هل الزمان وهم؟ ولماذا يبدو العالم متعلّقًا بالزمان؟ (مترجم)
قد تنشأ مفاهيم مثل الزمان والتغيير من كونٍ يتّسم في الأصل بالثبوت
قد تظنّ أثناء قراءتك لهذه الجملة أنّ اللحظة الراهنة هي ما تحدث مجرياتها الآن. إنَّ للحظة الراهنة رونقٌ خاصٌ، فهي الحقيقة. وبالرغم من أنك في كثير من الأحيان قد تتذكر الماضي وتتوقع المستقبل، لكنك في النهاية تعيش في اللحظة الراهنة. وبالطبع، فاللحظة التي قرأت فيها تلك الجملة السابقة قد ذهبت أدراج الريح. بعبارة أخرى، يُشعرك الأمر كما لو أنّ الزمان يتدفق، بمعنى أنّ اللحظة الراهنة تُجدّد نفسها باستمرار. ونحن لدينا حدسٌ أنّ المستقبل مفتوحٌ حتى يصبح حاضرًا، وأن الماضي شيء ثابتٌ. وبتدفق الزمان، فإنّ الهيكل الخاص بهذا الماضي الثابت وتلك اللحظة الراهنة وذاك المستقبل المفتوح يمضي قدمًا إلى الأمام عبر الزمان. وهذا الهيكل محفورٌ في لغتنا وأفكارنا وتصرفاتنا.
وبالرغم من البساطة التي تتسم بها هذه الفكرة، لكنك لن تجد لها أثرًا في العلم. ولذلك فالمعادلات الفيزيائية لا تخبرنا عما يحدث في اللحظة الراهنة، لكن تلك المعادلات بمثابة خريطة خالية من أي رموزٍ من شأنها أن تخبرك عن مكانك فيها. وليس للحظة الحالية وجودٌ في تلك المعادلات الفيزيائية، وبالتالي لا يوجد أيُ تدفقٍ للزمن. وعلاوة على ذلك، فإن نظريات ألبرت أينشتاين عن الجاذبية تشير ليس فقط إلى عدم وجود حاضرٍ واحدٍ ذي رونقٍ خاصٍ، بل تشير أيضًا إلى أن جميع اللحظات على حد سواء هي أشياء حقيقية. وفي الواقع فالزمان ليس أكثر انفتاحًا من الماضي.
وقد اعترى المفكرون الحيرةَ طوال التاريخ بسبب الفجوة بين الفهم العلمي للزمان والفهم الاعتيادي له إذ أن تلك الفجوة اتسعت عندما جرّد العلماء الزمان تدريجيًا من تلك الصفات التي نسبناها له. وقد وصل الآن الخلاف بين الزمان الفيزيائي والزمان التجريبي لنتيجة منطقية إذ أنّ الكثيرين من علماء الفيزياء النظرية غدَوا يعتقدون أن الوقت ليس موجودًا من الأساس.
وقد كانت بوادر فكرة “الحقيقة اللازمنية” مذهلة جدًا لدرجةٍ جعلت من الصعب إدراك مدى تماسك تلك الفكرة. إنّ كل شيء نفعله مرتبطٌ بالزمان. والعالم هو عبارة عن سلسلة من الأحداث يربطها الزمان مع بعضها البعض. ويمكن لأي شخص -على سبيل المثال- أن يرى أنّ الشيب قد اعتلى شعر رجل عجوز ما وأن يرى أشياء أخرى تتحرك. لذلك نحن نرى التغيّر. والتغير هو اختلاف خصائص الأشياء بمرور الزمان. وبدون الزمان سوف يصيب العالم الجمود. وبذلك تواجه “النظرية اللازمنية” تحدياتٍ من أجل تفسير كيفية رؤيتنا للتغيير إذا لم يكن العالم يتغير حقًا.
