الأغنية في زمن الكورونا
في هذه الأوقات العصيبة، التي حدّت من تحركاتنا، ووضعت قيودًا على صِلاتنا، وفرقت بيننا وبين من نحب، لم يكن هناك من بدٍ إلا الاستعانة بالموسيقى والفن الجميل، فالموسيقى غذاءٌ روحي، وعزاءٌ معنوي، وهي قادرة على الإلهام وإشاعة الأمل والبهجة والسرور حين سماعها.
ـ نيل سيداكا
هكذا بدأ نيل سيداكا أول حفلاته الموسيقية القصيرة، التي قرر أن يهديها لعشاق فنه، وللعالم أجمع، للتخفيف من أثر تلك الجائحة التي فرضت حجرًا إلزاميًا على العالم بكل ما يتضمنه ذلك من ضجر وإحباط. وكان نيل سيداكا، الذي يتجاوز عمره اليوم ثمانين عامًا، من أهم رواد موسيقى الشباب pop-music، سريعة الإيقاع، التي بدأت في الانتشار حول العالم أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، ولاقت نجاحًا منقطع النظير في أوساط الشباب بين الرابعة عشر والعشرين من العمر.
وصلت تلك الموسيقى إلى العالم العربي، وإلى مصر على وجه التحديد، عن طريق برنامج “ما يطلبه المستمعون” At Your Request بالإذاعة الأوروبية، وبرنامج سوسن سامي بإذاعة الشرق الأوسط مساء كل ثلاثاء، وعرف الجمهور المصري أسماء إلفيس بريسلي وبول أنكا ونيل سيداكا، وظهرت أغنياتهم المسجلة على أسطوانات في حفلات أعياد الميلاد، وعلى شواطئ المتوسط، بل وظهرت فرق مصرية من الشباب تتغنى بهذه الأغنيات.
احتفى جيل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بظهور حفلات نيل سيداكا القصيرة يوميًا على موقع الفيسبوك منذ شهر مارس 2020، وانضم إليهم مع مرور الأيام، ومع تنوع أغاني نيل سيداكا وتعددها، المزيد من الجيل القديم، ممن أمطروا المطرب الكبير بتعليقاتهم وإعجابهم وما يطلبونه من أغنيات أحيت الذكريات والحنين إلى الماضي، وأيام الشباب والحب الأول والبراءة، وسرعان ما انضم إليهم متذوقو موسيقاه من الأجيال الجديدة، لتصل إلى الآلاف من جميع دول العالم، ينتظرون بشغف -كل صباح- إطلالة النجم الكبير من منزله، عازفًا على البيانو، وببغاؤه باسل من ورائه، دون مصاحبة أوركسترا أو كورال.
ولد نيل سيداكا عام 1939، لأسرة متواضعة بمدينة نيويورك، وظهرت موهبته الموسيقية وقدرته الفذة على العزف على آلة البيانو منذ طفولته المبكرة، وكان والد نيل سيداكا سائقًا لعربة أجرة، إلا أنه اقتصد لشراء بيانو، واستأجر مدرسًا خاصًا للموسيقى ليساعد الطفل الموهوب على تنمية موهبته، وقد اقترح المدرس على الوالد أن يتقدم بطلب لمنحة دراسية خاصة لتلميذه النابغ بمعهد جوليار، الذي قبله على الفور، ورأى في عزفه على البيانو مؤشرًا لمشروع عازف عالمي، وكانت أحلام نيل سيداكا حينها تدور حول استكمال دراسته للحصول على درجة الدكتوراة في الموسيقى.
كان نيل سيداكا منطويًا، قليل الأصدقاء، إذ لم يشاركه حبه لبيتهوفن وشوبان وموزارت أقرانه من طلاب مدرسة لينكولن الثانوية، إلى أن قرر المشاركة في حفل المواهب الثانوي الذي تقيمه المدرسة كل عام، وقام نيل في الحفل بالتخلي عن دور لاعب الموسيقى الكلاسيكية الجاد، فقام بعزف وغناء مجموعة من الأغاني الشبابية المنتشرة بين الشباب ذلك العام.
وأصبح نيل بين ليلة وضحاها نجم المدرسة الأول، وتسارع لصداقته كل فتيات المدرسة وفتيانها، واقتنع نيل سيداكا منذ تلك اللحظة بأن بمقدرته أن يتبنى هذا اللون من الموسيقى بيسر ونجاح، فقام سيداكا بتأليف عدد من الألحان لم يكن ينقصها سوى كلمات مناسبة لإذاعتها في عالمه الصغير، وسرعان ما وجد ضالته في جارٍ كان يزوره منذ عدة أعوام، وكان موهوبًا قادرًا على كتابة الشعر والزجل، فأصبحا شريكين في الكتابة والتلحين، ومثّلا ثنائيًا من أهم ثنائيات أغاني الروك أند رول والموسيقى الشعبية.
