نهاية الاقتصاد السياسي
الاقتصاد السياسي عِلم أوروبيّ النشأة والنكهة. بَرزَ كي يفسر ظواهر(جديدة!) على المجتمع الأوروبيّ. ظواهر لم يألفها، أو على الأقل هكذا صور المفكرون الرَّسميون الأمر: الآلة. السلعة. الإنتاج من أجل السُّوق. الهدر الاجْتماعيّ. الرأسمال. الرَّأسماليّ. القِيمة الزَّائدة. المصنع. بيع قوة العمل. الأثمان. المبادلة النقديَّة.. إلخ؛ فكان من المتعيّن ظهور العِلم المفسر لهذه الظَّواهر، والكاشف عن قوانينها الموضوعيَّة. ولذا ظهر الاقتصاد السياسي كعلم هدفه البحث في ظواهر نمط الإنتاج الرَّأسماليّ. بعبارة أكثر دقة: هدفه البحث في القانون الموضوعيّ العام الَّذي يحكم الإنتاج والتَّوزيع في المجتمع الرَّأسماليّ. هذا القانون العام هو قانون القِيمة. وحينما يجري تجاهل هذا القانون، يتوقف، في نفس اللحظة، الحديث في علم الاقتصاد السياسي ويُستَدعى (علم!) الاقْتصَاد الَّذي يتجرعه علقمًا الضحايا في المدارس والجامعات في العالم الرَّأسماليّ المعاصر بوجهٍ عام، وفي عالمنا العربيّ بوجهٍ خاص، ومصر بالأخص.
وتكمن المأساة في استمراء الخلط الفج بين الاقتصاد السياسي والاقْتصَاد، بل في الكثير من الأحيان يتم تلقين نظريات “الاقتصَاد” (الحدّي، والكينزيّ، والرياضيّ، والقياسيّ..)، داخل مؤلفاتٍ كُتِبَ على أغلفتها الخارجيَّة: مبادىء/ محاضرات في الاقتصَاد السِّياسيّ!
في هذا المقال أشرح كيف تم تاريخيًّا إقصاء الاقْتصَاد السِّياسيّ وإعلان نهايته على يد النظريَّة الرَّسميَّة الخادم الأمين للمؤسَّسات السِّياسيَّة وبرلمانات الذهب والدم.
من قانون القيمة إلى ترهات المنفعة
خلال قرنَين من الزمان (1623-1871) تَبلَور الاقتصاد السياسي كعلم اجتماعي محل انشغاله الإنتاج عند آدم سميث، والتَّوزيع لدى دافيد ريكاردو، وهيكل النظام لدى كارل ماركس. والقاسم المشترك كان قانون القِيمة. لكن هذا العلم توارى تاريخيًّا مع آخر صفحة من كتاب رأس المال الَّذي أنجزه ماركس، المفكر لا الصنم. بالتأكيد وُجدت دراسات وأبحاثٌ أصيلة (أمين، وأوتار، وباران، وبراون، وبتلهايم، وبيرو، ودوب، وفرانك، وسنتش، وسرافا، وسويزي) ولكنها ظلت خارج إطار النظرية الرَّسميَّة على أقل تقدير في الأجزاء المتقدمة، وجُل الأجزاء المتخلّفة من النظام الرَّأسماليّ العالميّ المعاصر، إذا استثنينا الاتحاد السوفياتيّ الَّذي اتَّخذ من الاقتصاد السياسي أداةً أسطورية لإخضاع الجماهير! ومن هنا، ومن باب أولى، لا يمكن اعتبار ذاك التيار الفكريّ الَّذي سوف يتربع على عرش الفكر الأكاديميّ الرَّسميّ، التَّابع للمؤسَّسة السِّياسيَّة بطبيعة الحال، امتدادًا لعلم الاقْتصَاد السِّياسيّ لأنه، وكما سنرى أدناه، يمثل فنًّا، لا عِلمًا، يستند إلى بعض الأفكار العامة للكلاسيك.