وتحاول الأبحاث الحديثة القيام بهذا العمل الفذ. وعلى الرغم من أن الزمن قد لا يكون موجودًا من الناحية الجوهرية، إلا أن الزمن قد ينشأ عند مستويات أعلى – تمامًا مثل اتسام الطاولة بالصلابة بالرغم من أنها عبارة حشدٍ من الجسيمات تتكون في الغالب من فراغٍ. إذًا الصلابة هنا هي خاصية جماعية أو طارئة للجسيمات. والزمن هو الآخر يمكن أن يكون خاصية طارئة مهما كانت المكونات الأساسية للعالم.
من الممكن أن يكون مفهوم “الزمن الطارئ” مفهومًا ثوريًا يشبه تطور نظريات النسبية وميكانيكا الكم في القرن الماضي. وقد قال آينشتاين أنّ الخطوة الأساسية في تطوير النسبية هي إعادة تشكيل مفهومنا عن الزمان. وفي الوقت الذي يسعى فيه علماء الفيزياء إلى تحقيق حلمه في توحيد النسبية مع ميكانيكا الكم، فإنهم يعتقدون أن الزمان أصبح مرة أخرى شيئًا محوريًا رئيسيًا.
ولقد عانت أفكارنا الثريّة الزاخرة عن الزمان سلسلة من التقلبات على مدار العصور. وللزمن -في الفيزياء- العديد من الوظائف للقيام بها ولكن مع تقدم مجال الفيزياء، استعانت هذه الوظائف بجهات خارجية واحدة تلو الأخرى. ربما لم تكن تلك الوظائف جلية في البداية، غير أن قوانين إسحاق نيوتن للحركة تتطلب “زمانًا” للحصول على العديد من السمات المحددة. ويوافق جميع المراقبين مبدئيًا على التسلسل الذي تقع فيه الأحداث. وبغض النظر عن وقت أو مكان وقوع الحدث، فالفيزياء الكلاسيكية تفترض أنه يمكنك القول بشكل موضوعي ما إذا كان الحدث قد وقع من قبل أو من بعد أو في آن واحد مع أي حدث آخر في الكون. وبالتالي يوفر الزمان ترتيبًا كاملًا لجميع الأحداث في العالم. والتزامن هو شيء مطلق وهو حقيقة مستقلة عن المراقبين. علاوة على ذلك، يجب أن يكون الوقت متواصلًا حتى نتمكن من تحديد سرعته وتسارعه.
وينبغي أن يكون للزمن الكلاسيكي فكرة “الدوام” -وهي ما يطلق عليها الفيزيائيون دالّة المسافة- حتى نتمكن من معرفة مدى تباعد الأحداث الزمنية عن بعضها البعض.
لنفترض أنّ العدّاء الأولمبي يوسين بولت يمكنه الركض بسرعة تصل إلى 27 ميلاً في الساعة، نحن هنا بحاجة إلى قياس ما هي الساعة. ومثل ترتيب الأحداث، تكون فكرة “الدوام” مستقلة عن المراقب. على سبيل المثال، إذا غادر أليس وبوب المدرسة في تمام الساعة الثالثة، وقد ذهبا من طريقين منفصلين، ثم التقيا في المنزل عند الساعة السادسة، فإنّ مقدار الوقت المنقضي لأليس يساوي مقدار الوقت المنقضي لبوب.
وقد اقترح نيوتن بصفة أساسية أنّ العالم يأتي مزودًا بساعة رئيسية. تُحوّل هذه الساعة بشكل فريد وموضوعي العالمَ إلى لحظات من الزمن. وتستمع فيزياء نيوتن إلى تكتكة هذه الساعة دون غيرها. بالإضافة إلى ذلك، شعر نيوتن أنّ الوقت يتدفق وأن هذا التدفق يعطينا سهمًا يخبرنا بأي اتجاه هو المستقبل، بالرغم من أنَ هذه المميزات الإضافية ليست مطلوبة تمامًا بموجب قوانينه.