ثم أسس نيل فرقة موسيقية باسم The Tokens، نجحت في إصدار أول أسطوانات نيل سيداكا لتفوز بشعبية محلية في نيويورك والمناطق المحيطة بها، وساهمت أشهر مطربات الخمسينيات، كوني فرانسيس، في وصول نيل سيداكا إلى العالمية بتسجيل أغنيتين من تأليف جرينفيلد وتلحين سيداكا، وهما Stupid Cupid (كوبيد الغبي)، وWhere the Boys Are (أين الشباب)، التي تصدرت قوائم أكثر الأغنيات مبيعًا في أمريكا وإنجلترا. وعلى الرغم من تردد شركات الأسطوانات في قدرة نيل سيداكا على أداء أغانيه، نظرًا لنبرة صوته العالية، وعزفه للبيانو بدلًا من الجيتار مثل الفيس بريسلي، إلا أن أغنيته Oh Carol نجحت نجاحًا باهرًا، وكان نيل قد أهداها لحبه الأول كارول كينج، والتي أصبحت نجمة عالمية فيما بعد، فأصبح في سنواتٍ قليلة من أهم منافسي إلفيس بريسلي في أمريكا، وكليف ريتشارد في إنجلترا، ودُعِي للغناء في أوروبا، حيث أقام عدة حفلات ناجحة، وانتقل منها إلى إيطاليا حيث سجل أعظم أغنياته الشهيرة باللغة الإيطالية، وبلغت مبيعات أسطواناته ما بين عامي 1959 و1963 ما يزيد عن 40 مليون أسطوانة.
شهد عام 1964 ثورة عارمة في عالم الموسيقى الشعبية بظهور فريق الخنافس The Beatles، وهم أربعة فتية من ليفربول، نجحوا في اكتساح شعبية موسيقى الشباب، فاختفى حينها الكثير من المطربين من أمثال بوبي دارين وفرانكي أفالون وغيرهما كثير، لتحل محلهم فرق مثل الأحجار المتدحرجة والحيوانات، فأسقطت شركة RCA للأسطوانات نيل سيداكا من حساباتها، ومما زاد الطين بلةً أن والدته كانت قد تزوجت بعد وفاة أبيه من محتالٍ تولّى إدارة مكاسب نيل سيداكا المادية، مما كاد أن يودي بالفنان الشاب إلى الإفلاس.
وعمل نيل لفترة وجيزة، بمصاحبة بعض الفرق الجديدة على آلة البيانو، حيث إن أعباءه المادية كانت قد بدأت في الازدياد بعد زواجه، وبعد أن رزق بطفلين، وكانت شهرته قد بدأت في الأفول، فوافق سيداكا على اقتراح مدير أعماله بالإقامة في إنجلترا، حيث كان قد تلقى بضعة عروض للغناء بمختلف مسارحها وملاهيها الليلية المختلفة، نظير دخلٍ متواضع، يضمن له ولعائلته مورد رزقٍ ثابت شهريًا.
وعرض مدير أعمال فريق ناشيء على نيل سيداكا التعرف على أفراد فرقته المسماه 10cc، والقيام بتسجيل ألبوم جديد معهم، ورأى سيداكا في هذا الاقتراح فرصة ذهبية لتسجيل عدة أغانٍ كان قد انتهى منها ووجد في فرقة 10cc الفرقة المثلى لتأديتها، والعودة به إلى الشهرة التي افتقدها لسنوات.
ثم عرض المطرب العالمي إلتون جون، والذي كان قد أسس لتوه شركة أسطوانات جديدة، أن يتولى إصدار ألبوم أطلق عليه “عودة سيداكا” Sedaka is Back، متضمنًا أغنياته الحديثة التي كان قد اختار لها شاعرًا جديدًا، وهو فيل كودي، وسرعان ما اكتسب شهرة عالمية، بل وقد وصلت ثلاثة منها إلى قمة الأغنيات العالمية: Bad Blood أي الدم الفاسد، وLaughter in the Rain أي ضحك تحت زخات المطر، وLove Will Keep Us Together أي ولسوف يجمعنا الحب.
وانهالت الدعوات على نيل سيداكا من شتى أنحاء العالم، لتقديم عروضه الموسيقية، وتنافست محطات الإذاعة والتلفزيون في إعداد عروض له، وأفلام وثائقية عن حياته وأغنياته، وقد تنافس كبار المطربين في العالم، من أمثال إلفيس بريسلي وتوم جونز وشيرلي بيسي، وآخرين، على شراء حق الأداء العلني لأداء ألحان ذلك الفنان الفذ.
هذا وقد فاجأ ظهور نيل سيداكا من خلال حفلاته الموسيقية الصغيرة جماهيره بأغانٍ وألحان لم يكونوا قد سمعوا ببعضها -أو أكثرها- من قبل، وكان نيل سيداكا قد قرر، حين بدأ الإعداد لهذه الحفلات الصغيرة، بفتح كل خزائنه الموسيقية، من موسيقى وأغانٍ كتبها عبر ما يربو على ستين عامًا، ضمنها أغنيات أهداها لأمه، ولزوجته ليبا، وابنه وابنته، بل ولأحفاده أيضًا، حيث قام بإعادة تسجيل أكثر أغانيه شعبيةً بإعادة كتابتها كأغانٍ للأطفال، بل وقام بغناء ألحانٍ لأعظم الموسيقيين من أمثال بيتهوفن وشوبان وموزارت وغيرهم.
واليوم، وقد بدأنا الشهر الثالث من حفلات سيداكا الصغيرة، نتوجه إليه، من هذا المنبر الإعلامي العربي، المؤمن بالفكر وبدور الفن الراقي في التصدّي لأحلك الظروف وأصعب الأزمات بالفن الهادف والنبيل، بالامتنان باسم العرب والمصريين لمطرب الأجيال نيل سيداكا.