فنحن نعلم أن ماركس تلقى المبادىء العامة لعلم الكلاسيك، وحاول أن يستكمل بمقتضاها علم الاقْتصَاد السِّياسيّ، لكنه كان أكثر قسوة في النقد من أسلافه الَّذين مَفصلوا حول قانون القِيمة جملة من القوانين الَّتي تتيح فهم النظام وتطوره عَبْر الزَّمن. وفي الوقت الَّذي كانت فيه شوارع أوروبا تَغلي بالثوراتِ العُماليَّة والاحتجاجات الجماهيريَّة في أواسط القرن التَّاسع عشر، كانت المؤسَّسة التَّعليميَّة الرَّسميَّة (الجامعة الأوروبيَّة) تُعِد العدة للحرب الفكرية المضادة! فلقد تبلور تيار النيوكلاسيك، وفي المقدمة: فون ثنن (1783-1850) وكورنو(1801-1877) وجوسن (1810-1858) وليون فالراس (1834-1910) وجيفونز (1835-1882) وكارل منجر (1840-1921) وألفريد مارشال (1842-1924) وفون فايزر (1851-1926) وبوهم بافرك (1851-1914) وفون ميزيس (1881-1973) وفون هايك (1889-1992). مع هذه الحرب المضادة أخذ الاقْتصَاد السِّياسي، كعلمٍ اجتماعي، في التراجع مختفيًا من الوجود الأكاديمي ومن التَّحليل العلميّ اليومي كي يحلَّ محلَّه (علم!) الاقتصَاد كفنٍّ تجريبيّ صارت له الهيمنة على فكر المؤسّسة التَّعليميَّة وفكر المؤسَّسات النَّقديَّة والماليَّة الدَّوليَّة كالصندوق والبنك الدوليَّين.
فمع الربع الأخير من القرن التَّاسع عشر، تبلورت أفكار المدرسة النيوكلاسيكية، الَّتي تسوَّق دائمًا على أساس من كونها امتدادًا لأفكار الكلاسيك، كي تقوم بتصفية العِلم الاقْتصَاديّ من محتواه الاجْتماعيّ مع عزله عن باقي العلوم الاجْتماعيَّة الأخرى. الأمر الَّذي أعلن معه نهاية الاقْتصَاد السِّياسيّ، وظهور (علم!) الاقتصاد. فـ (علم!) الاقْتصَاد بالنْسبة للتيار النيوكلاسيكيّ هو علمٌ معملي والعلاقات الاقتصاديَّة المتمثلة في الإنتاج والتَّوزيع على الصعيد الاجْتماعيّ هي علاقات بين أشياء مادية، ليس لها أدنى علاقة بالمجتمع! وعلى ذلك ينطلق هذا التيار، الَّذي سيقود المؤسسة التعليميَّة، من فكرة المنفعةكمركز تدور في فلكهِ جُل علاقات النشاط الاقْتصَاديّ الَّتي تم اختزالها في المعادلات الرياضيَّة والدوالّ الخطيَّة والرسوم البيانيَّة، اعتمادًا على تفسيرٍ هزلي للقِيمة؛ فالقِيمة لدى النيوكلاسيك هي أمرٌ وجداني؛ حيث يرى كل شخص قِيمة الشَّيْء من وجهة نظره الذَّاتية. وبالتَّالي صارت قِيمة الشَّيء متوقفة على ما يقرّره ذهن المرء نفسه وعلى ما يميل إليه هواه! خلط النيوكلاسيك إذًا واضح بين قِيمة الشَّيء ومنفعته.
نعم تتباين مَنفعة الشَّيء من شخصٍ إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر. ولكن القِيمة، كظاهرة اجْتماعيَّة تحكمها قوانين موضوعيَّة، لا يمكن أن تتباين إلا إذا تم تمييع مفهومها من الموضوعيّ إلى الذَّاتي، مَسخًا لمذهب الآباء المؤسّسين لعِلم الاقْتصَاد السِّياسيّ.
من المهم هنا الوَعْي بأنه وعلى الرغم من أوجه الاختلاف، ربما الظَّاهرية، إذ ما استثنينا رفضهم استخدام أدوات التحليل الرياضيَّة، بين تيار المدرسة النمساويَّة (بأجيالها الثلاثة) وبين الفكر النيوكلاسيكيّ، وعلى الرغم كذلك من إدّعاء بعض مفكري تيار النمسا رفضهم للفكر النيوكلاسيكي الَّذي يدرس الفرد المنعزل، فإنني اعتبر المدرسة النمساويَّة، على مستوى قانون القِيمة، داخلة في إطار هذا الفكر؛ لانطلاقها، على أقل تقدير، من نفس القاعدة الَّتي ينطلق منها النيوكلاسيك في فَهم وتحليل القِيمة.
محض لغو إذًا، القول بأن النيوكلاسيك (ومدرسة النمسا بالتالي) لديهم نظرية في القِيمة؛ فلم يكن أبدًا لديهم نظرية في القِيمة، إنما هي نظرية في المنفعة، تحاول تمييع مفهوم القِيمة؛ وبالتَّالي لم يكن لديهم أبدًا نظرية في القِيمة التبادُليَّة؛ إنما هي نظرية في ثمن السُّوق. ومن هنا أستسخف كثيرًا انشغال الأساتذة، أساتذة الاقْتصَاد في الجامعات، بحشو دماغ الطلاب بكلامٍ مرسلٍ سيال عن “نظرية القِيمة عند النيوكلاسيك”!
ولكي نتعرَّف إلى الطبيعة النظريَّة لهذا التيار الفكريّ المضاد؛ فيتعين أن نعي مدى ارتباط ظهوره بما لحق الواقع الاجْتماعيّ، في غرب أوروبا، من تطور على الصعيد الثقافيّ، إذ انتشر الخطاب العِلمي البحت، واطَّرد السعي من أجل فهم الكون بشكل مادي صرف، استنادًا إلى العلوم الطبيعيَّة والرياضيات؛ استكمالًا للرغبة الجماعيَّة في التحرُّر من صنمية الفكر الَّتي فرضت الظلام على القارة الأوروبيَّة طوال قرون من الجهل والفقر والمرض والثيوقراطية وادعاء امتلاك الحقيقة. وهو الأمر الَّذي انعكس على كتابات النيوكلاسيك، فرغبوا في الابتعاد عن لغة العلوم الاجْتماعيَّة الَّتي قد تؤدّي، وأدت فعلًا، إلى إبراز الصراع الاجْتماعيّ بين قوى الإنتاج. واتجهوا بقوة نحو القياس الكميّ للظواهر عن طريق التعبيرات الرياضيَّة، واستعاروا أيضًا الكثير من الألفاظ، والأفكار من العلوم الطبيعيَّة، وظهروا أكثر ميلًا إلى تجريد الظَّواهر الاقْتصَاديَّة من كل ما هو إنساني واجْتماعيّ! وقادهم ذلك إلى النَّظر إلى (عِلمهم الجديد!) كعلمٍ منفصل عن العلوم الاجْتماعيَّة. الأمر الَّذي أفضى إلى فصل العِلم الاقْتصَاديّ عن التَّاريخ وفلسفته وعن باقي العلوم الاجْتماعيَّة بأسْرها، وصار يُنظر له على أساس من كونه عِلمًا طبيعيًّا بحتًا. ولذا، جاءت المدرسة النيوكلاسيكية، وقد وجَّهت سهام النَّقد العنيفة جدًّا لكتابات ماركس، بل ولبعض أفكار الكلاسيك، وبصفةٍ خاصَّة إلى الأفكار المتعلّقة بنظريَّة العَمل في القِيمة، رغبةً في تدمير التحليل الطَّبقي الَّذي قدَّمه ماركس!
تأثير سياسي وتطور اجتماعي
وابتداءً من النصف الثَّاني من خمسينات القرن الماضي طرأت على المدرسة النيوكلاسيكية تغيراتٌ واضحة وحاسمة؛ فلقد تحول اهتمام التحليل من الجزئي إلى الكلّيّ، من تحليل توازن المستهلك والمنتِج، إلى تحليل توازن الاقْتصَاد القوميّ. جاء هذا التبدُّل كبلورة لما أسهم به الفرنسيّ ليون فالراس، في استخدام تحليل التَّوازن العام/ الشَّامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل، وبطريقةٍ خاصَّة في التحليل باستخدام مجموعة من المعادلات الرياضيَّة البحتة في محاولته للبحث عن التوازن الاقْتصَاديّ العام على الصَّعيد القوميّ بدراسة جميع العوامل الَّتي تتضافر معًا لتحديد سلوك المنتج والمستهلك في السُّوق. وهو يدرس، رياضيًّا، أثر كل هذه العوامل في نفس الوقت. فقد كان، ولم يزل، النيوكلاسيك يدرسون أثر الدَّخل أو ثمن السلعة أو ثمن السلعة البديلة أو الذوق على الكميَّة المطلوبة، كل أثر بمفرده، ولكن فالراس درسهم جميعًا من خلال نظام المصفوفات الرياضيَّة! والواقع أن فالراس اكتفى بحساب عدد المعادلات والمجهولات فيها ليعلن، دونما برهنة، أن التَّوازن العام قائم!
ولقد ظلت هذه التحوّلات في حقل التيار النيوكلاسيكي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي محصورة في مجال النظرية الأكاديميَّة، والمراجع والمؤلَّفات العِلميَّة. أما على الصعيد السِّياسيّ والاقْتصَاديّ فلم يكن لها أدنى تأثير، فخلال تلك الفترة كان مذهب الإنجليزي جون مينارد كينز يشهد قمة انتصاراته وطغيانه الفكري، فحتى نشوب الحرب العالميَّة الأولى، كان مذهب الحرية الاقْتصَاديَّة سائدًا إلى حدٍ بعيد في الأوجه المختلفة للنشاط الاقْتصَاديّ. ولكن ما أن اندلعت نيران الحرب حتّى تبدَّلت الأحوال وتغيرت التصوُّرات؛ فخلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين (1919-1939) وهي الفترة التَّاريخيَّة الَّتي زاد فيها تركز الرَّأسمال وتمركزه، وتبلورت الاحتكارات الصناعيَّة الضخمة، إيذانًا ببداية هيمنة المشروع الرَّأسمالىّ في شكله الدوليّ، تعرض النظام الرَّأسمالىّ للعديد من التوترات، بدءً بثورة العُمال في ألمانيا عام 1918، ثم أزمة الديون والتعويضات الَّتى فرضتها معاهدة فرساي عام 1919، ثم أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبروز الحرب النقديَّة والتكتلات الاقْتصَاديَّة، ثم انهيار قاعدة الصرف بالذهب.. إلخ. ومن ثم كان طبيعيًّا ظهور الكينزيَّة، إنما كمبرر نظريّ، في زمن الأزمة في شكلها الدوريّ، وتصوراتها الَّتي تعتمد على وجوب التدخُّل الحكوميّ (الَّذي تم فعلًا على أرض الواقع قبل كتابة النظرية العامة) بوصفه عاملًا مُساعدًا في تحريك الاقْتصَاد القوميّ الَّذي كفَّ عن السير؛ بعدما لاحت في الأفق أزمات متتالية.
في ظل هذه الهيمنة الكينزيَّة، كان هناك تيار فكريّ قوي يتكون في أحضان التيار النيوكلاسيكيّ، هو تيار النقديين بقيادة مِلتون فريدمان (1912-2006) الَّذي سيَتزعَّم حملة ضارية في مواجهة الكينزية، كي ينتهي الأمر باختلافٍ جذريّ، وتوارٍ للسياسة الكينزية، مع بقاء الكينزية، وظهور تيار النقديين، الَّذي سيلقى تطبيقًا رسميًّا في الفترة من 1979 حتّى 1984، وبصفةٍ خاصَّة في المملكة المتحدة بقيادة مارجريت تاتشر (1925-2013) والولايات المتحدة الأمريكية برئاسة رونالد ريجان (1911-2004)، ولم تكن النتائج سارة على الإطلاق؛ فلقد تعمَّق الكساد واستفحلت البطالة، وانخفض الميل الاستثماريّ، وازدادت الضغوط التضخُّمية نتيجة للزيادة الواضحة في عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسيّ للاقْتصَاد داخل السُّوق الرَّأسماليَّة العالميَّة. وهو الأمر الَّذي قاد إلى ظهور وإحياء تيارات فكرية ونظرية رافضة على الصعيد النظريّ (وهو الَّذي تزامن مع التحول التَّاريخي الثالث في مركز الثقل العلمي: من الفيزيوقراط في فرنسا، مرورًا بالكلاسيك في إنجلترا، وانتهاءً بالليبراليين الجُدد في الولايات المتحدة الأمريكية).
ما بعد قانون القيمة
لدينا إذًا الآن، وبعد هجر النظريَّة الموضوعيَّة في القِيمة، ثلاثة تيارات فكريَّة كبرى: النيوكلاسيك، وكينز، والنقديين، وذلك في الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى أيامنا تلك. وما يجمع التيارات الثلاثة هو الانشغال بحقل التداول. لا الإنتاج. وفي التداول يظهر ذلك الرجل الاقْتصَاديّ الَّذي يتصرف بمنتهى الرشادة! محاولًا حل أزمته الاقتصَاديَّة الَّتي تتركز في حاجاته غير المحدودة، وعليه أن يُشبعها بموارد محدودة! وبالتَّالي يتم اختزال المجتمع بأكمله في هذا الرجل الرَّشيد، كما يتم اختزال الأزمة الاقْتصَاديَّة بأَسْرها في حاجاتٍ غير محدودة وموارد محدودة! وفي التداول أيضًا تكون الأولوية لظاهرة الأثمان الَّتي تتحكم فيها اعتبارات الطلب والعرض! هذا الطرح برمته والَّذي تشكَّل في معامل الغرب الرَّأسماليّ يَستند إلى واقع تَحدَّد ببلوغ الأجزاء المتقدمة مرحلة من التطوُّر أدَّت إلى أزْمة، لا في حقل الإنتاج الَّذي حقَّق مستويات مرتفعة وربما غير مسبوقة، إنما في حقل التداول حيث فَرْط الإنتاج والهدر الاجْتماعيّ، وهو ما أنشأ ضرورة البحث عن أسواق جديدة لتصريف هذا الإنتاج الضخم الَّذي يُفضي تكدُّسه إلى أزماتٍ هيكليَّة في تلك الاقتصَادات المتقدمة. ومن هنا تبلورت أزمتان أصابتا الأجزاء المتخلّفة من النظام الرَّأسمالي العالميّ المعاصر، أحدهما على صعيد الواقع، والأخرى على صعيد الفكر:
(1) تبدَّت الأزمة الأولى في أنْ وقع اختيار الأجزاء المتقدمة على أسواق الأجزاء المتخلّفة كي تكون الأسواق الجديدة الَّتي تمتص الفائض. ولكن، امتصاص فائض الأجزاء المتقدمة من قبل الأجزاء المتخلّفة يستلزم التمويل الممكّن من شراء هذا الفائض. حينئذ قامت الأجزاء المتقدمة، من خلال وكلائها: البنك والصندوق الدوليَّين، ووفقًا لتعاليم النقديين، بتقديم القروض، المشروطة، للأجزاء المتخلّفة؛ مما أدَّى إلى غرَق تلك الأجزاء في المديونيَّة، وحينما همَّت بالخروج منها وجدت نفسها متورطة أكثر وأكثر في قروضٍ جديدة لتسديد القروض القديمة الَّتي استُخدمت في الحصول على السلع والخدمات المنتَجة في الأجزاء المتقدمة؛ وبالتالي ساهمت في تشغيل مصانع ومنشأت الأجزاء المتقدمة (الدائنة)؛ ومن ثم تخفيض مُعدَّلات البطالة والتضخُّم والركود… إلخ، في هذه الأجزاء.
(2) أما الأزمة الثانية فقد ظهرت على مستوى الفِكر المهيمن على المؤسَّسة التعليميَّة في الأجزاء المتخلّفة، وبصفةٍ خاصَّة في مصر وعالمنا العربيّ. فعلى الرغم من أن نظريات النيوكلاسيك والنقديين، قد أُنتجت في معامل الغرب الرَّأسماليّ من أجل الغرب الرأسماليّ، وعلى الرغم أيضًا من عجزها التَّاريخيّ عن تفسير أزمات الرأسماليَّة؛ لا فحسب تقديم حلول لتلك الأزمات، إلا أنها تهيمن على المناهج التعليميَّة في الأجزاء المتخلّفة، ويتم تقديمها عادةً وكأنها النظريات الصحيحة، بل والوحيدة، تاريخيًّا!
تخلف استخلاص المعرفة في الوطن العربي
ولكي نفهم طبيعة ومحتوى (العِلم!) الَّذي يُلقَّن للطلَّاب في المدارس والجامعات في عالمنا العربيّ بوجهٍ خاص، وفي مصر بالأخص؛ سأكتفي فيما يلي بمراجعة، موجزة بطبيعة الحال، لانعكاس هذا الانتقال والتحول من علم الاقتصاد السياسي إلى “فن التسيير” على واقع نظرية من أهم النظريات، وهي نظرية التخلُّف، بعبارة أدق: تجديد إنتاج التخلُّف.
فمن العبارات المألوفة والَّتي غالبا ما يتم تداولها في الندوات والمؤتمرات وعلى المنصات الاحتفاليَّة للمؤسَّسات المهتمة بمشكلات الوحدة العربيَّة. وللعجب نجد العبارات نفسها يتم تداولها في بعض الندوات، والمؤتمرات، والفعاليات الفكريَّة والثقافيَّة، الَّتي تنظمها الأنظمة السّياسيَّة الحاكمة، والمؤسّسات الرسميَّة في الأقطار العربيَّة، تلك العبارات الَّتي تقول: إنه يحق لكل عربي مؤمن، وحتّى غير المؤمن، بالقوميَّة ووحدة المصير والهدف المشترك، أن يندهش، بل ويسخر حزينًا متألمًا، حينما يجول ببصره على خريطة عالمنا المعاصر، ومهما أن كانت الخريطة الَّتي يُنظر إليها، سياسيَّة، جغرافيَّة، طبيعيَّة.. أو حتّى صماء؛ فلسوف يدرك على الفور أن هناك شيئًا مُستنكرًا غريبًا يَحدث على أرض الواقع؛ إذ أن تلك المساحة الشَّاسعة الهائلة على الخريطة والَّتي تحتل نحو 10% من يابسة الكوكب؛ وتُسمى العالم/ الوطن العربيّ، لا ينقصها أي شيء من الموارد البشريَّة والإمكانات الطبيعيَّة والمادية، حتّى تنطلق نحو التقدُّم.. نحو حياة أفضل.. نحو خلق حياة كريمة للأجيال القادمة. ومع ذلك لم يزل وطننا العربيّ (مُتخلّفًا) (تابعًا) على الرغم من أن الاستعمار، الَّذي كان حجة المتحججين، قد انقشع منذ عشرات السنين، ولم يزل الوطن العربيّ مكبلًا بقيود التخلُّف! فلماذا؟ وإلى أي حد؟ وكيف الخروج من هذا الأسْر؟ وهل هذا من الممكن إنجازه؟ أظن أن الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المرتبطة بوجودنا الاجتماعيّ ذاته كعرب، بل كبشر، تتعلَّق بمدى وعينا بالأمور الخمسة الآتية:
(1) إن غالبية المساهمات النظريَّة، وما يُعرف بـ (التراكم المعرفي) في حقل تحليل ظاهرة التخلُّف الاقْتصَاديّ العربيّ، بوجهٍ خاص، لم تستطع أن ترى ظاهرة التخلُّف إلا من خلال بيانات المرضى وأرقام الفقر وأحوال الجوعى، وإحصاءات الدَّخل والمنتوج والتضخُّم.. إلخ. ومن ثم يصير الحل لدى هذه المساهمات، وهي المعتمدة رسميًّا، للخروج من الأزمة، أزمة التخلُّف، هو التركيز على النداء، وأحيانًا الصراخ، باتباع السّياسات “الرَّأسماليَّة/ الحرة” الَّتي تتبعها الدول الَّتي لا تُعاني من الفقر والجوع والمرض؛ لكي تخرج البلدان المتخلّفة من الفقر والجوع والمرض!
(2) وهو ما يترتب على الأمر الأول، فغالبية المساهمات إنما تنتهي حيث يجب أن تبدأ، إذ عادةً ما نرى مئات الكتابات في هذا الصدد تقترح، للخروج من أزمة التخلُّف، سياسات اقتصَاديَّة ذات مدخل أدائي/ خطي، دون محاولة إثارة الكيفيَّة، الجدليَّة، الَّتي تكون بها التخلُّف تاريخيًّا على الصَّعيد الاجْتماعيّ في الأجزاء المتخلّفة من النظام الرَّأسماليّ العالميّ المعاصر بوجهٍ عام، وعالمنا العربيّ، الَّذي هو أحد تلك الأجزاء، بوجه خاص. وأفضل ما أمكن تحقيقه هو الإشارة إلى الاستعمار، كتاريخٍ ميت، ثم القفز البهلواني، بعد الجهل بالتَّاريخ أو تجاهُله بجهل، إلى اقتراح سياسات السُّوق الحرة!
(3) عادةً ما يتم تناول إشكالية التخلُّف الاقتصاديّ العربيّ بمعزل عن إشكالية التخلّف على الصعيد العالميّ، أي دون رؤية الاقتصَاد العربيّ كأحد الأجزاء المتخلّفة من النظام الرَّأسماليّ العالمي المعاصر، وربما كان هذا ترتيبًا منطقيًّا لتناول الإشكاليَّة من منظور أحادي يفترض التجانس، ولا يرى سوى الطرح “التكاملي” والمنادة “المثاليَّة” بالتكامل الاقْتصَادي العربيّ. وكأن البلدان العربية تعيش خارج الكوكب! على الرغم من ارتباط (إنجاز) مشروع التكامل الاقْتصَادي العربيّ بالتعامل مع الرأسماليَّة (الَّتي هي خضوع الإنتاج والتَّوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرَّأسمال بغض النظر عن شكل التنظيم الاجْتماعيّ، وبغض النظر عن مدى تطوُّر قوى الإنتاج)، ابتداءً من الوَعْي بقوانين حركتها تلك، بقصد فك الروابط مع الإمبرياليَّة العالميَّة من خلال مشروع حضاريّ لمستقبل آمن.
(4) السُّؤال الأهم، وغالبًا ما لا تتم الإجابة عنه، هو: لماذا، بعد أن خرج الاستعمار الَّذي شوَّه الهيكل الاقْتصَاديّ وسبَّب التخلّف، لم تزل بلدان العالم العربيّ مُتخلّفة؟ هذا السُّؤال من المعتاد تجاهله من قبل النظريَّة الرَّسميَّة، والانتقال الكوميديّ إلى: كيف نخرج من التخلُّف بالتكامل؟ وحينئذ نرى سَيلًا من الآراء والمقترحات (المدرسيَّة/ الرَّسميَّة) الَّتي لا تعرف ما الَّذي تبحث عنه بالتحديد؛ وذلك أيضًا أمرٌ منطقي؛ حينما لا تعرف هذا المقترحات ماهية التخلُّف ذاته! على الرغم من أن الحديث عن التكامل الاقتصَاديّ يكون عديم المعنى والفائدة معًا إذ لم يقترن بالبحث الموازي في ظاهرة التخلُّف الاقْتصَاديّ والاجتماعيّ في بلدان العالم العربي، بوصفها أحد الأجزاء المتخلّفة (وغير المتجانسة) من النظام الرَّأسماليّ العالمي المعاصر، من جهة درس ماهية ظاهرة التخلّف ومحدداتها وكيفية تجاوزها التَّاريخيّ. فلن يمسي مقنعًا الحديث عن تكامل اقْتصَادي عربيّ بدون الحديث عن كيفية هيكليَّة لتجاوز التخلُّف نفسه، وإنما ابتداءً من إعادة النظر في التراكم المعرفيّ في حقل نظرية التخلُّف ذاتها.
(5) ولأن النظرية الرسميَّة (النيوكلاسيكية في مجملها) هي المعتمدة للتلقين في المدارس والمعاهد والجامعات في عالمنا العربى؛ فالنتيجة هي الإعدام اليوميّ لمئات الآلاف من الطلَّاب، الَّذين يتم تلقينهم صباحًا ومساءً بيانات الفقر وعدد المرضى والجوعى، ويُقال لهم إن هذا هو التخلُّف بعينه، وإذ ما أردتم الخروج ببلادكم من هذه الحالة فلتنظروا إلى ما يفعله صنّاع القرار السِّياسيّ الاقْتصَاديّ في الغرب الرَّأسماليّ، بل وأفعلوا ما لا يفعلون! لأنهم حقًّا يستحون! كونوا أكثر طموحًا! افتحوا الأسواق! حرروا التجارة! عَوموا العُملة! لا تدعموا الفلَّاح واتركوه نهبًا للرَّأسمال المضاربيّ! سرّحوا العمال! قلّصوا النفقات العامة! ارفعوا أيديكم عن الأثمان! ساندوا كبار رجال المال! تخلَّصوا من القطاع العام! رحّبوا بالرَّأسمال الأجنبيّ، وافعلوا ما يمليه عليكم البنك والصندوق الدوليَّين! قدّسوا نموذج هارود/ دومار! لا تقرأوا إلا للنيوكلاسيك! اتَّبعوا جيفونز، ومنجر، وفالراس، وفيلبس، وصامويلسون، وجوارتيني، وفريدمان، وكروجمان، وصولو، وغيرهم من الحدّيين والكينزيين والنقديين؛ حتمًا بعد أن يُقال لهؤلاء الضحايا الَّذين يتم إعدامهم فِكريًّا يوميًّا في المؤسَّسات التعليميَّة في العالم العربيّ أن “العِلم الاقْتصَاديّ” هو ذلك الكم المكدَّس من الأرقام والمعادلات والرموز في مؤلَّفاتِ هؤلاء فقط، أما غيرهم فهم إمَّا تاريخٌ مقبور، أو كفارٌ ملحدون… ولكي تكون المحصلة النهائيَّة، حينما يكون بأيدي هؤلاء الطلَّاب/ الضحايا صنع القرار السِّياسيّ في بلادهم المتخلّفة، هي المساهمة الأكثر فعالية في تعميق التخلُّف، وربما تسريع وتيرة تجديد إنتاجه! إن الَّذي يتم تلقينه للطلَّاب الَّذين يوميًّا يتم إعدامهم فِكريًّا في عالمنا العربيّ بصفةٍ خاصّة يرتكز على قاعدةٍ أساسيَّة في الاقْتصَاد قوامها: أن كل شيْء مُتوقف على كل شيء! الأدْهَى والأمَر، أن الأساتذة. أساتذة الاقْتصَاد في الجامعات. الَّذين يتولَّون التلقين لا يجدون أدنى غضاضة في أن يقولوا لهؤلاء الطلاب، الضحايا، إن الاقْتصَاد هو الاقتصاد السياسي، والاختلاف بينهما هو اختلافٌ، مزاجيّ، في الاسم، نتجَ عن تطورٍ تاريخيّ! على الرغم من أن الفارق بين الإثنين هو كالفارق بين الوهم والحقيقة، بين التبرير والعِلم.
قد يعجبك أيضًا: المدرسة الكلاسيكية ورواد الفكر الاقتصادي
_____________
(*) يعتمد هذا المقال على ما ورد من أفكار أساسية فيما يتعلق بالرأسمالية المعاصرة ونهاية الاقتصاد السياسي، بالطبعة السادسة من كتابي نقد الاقتصاد السياسي، انظر: محمد عادل زكي، نقد الاقتصاد السياسي، طبعة مؤسسة هنداوي، 2021.