قد يبدو زمان نيوتن موضة قديمة الآن، لكن تَأثِير اللحظة يكشف عن كمّ أنه مذهل. إنّ مميزاته المتعدّدة التي تشمل النظام والاستمرارية والدوام والتزامن والتدفق والسّهم -هي أشياء قابلة للفكّ منطقيًا، ومع ذلك فهي تلتصق ببعضها البعض في الساعة الرئيسية التي أطلق عليها نيوتن “الزمان”. وقد نجح هذا الجمع من المميزات بشكل جيد حتى أنه بقي لما يقرب من قرنين.
ثم جاءت جحافل أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. في البداية جاء عمل الفيزيائي النمساوي لودفيج بولتزمان والذي جادل قائلًا: لأنّ قوانين نيوتن تعمل على قدم المساواة بشكل جيد في زمان يمضي إلى الأمام أو إلى الخلف، فليس للزمن أي سهم داخلي. واقترح بدلًا من ذلك أنّ التمييز بين الماضي والمستقبل ليس متأصلًا في الزمان ولكنه ينبع من عدم التناظر في كيفية تنظيم المادة في الكون.
ثم جاء أينشتاين متخلصًا من فكرة التزامن المطلق. ووفقًا لنظريته النسبية الخاصة، تعتمد الأحداث التي تقع في الزمان نفسه على السرعة التي تنتقل بها. ولذلك فالميدان الحقيقي للأحداث ليس الزمان أو المكان بل اتحادهما معًا في: الزمكان.
لذلك يختلف اثنان من المراقبين يتحرّكان بسرعات مختلفة حول مكان وزمان وقوع الحدث، لكنهما يتفقان على موقعه الزمكاني. والزمان والمكان هما مفهومان ثانويان، كما قال عالم الرياضيات هيرمان مينكوسكي عنهما -والذي كان أحد أساتذة جامعة أينشتاين-“إنهما محكومٌ عليهما بالتلاشي في الظلال الباهتة”.
وتزداد الأمور سوءًا في عام 1915 مع النظرية النسبية العامة لآينشتاين، والتي عززت النسبية الخاصة نحو الحالات التي تعمل فيها قوة الجاذبية. والجاذبية تشوّه الزمان بحيث لا يعنى الطريق الثاني هنا نفس الشيء في الطريق الثاني هناك. ومن الممكن فقط -في حالات نادرة- مزامنة الساعات والإبقاء عليها متزامنة حتى من حيث المبدأ. ولا يمكنك- وفقًا لمؤشر الزمان الفردي- أن تفكر بشكل عام في العالم بأنه آخِذ في التطور. وقد لا يكون العالم في الحالات القصوى محفورًا في لحظات الزمان على الإطلاق. ومن ثم يصبح من المستحيل القول بأنّ حدثًا ما وقع قبل أو بعد الآخر.
وللنسبية العامة العديد من الوظائف بالنسبة للكلمة الانجليزية “الزمان” المرفقة بها مثل: التوقيت الإحداثي والوقت المناسب والتوقيت العالمي. ومعًا يقومون بأداء العديد من الوظائف التي قام بها نيوتن مرة واحدة، ولكن لا يبدو أنّ أيًا منهم على حدة يستحق هذا اللقب. إما أنّ الفيزياء لا تستمع إلى هذه الساعات، أو إذا كانت كذلك، فإنّ تلك الساعات لا تنطبق إلا على بقع صغيرة من الكون أو على مراقبين معينين. وعلى الرغم من أنّ علماء الفيزياء اليوم يخافون من أنّ النظرية الموحدة ستضطر إلى القضاء على الزمان إلا أنه يمكن تقديم حجة جيدة مفادها أنّ الزمان قد خسر بالفعل بحلول عام 1915 وأننا لم نتمكن من التعامل معه بعد.
