّد فعل عبثي بلا معنى ولا قيمة! وعمر بصفته خليفة المسلمين مسئول أمام الشَّعْب وليس أمام أبي بكر، وللشَّعْب حق توليته أو عزله، ومحاسبته وسؤاله.

يقول ابن تيمية: “متى صار أبو بكر إمامًا؟ ذلك بمبايعة أهل القدرة له. وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إمامًا لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّرَ أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه، لم يصر إمامًا. وكذلك عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له”([11]).

ويقول طه حسين: “وما كان استخلاف أبي بكر لعمر إلا مشورة على المسلمين، وآية ذلك أن عهد أبي بكر لم ينفذ ولم يصبح عمر خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضًا برأي أبي بكر وقبولًا لمشورته”([12]).

ويقول العقاد: “لم تكن وصية أبي بكر ملزمة للناس بالقوة والإكراه، لأن سلطانه ينتهي بوفاته، ولم تكن قبيلته أو قبائل قريش فتُكرِه غيرها على اتباع وصيته، فكل ما هنالك أنها ترشيح لا يقبله من قبله على رغم، وقد أقره عليه الناس وسوادهم راضين مؤيدين”([13]).

سادسًا: اختيار أبي بكر لعمر لم يشوبه أية شائبة مصلحة شخصية تعود على أبي بكر، فلم يختر ابنه أو أحد أقاربه أو قبيلته أو أنسابه، وإنما رشح الشخصية التي يراها فعلًا الأجدر بالمنصب.

يقول د. عبد الله النفيسي: “ما رُوي أن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر استخلف الستة، وأن الصحابة سكتوا ولم ينكروا ذلك، فكان سكوتهم إجماعًا، فإن ذلك لا يدل على جواز الاستخلاف أو العهد أو وراثة الحُكْم، وذلك لأن أبا بكر لم يستخلف خليفة، وإنما استشار المسلمين فيمن يكون خليفة لهم بعده، فرشَّح عمر وعليّ، ثُمَّ إن المسلمين خلال ثلاثة أشهر كاملة في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم، ثُمَّ بعد وفاة أبي بكر جاء الناس وبايعوا عمر، وحينئذ -وحينئذ فقط، أي بعد بيعة الناس في المسجد– انعقدت الخلافة شرعًا لعمر. أما ما قبل البيعة فلم يكن خليفة، ولم تنعقد الخلافة له لا بترشيح أبي بكر ولا باختيار المسلمين له، وإنما انعقدت حين بايعوه في المسجد وقَبِل الخلافة”([14]).

إذن لم يفرض أبو بكرُ عمرَ على الناس، بل رشحه، فقَبِلَ البعض ورفض آخرون، ثُمَّ بعد المشورة قَبِلَ الجميع ترشيحه، وولَّوا هم عمر بن الخطاب.

استخلاف عمر لستة من الصحابة

ينقل ابن كثير الحدث فيقول: “كان عمر بن الخطاب قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.

ومن تمام ورعه لم يذكر في أهل الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، لأنه ابن عمه، فخشي أن يُولَّى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.

وقال لأهل الشورى: يحضركم عبد الله -يعني ابنه- وليس له من الأمر شيء، بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يُولَّى شيئًا.

ثم فوَّض ثلاثة منهم إلى ثلاثة، ففوَّض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوَّض سعد ما له في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه لعثمان بن عفان.

وتولَّى عبد الرحمن بن عوف تولية واحد من الثلاثة: الزبير، وعلي، وعثمان.

ثم نهض يستشير الناس فيهم ويجتمع برؤوس الناس وأجنادهم، جميعًا وأشتاتًا، مثنى وفرادى ومجتمعين، سرًا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء الْمُخَدَّرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، واختار الناس عثمان، وبايعوه في المسجد”([15]).

