نيتشه: موت الإله وإرادة القوة .. سيد رجب

لا تخفى علينا سيطرة الحضارة الغربية منذ مدة طويلة وتوغل الغرب، كنتيجة طبيعية، في أغلب جوانب حياتنا. وكما أنه واجب علينا أن ندرس الفكر العربي والإسلامي انطلاقًا من أن هذا الفكر يشكل وجداننا ويعد ظهيرًا حضاريًّا لنا، يجب علينا أيضًا أن نهتم بالفكر الغربي كظهير حضاري للحضارة المسيطرة الآن، وهو الظهير الذي نتأثر به دون وعي به؛ إذ يتأثر به الغرب الذي يؤثر علينا. انطلاقًا من السالف ذكره، يصبح من الأهمية بمكان الاطلاع على كتابات من أثروا في الوجدان الأوروبي والغربي بشكل عام مثل نيتشه، كافكا، سارتر، روسو وغيرهم. في هذا المقال سيتم عرض فكرة موت الإله عند نيتشه والبديل الذي دعا إلى تبنيه.

نبذة عن نيتشه:

نشأ نيتشه في أسرة ألمانية بروتستانتية متدينة في منتصف القرن التاسع عشر، وكان والده قسيسًا، لكنه توفي في صغره، وكانت عائلته وثيقة الصلة بالكنيسة. درس نيتشه اللاهوت والفلسفة الكلاسيكية، لكنه ترك اللاهوت وركز على الفلسفة. يظهر تأثر نيتشه بالمسيحية بجانبه السلبي في كتاباته؛ إذ كان دائم النقد للمسيحية وكان كثير الاستعمال للإشارات الإنجيلية، بل وكتب كتاب (هكذا تكلم زرادشت) بأسلوب يحاكي في كثير من المواضع الأسلوب الإنجيلي وأسماه الإنجيل الخامس، وهو الكتاب الذي حوى الكثير من الإشارات الساخرة من الأخلاق المسيحية ومن الأخلاق السائدة بشكل عام، ويعد ملخصًا مكثفًا لفلسفة نيتشه بأسلوب شعري. تأثر نيتشه في بداياته بشوبنهاور وتأثر بكتابه (العالم كإرادة وتمثل)، لكنه تحول إلى نقد شوبنهاور وقال عنه أنه متشائم، في حين كان نيتشه داعيًا إلى المرح، وقد أوضح علاقته بشوبنهاور في عدة مواضع منها في كتاب (هذا هو الإنسان).

موت الإله:

عام 1882 في مطلع كتاب (العلم المرح) أورد نيتشه فكرة موت الإله على لسان شخص مجذوب يتجول في السوق ويقول “أين الإله؟ إني أبحث عن الإله. سأقول لكم. لقد قتلناه، أنا وأنتم”. أورد نيتشه هذه الفكرة مجددًا في كتاب (هكذا تكلم زرادشت). تعرضت فكرة موت الإله للتأويل كثيرًا وقرأنا لها الكثير والكثير من التأويلات السطحية التي استغرق أصحابها أنفسهم في هذا الجزء من النص وفي العبارات التي جاءت على لسان الرجل المجذوب، دون النظر إلى سياق العبارة وإلى الاتجاه العام لفلسفة نيتشه، ولو أنهم استمروا في استعراض فلسفته للنهاية وعرفوا الغاية منها لأدركوا مدى ضحالة تأويلاتهم.

بالنسبة لنيتشه، الإله والدين والقيم الخاصة بالمساواة، العدل، الشفقة، الإيثار وغيرها من القيم التي اعتدنا على النظر إليها بصورة إيجابية ليست إلا أوهامًا اخترعها البشر بأنفسهم وأجلُّوها وقدسوها أيما تقديس. يرى أن تلك القيم مخترعة من قبل الضعفاء الذين لا مخالب ليجدوا فيها الملاذ بعد أن يعجزوا عن الحصول على حقوقهم، وركز هنا على القيم المسيحية. بالتالي كانت هذه القيم بالنسبة له قيم ضعف يجب التخلص منها للارتقاء. يعد احترام وتقديس الإنسان لهذه الأشياء التي سماها أوهامًا عرضًا من أعراض الانحطاط، وبالتالي ليس للإنسان أن يرتقي إلا بالتخلي عن هذه الأوهام والتحول نحو بديل أفضل.