الوقت الكمي
إنّ أحد أهم أهداف الفيزياء الحديثة هو توحيد النسبية العامة مع ميكانيكا الكم وإنتاج نظرية واحدة تعالج كلًا من الجاذبية والجانب الكمومي للمادة ـ وهي نظرية الكم للجاذبية. إحدى العقبات كانت أن ميكانيكا الكم تتطلب زمانًا لامتلاك سمات تتناقض مع ما قلته حتى الآن.
تقول ميكانيكا الكم أنّ الأجسام لها مخزون غنيّ جدًا من السلوكيات أكثر مما يمكننا التقاطه بكميات كلاسيكية مثل الموقع والسرعة. ويتمّ إعطاء الوصف الكامل لجسم ما بواسطة دالة رياضية تسمى الحالة الكمية. هذه الحالة تتطور باستمرار عبر الزمان. وباستخدام تلك الحالة، يستطيع الفيزيائيون حساب احتمالات أيّ نتائج تجريبية في أي وقت. إذا أرسلنا إلكترونًا عبر جهاز يحرّكه إما لأعلى أو لأسفل، فقد لا تتمكن ميكانيكا الكم من إخبارنا على وجه اليقين بالنتائج المتوقعة.
بدلاً من ذلك، قد تعطينا الحالة الكمية فقط احتمالات النتائج. على سبيل المثال، هناك احتمال بنسبة 25 في المئة أن يتّجه الإلكترون نحو الأعلى واحتمال بنسبة 75 في المئة في أن يتجه إلى أسفل. وقد يعطي النظامان الموصوفان مع الحالات الكمومية المتطابقة نتائج مختلفة. وتكون نتائج التجارب هذه نتائج احتمالية.
وتتطلب التنبؤات الاحتمالية للنظرية “زمانًا” للحصول على ميزات معينة. أولاً، الزمن هو الذي يجعل التناقضات ممكنة. لا يمكن لحجر النرد المدحرج أن يعطي نتيجة رقم خمسة وثلاثة في نفس الوقت. يمكن أن تفعل ذلك فقط في أوقات مختلفة. وترتبط هذه الميزة بحقيقة أنّ احتمال ظهور النتيجة على كلّ من الأرقام الستة يجب أن يضاف ما يصل إلى 100 بالمائة، وإلا فإنّ مفهوم الاحتمال لن يكون ذا مغزى. الاحتمالات تضاف في الزمان وليس المكان. وينطبق الشيء نفسه على احتمالات أن يكون للجسيمات الكمية موقع معين أو زخم معين.
ثانيًا، إنّ الترتيب الزمني للقياسات الكمية يُحدث فرقًا. لنفترض أنني مررت إلكترونًا عبر جهاز ينحرف أولاً على طول الاتجاه العمودي، ثم على طول الاتجاه الأفقي. وعند ظهور الإلكترون أقيس زخم الدوران. ثم أكرّر التجربة، هذه المرة التي تحرف الإلكترون أفقيًا ثم رأسيًا، وأقيس زخم الدوران مرة أخرى. والنتيجة التي سأحصل عليها ستكون مختلفة إلى حدٍ كبيرٍ.
ثالثًا، توفر الحالة الكمية احتمالات للمكان في لحظة من الزمان. إذا كانت الحالة تشمل زوجًا من الجسيمات، فإنّ قياس جسيم واحد يؤثر في الحال على الآخر بغض النظر عن مكانه، مما يؤدي إلى “تصرّف شبحي يحدث عن بعد”، وهو ما تسبب في انزعاج أينشتاين من ميكانيكا الكم. السبب الذي ضايقه هو أنه لكي تتفاعل الجسيمات في نفس الوقت، يجب أن يكون للكون ساعة رئيسية، والتي تحرمها النسبية صراحةً.
على الرغم من أنّ بعض هذه القضايا مثيرة للجدل، إلا أنّ الزمان في ميكانيكا الكم هو في الأساس ارتداد إلى الزمان في الميكانيكا النيوتونية. والفيزيائيون قلقون من غياب الزمان في النسبية، لكن ربما كانت المشكلة الأسوأ هي الدور المركزي للزمان في ميكانيكا الكم. إنه السبب الرئيسي في أن التوحيد كان صعبًا للغاية.
