هل تعدّ صناعة الثقوب السوداء معمليًا أمرًا ممكنًا؟

منذ أن أُنشئ مُصادِم الهيدرونات الكبير (LHC)، بدأ العلماء يعتقدون أنه قد يكون بمثابة رحمٍ لولادة ثقب أسود صغير مُصنَّع على كوكب الأرض. صحيح أنّ الأمر قد يبدو جنونيًا، لكنّه مصدر شغف لبعض العلماء. دعنا نتحدث عن أسباب رغبتهم في الوصول لهذا النوع من الصناعة، وما هي إمكانية حدوث شيء كهذا بالفعل.

هل تُعدّ صناعة الثقوب السوداء أمرًا مستحيلًا؟

دعنا لا نتطرّق لإجابة هذا السؤال الآن، فالأمر أكثر تعقيدًا مِن نعم أو لا.
نظريًا، لا يُعدّ الأمر مستحيلًا على الإطلاق. فالثقوب السوداء الحقيقية تُخلَق نتيجة انهيار نجمٍ ما، ومن ثمّ تحوّله إلى بخار كوني (سديم)، ولكن في حالة كون هذا النجم كثيف وعالي الكتلة بما يكفي، ستصلح مادّته لإحداث انحناء كافٍ بنسيج الزمكان لميلاد ثقب أسود.
أما في الجانب المعملي، فالأمر كذلك يعدّ بهذه البساطة، إن كنت تملك مادة، أيّة مادة تتميز بكونها صغيرة الحجم كبيرة الكتلة، كالجسيمات دون الذرية كالبروتونات مثلًا؛ وأحدثت فيما بينها تصادمًا قويًا، فهذا سيكون كافيًا لصناعة ثقب أسود. كيف يتوقّع الباحثون إذًا إتمام عمليّة كهذه؟

دور مصادم الهيدرونات في صناعة الثقوب السوداء

كما ذكرت في مقدمة المقال، بدأ هذا الشغف بصناعة الثقوب السوداء تحديدًا عندما تأسّس مصادم الهيدرونات، ولكن لكون ذلك صعب التطبيق عمليًا، قام الباحثون بعمل محاكاة تصِفُ كيف يمكن أن تتم العملية في مصادم الهيرونات، وهي كالتالي:
افترضوا وجود جسيماتٍ تملك قوة ليست كبيرة بما يكفي لتوقُّع أنها قد تصنع ثقبًا أسود، ثم أكسبوها سرعة تقترب من سرعة الضوء لإتمام التصادم فيما بينها، وكانت النتيجة هي تكوين ثقب أسود بالفعل. مما كان عكس المتوقع بأن تكوين الثقوب السوداء يلزمه طاقة هائلة.
كيف إذًا أمكن حدوث هذا نظريًا؟

كالعادة، يصل بنا الحديث عن الثقوب السوداء للحديث عن أينشتاين والنسبية، وفي هذه المرة سنخوض في النسبيّتَين كلتيهما: الخاصة والعامة. فبالطبع، أوّل ما خطر على بالك عندما ذكرت سابقاً “اقتراب سرعة الجسيمات من سرعة الضوء” هو قانون أينشتاين الشهير E=m*c^2، مما يدلّ ببساطة على أنّ هناك علاقة طردية بين السرعة والطاقة التي تحويها المادة، فكتلة الجسم لا تتغير على الإطلاق، لكن كلما اكتسب سرعةً تقترب من سرعة الضوء، كلما كانت طاقته تزداد بقَدْرٍ يُعدّ هائلًا بالنسبة لطاقته الأصلية، مما يمكننا من توليد طاقةٍ تُماثِل طاقة قلب ثُقبٍ أسود من بعض الجسيمات ذات الطاقة المنخفضة.

هنا يأتي دور نظرية آينشتان النسبية العامة، فتلك الطاقة الهائلة التي تحويها كتلة صغيرة جدًا كاللتي صنعناها للتو، تسبب انحناءً في نسيج الزمكان، وكما أثبت أينشتاين، فكلما ازداد قدر هذا الانحناء ازدادت قوّة جاذبية هذا الجسم، وبالتالي، فنحن هنا نقف أمام وصفٍ دقيق لثقب أسود يقع داخل مصادم الهيدرونات، لكن كما ينتهي بنا المطاف بعد كلّ حلمٍ في علم الفيزياء، لا نستطيع -حتى الآن على الأقل- أن نصل لثلث سرعة الضوء حتى، مما يعني أننا لا نستطيع أن نصل إلى ثلث هذا القدر من الطاقة اللازم لتحقيق هذه النظريات عمليًا.