من الجدير بالذكر أن ثمة نقطة بالغة الأهمية لم تغب عن فكر نيتشه أثناء زفه لخبر موت الإله ألا وهو أن الإله والقيم وكل هذه الأمور هي التي تنظم حياة البشر وتمنع الفوضى، بالتالي لم يكن نيتشه يعادي تلك الرموز عداءً أعمى يغفله عن أهميتها. انطلاقًا من هذه النقطة، أراد نيتشه أن يأتي ببديل يمنع الناس من الوقوع في العدمية، إذ يسبب غياب كل ما ينظم حياة الإنسان حالة من الفراغ، وهذا الأخير بدوره يؤدي إلى الفوضى.

إعلان

إرادة القوة (البديل):

بعد التخلص من قيم الضعف والانهيار تأتي مرحلة الفراغ، وهي المرحلة التي لا يجد الإنسان فيها مركزًا، وتختفي فيها تمامًا القيم التي فرضت عليه سابقًا من الخارج. ليست هذه المرحلة هي ما يبتغيه نيتشه، فلا شيء فيها إلا الفراغ، ومن هنا يأتي دور إرادة القوة. بسبب هذه النقطة بالذات اتهم البعض نيتشه بالداروينية ورد عليهم في كتاب (هذا هو الإنسان). لم تكن إرادة القوة لديه مجرد إرادة للبقاء على قيد الحياة، لكنها إرادة للتفوق على الآخرين وإرادة للإبداع وهي التي تساعد الإنسان على التخلص من الفراغ من خلال ابتداع قيمه الخاصة، وهي مختلفة عن القوة لدى داروين والتي تساعد على الصراع من أجل البقاء.

تعد إرادة القوة أداة وليست هي الغاية، فهي أداة الإنسان للإبداع وأداة للتفوق وأداة لابتداع القيم، وفضلًا عن هذا كله هي الأداة التي تساعده على الارتقاء في السلم البشري للوصول إلى الإنسان الأعلى (Übermensch) الذي هو، بالنسبة لنيتشه، المرحلة الأعلى والتي لم يصل إليها أحد من قبل. والإنسان الأعلى ليس كالإنسان القديم يهرب من العدمية ويلوذ بالأوهام لتقيه من غياب المعنى وغياب الغاية، لكنه على النقيض تمامًا يواجه هذه العدمية بشجاعة ويقوم بابتداع القيم التي تناسبه وتساعده على النمو، وبالتالي يصبح الإنسان هو الخالق (خالق القيم).

ومنعًا لاختلاط الأمر على القارئ، ليس الإنسان الأعلى لدى نيتشه هو فرد بالمعنى الحيوي، لكنه يقصد به المرحلة التي يكون فيها الإنسان قادرًا على تجاوز نفسه والتخلي عن القيم المطلقة وحتى عن فكرة وجود الإله. كما أن موت الإله لديه ليس بالمعنى المسيحي (موت الجسد)، لكنه يتعامل مع الإله كفكرة وليس كشخص؛ لأنه بالنسبة له غير موجود (فكرة اخترعها البشر ليلوذوا بها من العدمية).

خاتمة:

حدث ما توقعه نيتشه من علو مكانته بعد موته والاهتمام بأفكاره، وزاد على هذا وذاك أن طبقت العديد من أفكاره، لكن النتيجة النهائية التي أرادها لم تتحقق بعد. كان فكر نيتشه للإنسانية عامة، لكن ما طُبق من أفكاره طبق في أماكن معينة، بشكل شبه جماعي، دون غيرها. وحتى في الأماكن التي غاب فيها الدين، عادت القيم في ثوب جديد لتسمى ب (القيم الإنسانية) ولم يغب الدين فيها بشكل كامل ونرى الآن عودة صعوده، وبالتالي تعتبر تصورات نيتشه أقرب للتصورات الحالمة، فحتى إن اختلفت مع الدين أو الإله، لا تستطيع أن تلغي وجودهما أو تتصور العالم والإنسانية بدونهما، وهذا ما يشهد به التاريخ الإنساني في عمومه، لكن في النهاية كل شيء يحتمل التغيير.

قائمة المراجع:

  1. فريدريك نيتشه، العلم المرح، المترجم (حسان بورقية، محمد الناجي)، (الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 1993)
  2. فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، المترجم(علي مصباح)، (القاهرة، مكتبة التقوى، 2021)
  3. فريدريك نيتشه، هذا هو الإنسان، المترجم(علي مصباح)، (القاهرة، دار تواصل، 2022)
  4. منال إسماعيل، مآل الموت النيتشويفي: الفلسفة الحديثة بالفكر الغربي المعاصر: نموذجا رولان بارت، مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية، 2021، ص 199 – 212، مسترجع من: http://search.mandumah.com/Record/1278984

إعلان

اترك تعليقا