إلى أين يذهب الزمان
سعى عدد كبير من برامج البحث إلى التوفيق بين النسبية العامة ميكانيكا الكم من خلال: نظرية الأوتار الفائقة، نظرية التثليث السببي، الهندسة غير الإبدالية، وغير ذلك. وانقسموا تقريبًا إلى مجموعتين: أولئك الذين قالوا بوجود زمانٍ كاملٍ؛ وهم فيزيائيون يعتقدون أنّ ميكانيكا الكم توفر أساسًا أكثر صلابة، مثل واضعي نظريات الأوتار الفائقة. وأولئك الذين يؤمنون أنّ النسبية العامة توفر نقطة انطلاق أفضل تبدأ بنظرية ينخفض فيها الزمن وبالتالي تكون أكثر انفتاحًا لفكرة وجود حقيقة لا زمنية.
لا شكّ أنّ التمييز بين هذين النهجين هو تمييز ضبابيّ. لقد توصّل واضعو نظريات الأوتار الفائقة مؤخرًا إلى نظريات لازمنية. ولكن لنقل المشكلة الأساسية التي يشكلها الزمان، سأركز على النهج الثاني.
ظهرت الجاذبية الكميّة الكونية في الخمسينيات والستينيات عندما أعاد الفيزيائيون كتابة معادلات آينشتاين للجاذبية في نفس شكل معادلات الكهرومغناطيسية، وكانت الفكرة هي أنّ نفس التقنيات المستخدمة لتطوير نظرية كَمّية للكهرومغناطيسية يمكن تطبيقها على الجاذبية أيضًا. وعندما حاول الفيزيائيان جون ويلر وبرايس ديويت هذا الإجراء في أواخر الستينيات، توصّلوا إلى نتيجة غريبة للغاية. وقد افتقرت المعادلة (يطلق عليها اسم معادلة ويلر ديويت) تمامًا إلى متغير الزمن. لقد اختفى الرمز “t” الذي يشير إلى الزمن في الكلمة الانجليزية “time”.
هكذا تعاقبت عقود من الذّعر بين الفيزيائيين. كيف يمكن أن يختفي الزمان؟ في الماضي، هذه النتيجة لم تكن مفاجئة تمامًا. وكما ذكرت سابقًا أنّ الوقت قد اختفى تقريبًا من النسبية العامة حتى قبل محاولة الفيزيائيين دمجَها مع ميكانيكا الكم. إذا أخذت هذه النتيجة حرفيًا، فالوقت ليس موجودًا حقًا.
كارلو روفيلي من جامعة البحر الأبيض المتوسط في مرسيليا بفرنسا، أحد مؤسسي حلقة الجاذبية الكمية، وهو كاتب مقال بعنوان “نسيان الوقت” في “معهد الأسئلة الأساسية” FQXi، كان هو والفيزيائي الإنجليزي جوليان بربور هم أبرز مؤيّدي هذه الفكرة. ولقد حاولا إعادة كتابة ميكانيكا الكم بطريقة لازمنية كما تتطلب النسبية ذلك.
والسبب الذي يجعلهم يعتقدون أنّ هذه المناورة ممكنة هو أنه على الرغم من افتقار النسبية العامة إلى زمان عالمي، إلا أنها لاتزال قادرة على وصف التغيير. وتقوم بذلك بصفة رئيسية من خلال ربط الأنظمة المادية بعضها ببعض مباشرة بدلاً من بعض الفكرة المجردة للزمان العالمي.