أولًا: المسلمون هم من طلبوا من عمر أن يرشِّح لهم أحدًا يصلح للخلافة، وليس عمر الذي فرض مرشَّحًا على الناس.

ثانيًا: رفض عمر تولية شخص بعينه وفرْضِه على الناس، وإنما اكتفى بترشيح الأسماء البارزة فقط ليتخذوا هم قرارهم شورى بينهم وبمحض إرادتهم.

ثالثًا: اختيار عمر لهؤلاء الستة تحديدًا لم يكن حصرًا لحزب على حساب حزب، ولا منعًا لمرشح محتمل يريده الناس، وإنما اختار الستة على أساس فريد لا يتكرَّر، وهو رضا النبي عنهم، وقد كانوا كبار الصحابة، وقادة الأُمَّة، ولا أحد مرشَّح غيرهم.

رابعًا: قيام عبد الرحمن بن عوف باستشارة أصحاب الرأي، والسعي خلف العامة في الطرقات ليسأل النساء والشباب، هو أكثر وسيلة ديمقراطية وحُرَّة ونزيهة عَرَفها هذا العصر على الإطلاق، ولا يعرف هذا العصر نموذجًا أفضل من هذه الممارسات.

خامسًا: صرَّح عمر باستبعاد ابنه عبد الله، كما هدَّده شخصيًا حتى لا يترشَّح لهذا المنصب، رغم عِلمه وحِكمته. والأسماء الستة الذين رشَّحهم عمر لا يوجد بينهم اسم واحد من قبيلته، مما يؤكِّد خلو قرار عمر من أية مصلحة شخصية أو مطامع عصبية لقبيلته.

يقول د. عبد الله النفيسي: “عَهِدَ عمر للستة فهو ترشيح لهم من قِبَلِه بناءً على طلب المسلمين.

والخلافة انعقدت لعثمان ببيعة الناس لا بترشيح عمر، ولو لم يبايعه الناس، لما انعقدت له الخلافة، ولم تُعتبر في الشرع. لذلك لا بد من بيعة المسلمين للخليفة، ولا يجوز أن تكون بالعهد أو الاستخلاف أو قوانين التَوَارُث، لأنها عقد ولاية وينطبق عليها ما ينطبق على العقود”([16]).

ويقول راشد الغنوشي: “إن ما حدث من استخلاف في عهد الراشدين لم يكن شيئًا غير كونه طريقًا من طُرُق الترشيح لأهل الحل والعقد (مجلس الشورى) وللأُمَّة أن تقبل ذلك الترشيح أو تزاحمه بترشيحٍ آخر أو تلقي به عرض الحائط”([17]).

إذن فلم يفرض عمر أحدًا على الناس من بعده، وإنما رشَّح ستة، هم أهل الحل والعقد، وقد مات النبي وهو راضٍ عنهم، ليختاروا ما ترضاه الأُمَّة.

***

كي ترى بعينك الفرق الفاضح بين الترشيح الذي تتقبله الأُمَّة برضى، والتوريث القائم على القهر والذل والجبر، فانظر لاستخلاف الحكام من بعد الخلافة الراشدة.

فقد تحوَّلت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض متوارث، تدخل أسرة، فتظل تتوارث الحكم كما يتوارثون أملاكهم، ولا تخرج من السُّلْطة إلا بالسيف، ثُمَّ ينتقل الحُكْم إلى أسرةٍ أخرى، فتلعن أختها، ثُمَّ تتوارث الحكم أيضًا، ولا تخرج منها إلا بالسيف، وهكذا استمر الحُكْم، لا ينتقل إلا بوسيلتين: التوريث أو السيف!

استخلاف معاوية ليزيد بالسلاح!

كتب معاوية إلى مروان، وإلى المدينة، أن يدعو الناس إلى بيعة يزيد بالقوة والشدة، وحين أعلن مروان ذلك في المدينة، رد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: “أهرقلية؟! إذا مات كسرى كان كسرى مكانه، لا نفعل والله أبدًا”([18])، ورفض البيعة كبار المدينة، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، فذهب إليهم معاوية وهدَّدهم([19]).

