نظرية الألعاب والعلاقات الدولية

دور توماس شيلينج الحائز على نوبل في الاقتصاد ٢٠٠٥

على الرغم من أن نظرية الألعاب ارتبطت أساسًا بالرياضيات والاقتصاد منذ مولدها على يد عالم الرياضيات الأمريكي جون فون نيومان (1903 ـ1957)، فقد توسعت تطبيقاتها اتساعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة لتشمل حتى الأحياء. لكن أكثر هذه التطبيقات إثارة من وجهة نظري علمُ السياسة، خاصةً دراسات العلاقات الدولية. وتدين نظرية الألعاب بتطبيقها في مجال العلاقات الدولية إلى عالِمين اقتصاديين كبيرين مارتين شوبيك (١٩٢٦) عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير، والذي يعمل أستاذًا للاقتصاد في جامعة يال، وتوماس شيلينج الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ٢٠٠٥. وسوف يقتصر مقالي هنا على مساهمة توماس شيلينج في صورة مبسطة تتجنب تعقيدات نظرية الألعاب خاصة في مجال الرياضيات.

(أولًا) لماذا نظرية الألعاب؟

الإجابة على هذا السؤال تستلزم من القارئ الإلمام بثلاثة مفاهيم أساسية في علم السياسة “السيادة Sovereignty”، و”غياب الحكومة الفوقية (فوضوية) Anarchy”، و”الاعتمادية Interdependence”:

أ- السيادة

يوجد لاعبون كثر على الساحة الدولية أهمهم الدول ذات السيادة sovereign states، ويقصد بها الدول صاحبة الحق الوحيد والشرعي والاحتكار المتفرد لاستخدام القوة داخل حدودها. وللأسف كثيرًا ما نرى دول تتعدى على سيادة دول أخرى.

ب- غياب الحكومة الفوقية anarchy

في حالة حدوث نزاعات أو خلافات داخل الدولة يمكن اللجوء إلى السلطات الحاكمة في هذه الدولة أو من تفوضه (الشرطة مثلًا) لحل هذه الخلافات ورد الحقوق والحفاظ على النظام، لكن على المستوى الدولي لا يوجد سلطة قاهرة أو حاكم فوق الدول جميعًا يمكن أن تلجأ إليه دولة ضد الدولة الأخرى في حالة الاعتداء على سيادتها وحقوقها، وللأسف لا يوجد “بوليس دولي” فعّال قادر على القبض على المعتدي وإرجاع الحقوق. فالدول الكبرى قادرة على أن تفعل ما تريد. ولذلك نصف نظام العلاقات الدولية بالأناركية لغياب حاكم قاهر. لكن هذا لا يعني “فوضى” وحالة مستمرة من الانتهاكات والحروب. العالم آخذ في الاستقرار على الرغم من ذلك حيث تنظم المصالح الفردية بطبيعتها نفسها.

ج- الاعتمادية interdependence

نلاحظ على الساحة الدولية أن تصرفات أي دولة تؤثر على الدولة الثانية، وتصرفات الدول الثانية تؤثر على الدولة الأولى، وهكذا على الثالثة والرابعة والمائة وبالعكس. لا يوجد قرار لا يؤثر على دولة أخرى ومن ثم لا ينعكس على الدولة متخذة القرار. ونسمي هذه الحالة في علم السياسة “الدولية الاعتمادية.”

إعلان

وفِي حالة “غياب الحكومة الفوقية أو الأناركية والاعتمادية التي أشرنا إليهما، كيف يمكننا أن نتوقع نتائج تصرفات الدول الأخرى، ونضيق من نطاق هذه التوقعات، خاصة وعلى ما يبدو أن للدول خيارات لانهائية في التصرفات؟ ويبدو أن حل هذه المشكلة يكمن في تحليل رغبات الدول “اللاعبين” وقدرتها على تنفيذ رغباتها هذه. هنا بالضبط يظهر دور نظرية الألعاب بوصفها قادرة على التنبؤ بتصرفات الدول الأخرى وتحديد ما يمكن القيام به تجاه هذه التصرفات بشكل استراتيجي.

(ثانيًا) ألعاب العلاقات الدولية

عرّف “مارتن شوبيك” نظرية الألعاب في العلاقات الدولية على أنها “طريقة لدراسة صناع القرار في حالات الصراع”. لكن توماس شيلينج عرّفها على أنها نظرية معنية بمواقف يكون أفضل سلوك أو حركة يقوم بها اللاعب يعتمد على قدرته على توقع سلوك أو حركة الطرف الآخر. ويعد هذان التعريفان نقطة انطلاق في تطبيق نظرية الألعاب في العلاقات الدولية.