وفي تجارب أينشتاين الفكرية، يحدّد المراقبون توقيت الأحداث من خلال مقارنة الساعات باستخدام إشارات ضوئية. قد نَصِف التباين في موقع القمر الصناعي حول الأرض على أساس تكتكات الساعة الموجودة في مطبخي أو العكس. ما نفعله هو وصف الارتباطات بين جسمين ماديين، مطروحًا منه أيّ وقت عالمي كوسيط. بدلاً من وصف لون شعري باعتباره تغيّرًا يحدث بمرور الزمان، يمكننا ربطه بمدار القمر الصناعي. فبدلاً من القول بأنّ كرة البيسبول تتسارع بسرعة 10 أمتار في الثانية، يمكننا وصف ذلك من حيث تغيير النهر الجليدي. وما إلى ذلك وهلمّ جرّا. وحتى يصبح الزمان شيئًا إضافيًا بحيث يمكن وصف التغيير بدونها.
هذه الشبكة الهائلة من الارتباطات منظمة بشكل جيّدٍ بحيث يمكننا تحديد شيء يسمى “الزمان” وربط كلّ شيء به، مما يخفّف من عبء تتبع جميع تلك العلاقات المباشرة. يستطيع الفيزيائيون أن يلخّصوا بشكلٍ محدود عمل الكون من حيث القوانين الفيزيائية التي تنفذ عبر الزمان. لكن هذه الحقيقة المريحة لا ينبغي أن تخدعنا في الاعتقاد بأن الزمان جزء أساسي من أثاث العالم.
والتخلّص من فكرة الزمان له جاذبيته لكنه ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الأضرار الجانبية. خذ مثالًا، سيتطلب ذلك إعادة التفكير في ميكانيكا الكم بدقة. ثم النظر في الحالة الشهيرة من قطة شرودنغر حيث يعلق القط فيها في حالة بين الحياة والموت، ومصيره يتوقف على حالة الجسيم الكمومي. بالطريقة المعتادة في التفكير، يصبح القط شيئًا ما أو شيئًا آخرًا بعد إجراء قياسٍ ما أو بعض العمليات المماثلة. على الرغم من ذلك، سيقول روفيلي أنّ وضع القط لا يُحل أبدًا. ربما يكون الشيء المسكين ميتًا بالنسبة إلى نفسه، حيًا بالنسبة إلى إنسان في الغرفة، ميتًا بالنسبة إلى إنسانٍ ثانٍ خارج الغرفة، وهكذا.
عودة فكرة الزمان
حتى لو كان العالم لازمنيًّا في الأساس، فهو لا يزال يبدو كما لو كان لديه زمنًا فيه. وهناك سؤالٌ ملحٌّ لأي شخصٍ يتبنى الجاذبية الكونية اللازمنية يشرح لماذا يبدو العالم متعلقًا بالزمان. تفتقر النسبية العامة أيضًا إلى الوقت النيوتوني، ولكن على الأقل لديها بدائل جزئية مختلفة تتصرف معًا مثل الزمان النيوتوني عندما تكون الجاذبية ضعيفة والسرعات النسبية منخفضة. ومعادلة ويلر-ديويت تفتقر حتى إلى تلك البدائل. قدّم كلّ من باربور وروفيلي اقتراحات حول كيفية ظهور الزمان (أو على الأقل وهم الزمان) من العدم. لكنّ الجاذبية الكمية الكوانتية تقدم بالفعل فكرة أكثر تطورًا.
في ورقة تُعرف باسم “الزمن شبه الكلاسيكي” تعود إلى عام 1931 كُتبت من قبل الفيزيائي الإنجليزي “نيفيل ف. موت” كان قد وصف فيها الاصطدام بين نواة الهيليوم وذرة أكبر. ولوضع نموذج النظام بأكمله، طبّق “موت” معادلة تفتقر إلى الزمان ويتم تطبيقها عادة فقط على الأنظمة الثابتة. ثمّ قسّم النظام إلى نظامين فرعيين واستخدم نواة الهيليوم على أنها “ساعة” للذرة. من اللافت للنظر أنّ الذرة- بالنسبة إلى النواة – تخضع للمعادلة القياسية المعتمدة على الزمان لميكانيكا الكم. وتقوم مهامّ المكان بدور الزمان. لذا على الرغم من أنّ النظام ككلّ لازمني، فإنّ القطع الفردية ليست كذلك. والشيء المخفيّ في المعادلة اللازمنية للنظام الكلي هي زمان النظام الفرعي.