وحين خطب معاوية قال: “من كان يريد أن يتكلَّم في هذا الأمر، فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه”، قال عبد الله: “فهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك”([20]).

وقد لخص يزيد بن المقنّع المسألة، فقام أمام الناس وقال:

“أمير المؤمنين هذا” .. وأشار إلى معاوية.

“فإن هلك، فهذا” .. وأشار إلى يزيد.

“فمن أبى، فهذا” .. وأشار إلى سيفه!

فقال معاوية: “اجلس، فإنك سيد الخطباء”([21]).

عبد الملك بن مروان يستخلف أبنائه الاثنين بالتوالي!

وهذا عبد الملك بن مروان يقول في أوَّل خطبة له بعد الاستيلاء على الحُكْم: “إني والله لا أداوي أدواء هذه الأُمَّة إلا بالسيف، ولستُ بالخليفة المستضعف – يعني عثمان – ولا الخليفة المداهن – يعني معاوية – ولا الخليفة المأبون – يعني يزيد – هذا عمرو بن سعيد حقه حقه وقرابته قرابته، إن قال برأسه هكذا، فقلنا بسيفنا هكذا”([22])، وليس هذا سلوك رئيس منتخب من الناس باختيارهم، بل هو سلوك مَلِك تسلَّط على الناس بالسيف، وحكمهم بالجبر، وتمكَّن من رقاب الناس بالقهر.

وسنَّ عبد الملك بن مروان بدعة ظالمة، فلم يكتفِ بتوريث الحكم لابنه فقط ومبايعة الناس له بالسيف، بل أجبر الناس على مبايعة ولديه الاثنين بالتوالي، فأمر الناس بمبايعة الوليد من بعده، ثم سليمان من بعد الوليد([23])!

وعبد الملك بن مروان وهو على فراش الموت يوصي ابنه الوليد فيقول: “لا ألفينك إذا مِتُ تجلس تعصر عينيك، وتحن حنين الأَمَة، ولكن شمر واتزر، ودلني في حفرتي، وخلني وشأني، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا، فقل بسيفك هكذا”!([24])

المتوكل بالله يستخلف ثلاثة أجيال!

وهذا المتوكل بالله يفرض على الناس أن ينتقل الحكم من بعده إلى ابنه: المنتصر، ومن بعده المعتز، ومن بعده إبراهيم!([25])

سليمان بن عبد الملك يجبر الناس أن يبايعوا على ظرف مغلق!

وهذا سليمان بن عبد الملك يجبر الناس أن يبايعوا على مظروفٍ مغلق دون أن يعرفوا اسم الخليفة القادم! “فقبل وفاته دعا بقرطاس، فكتب فيه العهد ودفعه إلى أحد رجاله، وقال: أخرج إلى الناس فليبايعوا على ما فيه مختومًا، فخرج، فقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم، لا تُخبَروا بمن فيه حتى يموت! قالوا: لا نبايع، فرجع إليه فأخبره، فقال: إنطَلِق إلى صاحب الشُّرط والحرس، فاجمع الناس ومُرهُم بالبيعة، فمن أبى فاضرب عنقه، فبايعوا”!([26])

استخلاف الأبناء القُصَّر

انتشرت عادة التوريث حتى جاء للحكم وتربَّع على العرش وحَكَمَ الأُمَّة أطفال قُصَّر لم يبلغوا بعد!

فتولَّى الحاكم في سن 11 عام، إذ أنزلوه من شجرة كان يلعب فوقها وألبسوه التاج([27])!

وتولَّى مَعَد الحكم في سن 7 أعوام([28])!

وتولي العاضد الحكم في سن 9 أعوام([29])!