إعلان

ماذا قد تحققه صناعة ثقب أسود يومًا ما؟

أولاً، يجب أن نتّفق أنّه لا مجال للتفكير أنّ هذا الثقب الصغير قد يلتهم الأرض فور تكوّنه، فهذه أكبر المغالطات التي قد تسمعها، إذ هناك عاملان يمنعان حدوث شيء كهذا، أولهما هو الحجم الصغير جدًا لهذا الثقب (إن وُجد)، والذي لن يكون قادرًا على ابتلاع كوب قهوتك حتى، أو ربما سيجذب بعض فوتونات الضوء إليه. والعامل الثاني هو الذي أخبرنا به العالِم ستيفين هوكينج؛ أنّ لكلّ ثقب أسود إشعاع -أسماه إشعاع هوكينج- يدلّ على فقد الثقب طاقةً كلما امتصّ جسمًا أو جسيمًا ما. كما أنه حسب كمية الطاقة التي تفقدها الثقوب السوداء المكتشفة حتى الآن، فإنِ اعتمدنا على هذه النظرية، فثقبُنا الأسود الصغير سيفنى في جزءٍ من الثانية فور تكونه، حيث أنه سيفقد كل الطاقة التي لزمته ليتكون على صورة إشعاع هوكينج -مما سيكون إن حدث فعليًا انتصارًا ضخمًا لهوكينج-

ثانيًا، وهو الأهم، أنّ صناعة ثقب أسود بالطريقة التي سبق الحديث عنها، سيكون إثباتًا ساحقًا لوجود أبعاد أخرى غير مرئية لنا، نستطيع الوصول لها عن طريق هذا الثقب، أو بمعنىً أصحّ، عن طريق خلق فجوة أو انحناء في أبعادنا الحالية، فتلك الأبعاد منطوية بطريقةٍ ما في أبعادٍ ربما تُساوي كسور من المليمترات من حجم البروتون، وعندما نُحدث في أحدها فجوة -ثقبًا- يمكننا الوصول للآخر، مما يمثل كمًا هائلًا من الطاقة، والجاذبية في المقابل، ويثبت بشكلٍ ما، أنّ نظرية الأكوان المتعددة على حقّ. وللتوضيح، تخيّل معي تفنية عمل الثقوب السوداء كما لو كانت تعمل على إنشاء فجوة في الأبعاد الأربعة المتعارفة، أو ربما نسميه خللًا، ماذا يمكن أن نرى من خلال هذه الفجوة؟ طبقًا لنظرية الأكوان المتعددة فما سنجده تحت هذا النسيج هو نسيج جديد من أبعاد جديدة، فالثقب يتمتّع بقدرته على جذب فوتونات الضوء المحيطة، وبالتالي يُعدّ هو الممرّ الوحيد لعبورنا رؤيتنا المحدودة بسرعة الضوء. تمامًا إذا أنشأنا ثقبًا أسودًا صغيرًا على الأرض، يفترض به أن يعمل نفس العمل على مستوى أصغر.

ما هي آخر المحاولات لتلك العملية؟

مؤخرًا، تحديدًا في عام 2017، استطاع علماء جامعة ستانفورد تصنيع ثقب أسود ميكروسكوبي عن طريق استخدام أشعة X، فتلك الأشعة تمتلك المواصفات المناسبة لإتمام هذه العملية؛ فهي تملك طاقة تضاهي طاقة الضوء المرئي على الأرض مضغوطًا في شعاع واحد. تمّت العملية عن طريق تركيز قدر كبير من الأشعة المعنيّة في نطاقٍ يقارب قطر شعرة رأس، هذه العملية التي أنتجت كمًّا هائلًا من الإلكترونات المحرّرة والطاقة، التي عدّها العلماء بمثابة “ثقب أسود كهرومغناطيسي” كونه ناتج من أشعة X. لكنّه بالطبع لم يدم طويلًا.

ما زال هناك الكثير من المحاولات للوصول لنتائج أفضل وأكثر دقة بشأن صناعة الثقوب السوداء، ومن جانب آخر، قد تكون النتائج مخزية في بعض الأحيان. أما السعي لإثبات كلّ ما أثبتته الرياضيات عمليًا فيظلّ شغف العلماء.

 

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2 مصدر 3
اترك تعليقا