قراءة في كتاب “فرضية التربية Nurture Assumption” لجوديث هاريس

قبل أن نتصفَّحه، دعوني أنبِّهكم إلى أن كتاب نظرية التربية هو عملٌ صادم بمعنى الكلمة، فمؤلِّفته طرحت طرحا جريئًا يضرب بعرض الحائط بكافة كتب علم النفس التي تتحدَّث عن دور الأب والأم في تربية أولادهم وتنشئتهم بالصورة التي يصبحون عليها عندما يكبرون.

وترى المؤلِّفة أنَّه إلى جانب الجينات الوراثية، فإنَّ اللاعب الرئيسي في تربية الأولاد ونمو شخصياتهم ليس الأباء أو أي شخص آخر من الأسرة، ولكنَّه الرفاق والأقران من حولهم.

 

أولادكم ليسوا أولاداً لكم .. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها .. فهم بكم يأتون للعالم ولكن ليس منكم … ومع أنَّهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكًا لكم ، فأنتم تستطيعون منحهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم ، لأنَّ لهم أفكارهم الخاصة”

 جبران خليل جبران

 

بهذه الأبيات عميقة الدلالة للشاعر جبران خليل جبران نقلًا عن كتابه “النبي”، افتتحت عالمة النفس الأمريكيَّة جوديث ريتش هاريس (Judith Rich Harris) كتابها “نظرية التربية”: The Nature Assumption: Why Children Turn out The  way they do، والذي نشرت أوَّل طبعة له سنة 1989، بتقديم عالم اللغويات والنفس ستيفن بينكر.

ولقد استهل الكتاب بمقدِّمة رائعة بقلم عالم اللغويات ستيفن بينكر ، يتبعها خمسة عشر فصل و(ملحقان) اشتملوا على شرحٍ مطوَّل لمعنى فرضية أو نظرية التربية أو التنشئة التي يتحمَّل مسؤولياتها الأهالي، ثم استعراض أدلة هذه النظرية و تفنيدها بكل الوسائل العلمية، و صولًا لفرضية “الأقران Peer” التي تبنَّتها المؤلِّفة.

نظرية التربية التقليدية

إلى جانب دور الوراثة الذي لا ينكره أحد، والذي يحلو لعلماء النفس تسميته (nature)، في نشأة الطفل ونمو تكوين شخصيته, تأتي البيئة أو التربية (nurture ). وعند ترجيحِ كفةٍ على أخرى نميل دومًا إلى ترجيحِ النقطةِ الثانية أو ما يُعرَف بفرضية أو نظرية التربية، حيث يميل الناس إلى الاعتقاد بأنَّ الآباء والأمهات يساهمون بدورٍ محوري فيما يصبح عليه الأولاد.

إعلان

والواقع أنَّه على مدار عقود طويلة ظلَّ الناس يعتقدون أنَّ شخصية الطفل هي نتاج لعاملين: الطبيعة (الوراثة) والبيئة (كيف رباك ابوك و أمك). وتُمثِّل هذه القناعة جزءًا عميقًا من ثقافتنا لدرجة أنَّ علماء الإجتماع و النفس لم ينتابهم أدنى شكٍّ فيها.

طرح جوديث هاريس

ترى جوديث أنَّ النظرية التي تُنسِب الدور الرئيسي في التنشئة إلى الأب والأم هي مجرَّد أكذوبة كبرى وأسطورة آمن بها الناس، فعلى الرغم من أنَّ الأطفال يتعلَّمون أشياءً من آبائهم، فإنَّ أكثر ما يتعلَّمونه يكون من رفقائهم من حولهم. والحقيقة أن العالَم الذي يتشارك فيه ابنك مع نظرائه وأقرانه هو الذي يشكِّل سلوكه، ويعدِّل من سماته التي قد وُلد بها، و يحدِّد أي شخص سيُصبِح عندما يكبر.

وتتنبَّأ هاريس بأنَّ الطفل سيُصبِح ذات الشخصية التي هو عليها عندما يكبر إذا تركنا عالمه الذي يحيا فيه خارج بيته دون تغيير- نفس المدرسة و نفس الحي و الجيرة – واستبدلنا فقط آبائهم.

أدلة جوديث التي اعتمدت عليها في دحض نظرية التربية

اعتمدت جوديث على عشرات الدراسات والأبحاث والمراجع والإحصاءات التي تتحدَّى نظرية التربية الأسرية، والتي تتمثَّل اختصارا فيما يلي:

1 دراسات التوائم:
تُعَدُّ الدراسات التي أجريت على التوائم المتطابقة التي تربَّت في بيئات مختلفة هي مصدر رئيسي للأدلة التي استخدمتها المؤلِّفة لدحض فكرة أهمية الآباء والأمهات.

ولقد أثبتت التجارب التي أجريت على التوائم المتطابقة التي تم فيها الفصل بين التوائم عند الميلاد، وتربية كل فرد منهما  عند أسرة منفصلة ، أنَّهما يظهران سمات مشتركة كثيرة متشابهة بشكلٍ منها، والذي يعكس التشابه في الجينات الوراثية. والغريب أنَّ التوائم التي يتم تربيتها في نفس البيت و مع نفس الأسرة لا تظهر سمات متشابهة بصورة أكثر.

2 – أطفال المهاجرين وتعلُّم اللُّغة:

تمثِّل خبرات أطفال المهاجرين تعزيزًا هامّا لطرح هاريس حول أهمية الأقران والأصحاب. على سبيل المثال، تشير هاريس إلى قصةِ عائلةٍ بريطانية انتقلت إلى إيطاليا. نشأ الإبن وهو لا يتحدث الإيطالية فقط مثل أيّ مواطن إيطالي ولكنه لشقاء أبيه، تبنَّى الثقافة الإيطالية.

وهناك حالة أخرى تتعلَّق بالأسرة التي انتقلت من بولندا إلى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنَّ العائلة لم تتحدَّث إلَّا باللغة البولندية في المنزل، غير أنَّ ابنها تَمكَّن من التحدَّث بالإنجليزية في وقتٍ قريب كما لو أنٌَ أسرته كانت تسكن في الولايات المتحدة لأجيال.

تشير هاريس إلى أنَه إذا كانت ثقافة مجموعة الأقران تختلف عن الأهل، فإن مجموعة الأقران تفوز دائمًا. ويتعلَّم الطفل من الآباء الوالدين أو الآباء الصم دائما لغة أقرانها وتفضل ذلك على اللغة التي علمها والديها. تصبح لغتها الأم.

3 – مجموعات الرفاق والأقران Peer Group:

أظهرت الدراسات الخاصة بنمو الأطفال ومجموعة الأقران والرفاق تباين سمات هذه المجموعات عن بعضها البعض، ويختلف أعضاء كل مجموعة عن أعضاء المجموعات الأخرى. وعندما يبلغ الطفل سن السابعة أو الثامنة يبدأ في تكوين صورة لنفسه بالمقارنة بالرفاق و الأقران، ويتبنَّى دورًا قد يستمر في لعبه طوال عمره.

والحقيقة أنَّ الطفل لا يتعلَّم في منزله الصورة التي سيكون عليها، لكنَّه يفعل ذلك من المجموعة التي ينتمي لها، وقد يتعلَّم من البيت هذه الأمورالتي لا تتعارض مع مفاهيم الأقران، وتكون هامشية بالنسبة لاهتمامه.

4 – انحياز الدراسات السابقة:

كشفت هاريس عن أنَّ النتائج التي طرحتها أبحاث علماء نفس نمو الاطفال، والتي تؤيِّد نظرية الدور الرئيسي بلأب والأم في تنشئة أولادهم أنَّ أغلبها منحازة.

كما أنَّ نتائج علاقات الارتباط بين شخصية الطفل وتربيته لا يمكن الوثوق بها حيث لا يمكن أن ينتزع على سبيل المثال العلماء 500 طفل مثلًا من آبائهم ليجروا عليهم التجارب.

ولم يتمكَّن الباحثون من إيجاد أيّ ممارسة تربوية للأطفال (من قبل الآباء) يمكنها التنبؤ بسمات شخصية للأطفال أو انجازاتهم أو مشاكلهم خارج البيت، فضلًا عن أنَّ الآباء ليس لهم أسلوب محدد في تربية الأولاد فتعاملهم مع الطفل مرتبط باستجابة الأطفال. بالإضافة إلى ذلك فنسبة الارتباط تمثِّل الرقم “صفر” بين صفات الأبناء الذين يتم تبنيهم، والآباء الذي تبنوهم.

لعلك تتسائل الأن ماذا نفعل إذًا كأباء وأمهات؟

والحقيقة هي أنَّ السؤال السابق في محلِّه، فـ العرض السابق يترك انطباعًا لدى العديد منا كآباء بأنَّنا أصبحنا على أيدي السيدة جوديث مجرد ديكور أو ورق حائط أو “كيس جوافة” كما نقول في القاهرة وصفًا للأشخاص الذين لا يعطي لهم الآخرون وزنًا. بدايةَ، كما اتضَّح لنا، فإنَّه لايوجد من هو أعظم تأثيرًا على طفلك من شخصية وسلوك الرفاق و الأقران من حوله، فضغوط الأصحاب على ابنتك المراهقة مثلّا أقوى بكثير من أيّ نصيحة أو عظة أو زجرة توجِّهها الأم لها.

ولهذا عليك أن تساعد في إيجاد الصحبة الطيبة للابن، فإلحاقه بالأنشطة الرياضية، على سبيل المثال، في النادي أو المدرسة من صغره يضعه وسط أشخاص يسعون لتحقيق البطولة والفوز ، مما يحسّن من فرصٍ تُعَلِّمه المثابرة وتمده بالطموح الإيجابي. ولكن يجب أن تبدأ هذه الخطوات مبكِّرًا خلال سن العشر سنوات ، لأنه لن يكون بعدها راغبًا في الانضمام إلى مجموعات جدد، وستظل مجموعته الأولى من الرفاق هي من تُحدِث لأثر الأكبر.

نقد الكتاب

استُقبِل كتاب نظرية التربية بمزيج عجيب من المدح والهجاء الشديد من قبل علماء النفس و الأعصاب. على الجانب الإيجابي، وصف ستيفن بينكر أستاذ اللغويات وعلم النفس الشهير بجامعة هارفارد كتاب جوديث هاريس بأنه يمثل نقطة تحول في تاريخ علم النفس. وأشاد الدكتور روبرت سابواسكي أستاذ علم الأعصاب في جامعة ستانفورد بصلابة الحجج و الأسانيد العلمية التي اعتمدت عليها دكتور جوديث.

على الجانب السلبي، وصف الدكتور فرانك فارسي من جامعة تميل آراء الدكتورة جوديث بالتطرُّف الشديد حيث اعتمدت على نطاق محدود من البيانات، معبِّرا عن خشيته من الأثر المحتمل لتصديق الأهالي لآراء جوديث. وأضاف دكتور وندي ويليامز بجامعة كورنيل المتخصِّص في دراسة آثار البيئة على معدَّلات ذكاء الأطفال أنَّه يوجد العديد من الدراسات الجيدة التي تقدِّم براهين صلبة على التأثير للآباء على القدرات المعرفية.

ختامًا

شخصيا، أصدق نوعًا ما وليس لدرجة التطرُّف أطروحة جوديث هاريس حول دور الرفاق لاسيما مع كبر عمر الأولاد، فعند سنٍّ معيَّن تشعر أنك كأب أو أم فقدت كل سلطانك وتأثيرك على أولادك وعناك حالات كثيرة تجد فيها أن نصائحك وتوجيهاتك قد تطيح بها أيّ نصيحة أو حركة من أحد أصدقاء ابنك الذي قام هذا الأخير بتقليده. وهكذا فانني أرى أنَّ الدور الأكبر لنا كآباء يكون قبل سن المراهقة حيث نحرص على توجيه الأطفال نحو جماعات الرفاق الجيدة .

والخلاصة هي أنَّكم يجب أن تحبوا أطفالكم لأنهم يستحقون الحب، ولكن عليكم أن تؤمنوا بمحدودية دوركم كأبٍ وأمٍ فأنتم غير قادرين على أن ترفعوا أبنائكم الى درجة الكمال، ولا أن تنزلوا بهم إلى درجة الحضيض.

 

إعلان

اترك تعليقا