                                           ***                             

يقول محمد رشيد رضا: “أي عالِم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر بما فعله الأمويون من بعدهم؟! أبو بكر الذي تحرَّى الحق والعدل والمصحلة، واستشار، وطلب رضا أهل الحل والعقد، بينما معاوية استخلف يزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب، ورشوة الزعماء، وتلاه واتبعه في سنته السيئة أهل الجور والطمع في السلطان، وجعلوا الخلافة إرثًا لأولادهم كما يُورَّث المال والمتاع”!([30])

وابن حجر اشترط في الاستخلاف أن يكون الإمام المستخلَف عادلًا ويرتضيه الناس، ثُمَّ تساءل: كيف ارتضى العلماء ولاية العهد في عهود بني أمية وبني العباس رغم ظلمهم؟ ويجيب: إنهم نفَّذوا للشوكة وخشية الفتنة([31]).

والماوردي اشترط أن يكون المولَّى محقِّقًا للشروط التي يجب أن تتوفَّر في الإمام، وأهمها صفة العدل، وإلا لا تصح خلافته حتى يرتضي أهل الاختيار بيعته([32]).

وقال ابن حزم: “لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث في الإمامة”([33]).

إن ما حدث مع أبي بكر وعمر لا يعدو إلا ترشيحًا أمينًا لأسماء جديرة بالمنصب، ولأن الأُمَّة حينئذ ما شهدت ظلمًا ولا جورًا من خلفائها الراشدين، بل شهدت بعدالتهم وإيمانهم، ووثقت في صدق نواياهم ورسوخ علمهم، لذلك اتَّبعت إرشاداتهم، واختارت ترشيحاتهم، وذلك بمطلق حريتهم، وكامل إرادتهم، بثِّقةٍ واطمئنان ورغبة وقبول، فمرَّ الترشيح منهم كأنه تولية مباشرة.

أما توريث الحكم بالجبر والإكراه فهو احتلالٌ للسُّلْطة، وسرقةٌ للعرش، وتعدٍّ على دور الشَّعْب، لذلك هو جريمة قانونيَّة، وكبيرة دينيَّة.


[1]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج1 ص246

[2]. البقرة: 124

[3]. (سيرة ابن هشام) ج2 ص51، (تاريخ الطبري) ج2 ص350، (السيرة الحلبية) ج2 ص4، (البداية والنهاية) ج4 ص347

[4]. (المستدرك على الصحيحين) ج4 ص104 رقم (7024)

[5]. (تاريخ الخلفاء) ص66

[6]. (الأحكام السلطانية) ص29

[7]. (الحريات العامة في الدولةالإسلامية) ج1 ص253

[8]. (الثقات) ج2 ص191  

[9]. (الأحكام السلطانية) ص30

[10]. (الإمامة والسياسة) ص32

[11]. (منهاج أهل السنة) ج1 ص530-532

[12]. (الفتنة الكبرى) ج1 ص26

[13]. (الديمقراطية في الإسلام) ص53

[14]. (عندما يحكم الإسلام) ص71

[15]. (البداية والنهاية) ج10 ص208

[16]. (عندما يحكم الإسلام) ص71

[17]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج1 ص251

[18]. (مختصر تاريخ دمشق) ج14 ص283

[19]. (البداية والنهاية) ج11 ص307

[20]. (صحيح البخاري) ج5 ص110 رقم (4108)

[21]. (العقد الفريد) ج5 ص119

[22]. (تاريخ الخلفاء) ص165

[23]. (تاريخ الخلفاء) ص165

[24]. (البداية والنهاية) ج12 ص606

[25]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص64

[26]. (تاريخ الخلفاء) ص170

[27]. (تاريخ مصر في العصور الوسطى) ص257

[28]. (تاريخ مصر في العصور الوسطى) ص275

[29]. (تاريخ مصر في العصور الوسطى) ص346

[30]. (الخلافة) ص42

[31]. (الخلافة) ص42

[32]. (الخلافة) ص42

[33]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص129

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا