نظرية المعرفة بين الدين والفلسفة
لا تكاد تذكر الفلسفة إلَّا ويأتي ذكر الدين كطرف مقابل لها، وكثيرا ما تعتبر الفلسفة نقيض الدين من حيث المساحة النقدية وحرية التفكير في كلّ منهما، ولكن هل يمكننا أن نأخذ هذا التعارض بين الدين والفلسفة كمسلّمة ونتيجة نهائية أم أنَّ في الأمر نظر؟ لنحاول الإجابة على هذا السؤال عن طريق البحث في نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) عند الطرفين وبالأخص عن طريق استقصاء مصادر المعرفة التي يعتمدها كلّ منهما.
• نظرية المعرفة بين الدين والفلسفة
إنَّ المعارف التي يتبناها الإنسان بتسليم مطلق وقناعة تامّة لا تعدو أن يكون مصدرها واحدًا من المصادر الآتية:
1 – العقل: ويُقصد به التأمُّل النظري الخالص الذي لا يشترط وجود أي معطيات خارجية كالحواس أو التجارب المادية بل يتّخذ المنطق منهجًا له ويعتمد كليًّا على النظر العقليّ المتجرّد.
2 – الحسّ: ويقصد بها جميع المعطيات التي تصل إلى إدراك الإنسان عن طريق منافذ الحس الجسمية الخمسة (البصر والسمع والتذوق والشمُّ واللمس) فهي متى ما وصلت إلى وعينا اتخذت طابع اليقين والقطع، ومعظم الناس لا يشكّون في مصداقية ما تنقله إليهم حواسّهم.
3 – التجربة: وهي منطقة التقاطع المشترك بين الحسّ والعقل، فالعقل يقوم بدور المشرّع لها ويخلع أحكامه على نتائجها، في حين تمثّل الحواسّ حلقة الوصل مع العقل وتوفّر المادة التي يبني عليها العقل أحكامه.. والتجربة هي عماد العلوم الحديثة كالفيزياء والكيمياء والأحياء.
4 – الحدس: ويتكوَّن من مجمل التجارب التي تستشعرها النفس بدون أيّ وسيط من حسٍّ أو استنباطٍ من عقل بل هي حقائق تشرق في الذات العارفة وتملؤها كشفًا ويقينًا، وقد تكون المشاعر (كالحبّ والكره والنفور والطمأنينة) هي المثال الأقرب لتوضيح المقصود بالحدس.
تحظى المصادر المعرفية السابقة بالإجماع والموافقة لدى جميع البشر المؤمنين منهم وغير المؤمنين، ولكن هنالك مصدر آخر هو الذي ينبع منه الخلاف بين الطرفين بل وأحيانًا بين المؤمنين أنفسهم، وهذا المصدر هو الخبر.
• الخبر كمصدر للمعرفة
إنَّ الخبر في معناه الأعمّ يقصد به الأخبار والحكايا والنقولات التي يتناقلها الناس، وقد يكون هذا النقل من جيل إلى آخر أو بين أفراد الجيل الواحد.
أما الخبر الديني فهو يأتي عادة على مستويين الأول هو النصوص الدينية المقدسة والتي تُنسَب إلى الخالق أو من يقوم مقامه، والثاني هو مقولات رجال الدين وآراؤهم واجتهاداتهم وشروحهم للنصوص المقدسة.
وعلى ذلك فالخبر حينما يُرَدّ إلينا، سواءً بصيغته المسموعة أو المقروءة، فهو يحمل في طيّاته القابلية لتكوين معارف جديدة لدينا، وهذه القابلية من السّهل أن تتحوّل إلى يقين -أو كما يقول الفلاسفة تتحول من القوة إلى الفعل- بمجرد أن تتلبس بلباس القداسة.
لذلك فإنَّ محور الخلاف بين الدين والفلسفة و محاولات الجمع والتوفيق بين تعارضهما المفترض يكمن في هذا المصدر المعرفي الشائك (الخبر)؛ إذ أنَّ الخبر، بمستوييه آنفَي الذِّكر، يستند إلى قداسة وتعالي المصدر المستمَدّ منه وهو ما يؤدي إلى كثير من الإشكاليات الكبيرة ،إذ أنَّ الخبر هو المصدر الأول للمعرفة عند المتديّنين، سواء اعترفوا بذلك أم أنكروه، ولذلك فإنَّ اللاوعي الديني يرفض أية نتائج تأتي بها مصادر المعرفة الأخرى إذا ما صادفت تعارضًا محتملًا مع ما يُقرِّه الخبر الديني.
كثيرًا ما يقوم العقل بمعالجة معطيات الواقع وحياة الناس فيخرج بنتيجة عقلية معينة، وهذه العملية هي من صميم الممارسة الفلسفية، ولكنّ الإشكال يقع حينما يكون الخبر الديني قد جاء من دهور بعيدة بنتائج ثابتة تخالف ما استقرَّ عليه ذلك النظر العقلي.
• الميتافيزيقا والغيب بين الدين والفلسفة
قد يُطرَح هاهنا سؤال لا بدَّ منه عن الميتافيزيقا والمسائل الغيبية التي لا يتأتّى الإقرار بها بمنأى عن الدين ومصدره الرئيس (الخبر).
رغم أنَّ الفيلسوف الأشهر كانط وجّه نقودًا ومطاعن في مقدرة العقل المحض على الوصول إلى حقائق ميتافيزيقية إلَّا أنَّ أكثر الفلاسفة كالديكارتيين والهيغليين يقرّون بمقدرة العقل على الكشف الميتافيزيقي، فقضيّة مثل وجود خالق للكون هي محلَّ اتفاق بين الدينيين ومعظم الفلاسفة، لذلك فإنّ من الممكن إلقاء الضوء على بعض جوانب الميتافيزيقا عن طريق النظر العقلي الفلسفي، وليس ذلك حكرًا على الإيمان الديني ولكن يظلّ الدين، ممثّلًا بمصدره المعرفي الرئيس (الخبر)، مشتملًا على نطاق ميتافيزيقيّ أوسع بكثير، خاصة إذا علمنا أنّ هذا المصدر قابل للإضافة والزيادة بمرور الزمن، وهذا ما أوضحه جورج طرابيشي في كتابه (المعجزة أو سبات العقل في الإسلام)؛ حيث أشار إلى أنّ تضخّم المدونة الحديثية بمرور الزمن أدى إلى اختلاق معجزات نبوية متزايدة بدأت بعدد لا يتجاوز أصابع اليد، ثمّ ما لبثت أن بلغت الآلآف في القرون المتأخرة.
• الأخلاق: بين العقل والنقل
مِن الملاحَظ أنَّ مفهوم الأخلاق عند العقل الديني التقليدي تنقصه النظرة الموضوعية؛ إذ هو مفهوم يعتَوِره كثير من الخلط بين الواجب السلوكي المطلق الذي يجب أن يتصِّف به جميع الناس، والواجب الديني النسبي.. أو بعبارة أخرى فإنه يجعل حقَّ الخالق مساويًا -إن لم يكن متقدِّمًا على- حقوق الخلق، ومن هنا فإنّ العبادات والمعتقدات تدخل في صميم تعريف الأخلاق كما أقرّه العقل الديني التقليدي، من ذلك نجد أنَّ الحكم الأخلاقي على الأفراد لا يمكن أن يتمَّ بمعزل عمّا يسري عليهم في حكم الدين. إنَّ هذا الاتساع الهائل في مفهوم (الأخلاق) ومحتواه واشتماله على جميع ما هو نسبيّ من عناصر دينية يتحمّل مسؤوليته بشكل أساسي الخبرُ كمصدر معرفي.
• الانفصال الأنطولوجي
إنَّ من أهم النقاط يتميز بها الدين عن جوهر الفلسفة هي نظرته إلى الوجود -الأنطولوجيا- و التي تتكوَّن بناءً على مصدر المعرفة الذي ذكرناه -الخبر- فالوجود من وجهة نظر دينية له بداية محكمة وغاية ومنتهى وما وراء. والفلسفة كثيرًا ما تتفق مع الدين في أنَّ للوجود بداية محكمة، ولكن تتعدَّد مشاربها في تقرير الغاية والماوراء من هذا الوجود وفي وصف هذه البداية المحكمة، كذلك صفة الوجود وبدايته يختلف في الدين عنه في الفلسفة -وابنها الشرعي العلم- من ذلك نجد محاولات كثيرة للجمع بين النّصوص الدينية التي تتحدث عن بداية الخليقة وبين ما أثبته العلم من كيفية بداية الكون ونشوء الحياة.
الخلاصة التي يمكننا أن نخرج بها في هذه العجالة هي أنَّ الدين والفلسفة نظامان معرفيان متباينان، ولأجل رفع ما يمكن أن يقع من تعارض بين هذين النظامين فقد اقترح معظم الفلاسفة وكثير من اللاهوتيين والمتكلمين العقليين أن يتم توسيع مجال “تأويل” النصوص الدينية، أو ما بات يعرف حديثا بعلم الهرمينوطيقا.