وقد كان هناك الكثير من الأعمال على الجاذبية الكمية، كما قال كلاوس كيفر من جامعة كولونيا في ألمانيا، على خطى توماس بانكس من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، وغيرها، في مقالته على FQXi. قد يكون الكون لازمنيًّا، ولكن إذا كنت تتخيل كسره إلى أجزاء، فإن بعض القطع يمكن أن تكون بمثابة ساعات للآخرين. إن الزمان ينبع من اللازمنية. نحن ندرك الزمان لأننا بطبيعتنا واحدة من تلك القطع.
هذه الفكرة مثيرة للاهتمام ومذهلة إذ أنّ المجال متروك في حالة تشوقٍ لمعرفة المزيد. لكننا لا يمكن دائمًا تقسيم الكون إلى أجزاء تعمل كساعات، وفي هذه الحالات، لا تقدم النظرية أية تنبؤات احتمالية. إنّ التعامل مع هذه المواقف سيأخذ نظرية الكم للجاذبية برمتها نحو طريق لإعادة التفكير العميق عن الزمان.
ومن الناحية التاريخية، بدأ الفيزيائيون بالزمان التجريبي المنظم للغاية، زمان به ماضٍ ثابت، ومستقبل حاضر ومفتوح. فكّك الفيزيائيون هذا الهيكل تدريجيًا، ولم يبقَ سوى القليل إن وجد منه شيء من الأساس. ويجب على الباحثين الآن عكس مسار التفكير هذا وإعادة بناء زمان التجربة عبر زمان الفيزياء غير الفراغية، والتي قد تحتاج هي نفسها إلى إعادة هيكلة عبر شبكة من الارتباطات بين أجزاء من عالم ثابت أساسي.
جادل الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي قائلاً بأنّ الزمن نفسه لا يتدفق حقًا وأنّ تدفقه الظاهر هو – مشبهًا أنفسنا- نتاج “وضعنا الخفي في نهر ما نشاهد فقط مساره”. وبعيدًا عن هذا، فإنّ الاتجاه إلى الاعتقاد بتدفقات الوقت هي نتيجة نسيان وضع أنفسنا وعلاقاتنا مع العالم في الصورة. كان ميرلو بونتي يتحدث عن تجربتنا الشخصية للزمان، وحتى وقت قريب لم يخطر على بال أحد أنّ الزمان الموضوعي قد يُفسّر كنتيجة لهذه الروابط. قد يكون الزمان موجودًا فقط عن طريق تحطيم العالم إلى أنظمة فرعية والنظر إلى ما يربطهم ببعضهم البعض. في هذه الصورة، يظهر الزمان الفعليّ بحكم تفكيرنا بأنفسنا على أنه منفصل عن كل شيء آخر.
المدافعون عن تدفق الوقت
لا يعتقد جميع الفيزيائيين أنّ العالم لازمنيّ في الأساس. واحدة من الأفكار البديلة الأكثر إثارة للاهتمام هي نظرية “المجموعة السببية” التي طورها رافائيل سوركين وديفيد ريدوت من معهد بيرميتر للفيزياء النظرية في أونتاريو. تفترض النظرية أنّ العالم عبارة عن مجموعة من الأحداث، يطلق عليهم اسم المجموعة السببية والتي تنمو مع ظهور أحداث جديدة وفقًا للقواعد الاحتمالية. والأمل هو أن تقوم هذه العملية بإعادة إنتاج ميزات الزمكان التي نتصورها، بما في ذلك تدفق الزمان. لكنّ السؤال المعلق هو ما إذا كانت هذه العملية تنتج عوالم متوافقة مع نظرية النسبية.