عند تطبيق نظرية الألعاب على العلاقات الدولية تعتبر اللعبة هي الموقف أو الأزمة الدولية، واللاعبون الأساسيون هما الدول، وتنقسم هذه الألعاب إلى نوعين:
(١) اللعبة ذات النتيجة الصفرية: حيث تكون المكاسب التي يحققها طرف هي نفسها الخسائر التي يتكبدها الطرف الآخر، وهذا الوضع يحدث خلال الحروب بين الدول، مثل الوضع الذي ساد أثناء الحرب العالمية الثانية وأسفر عن هزيمة دول المحور أمام دول الحلفاء.

(٢) اللعبة غير الصفرية: حيث يفترض وجود مساحة واسعة للتنسيق والتعاون بين طرفي عملية الصراع إذ إنهما قد يخسران معًا أو يكسبان معًا. وهذا الوضع عادةً ما يكون في أوقات اعتيادية (ليس وقت الحروب) وإن كان هنالك تنافس وصراع بين الدول، وفي معظم الأحيان فإن التنافس بين الدول والنظم هو من قبيل الألعاب غير الصفرية.

(ثالثًا) دور توماس شيلينج في تطوير نظرية الألعاب

في عام ٢٠٠٥، حصل توماس شيلينج على جائزة نوبل في الاقتصاد على دوره في تعميق فهمنا لقضايا الصراع والتعاون من خلال تطبيق تحليلات نظرية الألعاب. ولقد ساهم بوجه خاص من خلال أبحاثه ومؤلفاته المتميزة في فهم وتطبيق استراتيجيات الصراع، والالتزام المسبق، والتنسيق مع غياب التواصل بين الأطراف، والردع إضافةً إلى مفاهيم عدة في نظرية الألعاب. ولعل أهم كتب توماس شيلينج كتاب استراتيجية الصراع The Strategy of Conflict، رفيق الدبلوماسيين والسفراء، وأحد المراجع الأساسية لدارسي العلوم السياسية في جميع جامعات العالم. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب كان يهدف إلى وضع نظريات حول السياسة الدولية خلال الحرب الباردة، إلا أن مبادِئه ظلت صحيحة دائمًا. وبتخفيض عدد اللاعبين إلى مستوى فردي أو جماعي، جعل شيلينج من المفاهيم الكبيرة سهلة الفهم للقارئ غير المتخصص.

(١) استراتيجية الصراع

ولقد تركز عمل توماس شيلينج في بداياته على أهم قضايا الستينات، وهي منع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة من التحول إلى “حرب ساخنة”. وفِي كتابه الرائع “استراتيجية الصراع The strategy of conflict”، قام شيلينج بتطبيق نظريات الألعاب على موضوع الحرب النووية، وناقش في أحد فقرات هذا الكتاب الصراع الأمريكي السوفييتي في صورة مباراة مبارزة بين طرفين. وكتب أنه إذا كان طرفا هذه المباراة متأكدين أن كليهما سيبقى حيًّا لفترة تكفي لرد ضربة الآخر بقوة مماثلة مهما كانت مميتة وإصابته دون وجود ما يمنع للوصول إلى هدفك، فما هي الميزة التي ستعود عليك إذا وجّهت الضربة الأولى إذا كنت على يقين أن الآخر سيردها لك بنفس القدر المميت. ربما يكون في هذه الحالة من الأفضل أن تدمر سلاح الخصم إذا استطعت، ويعد ذلك تضربه دون أن تخشى شيئًا، وربما أيضًا تكون أفضل استرتيجية لدى الخصم هي حماية سلاحه الذي يتيح له الرد في حالة تلقى هو الضربة الأولى.

وتطبيقًا لهذا على الواقع، فإن الهدف من أي نظام لتجنب أي هجوم مفاجئ يجب أن يضع في مقدمة أهدافه حماية السلاح ثم الناس. ويعني هذا أنه لبناء استراتيجية ردع قوية وفاعلة ضد الضربة الأولى التي يمكن أن تؤدي إلى مصرع الملايين من البشر، فإن الحكومة الأمريكية تحتاج إلى الدفاع عن أسلحتها أولًا ثم يأتي مواطنوها في المرتبة الثانية. ولا يعني هذا أنك تتبنى سياسة تعتبر السلاح أهم من أرواح البشر، بل أنت في الواقع توفر أفضل حماية لهم.

(٢) استراتيجية الالتزام المسبق

أضاف أيضًا توماس شيلينج أحد المفاهيم الهامة في نظرية الألعاب: أهمية دور “الالتزام المسبق precommitment” في التفاعلات بين طرفين، ومصدر الاستراتيجية هذه أساسًا استراتيجية عسكرية يمكن تطبيقها في سيناريوهات الأعمال والاقتصاد، وأشهر مثال على الارتباط المسبق هو قائد الجيش الذي يحرق الجسر الذي عبر عليه إلى ساحة المعركة بحيث يمنع فرص التقهقر والهروب. وتمثل هذه الاستراتيجيات قيمة كبيرة في المفاوضات حيث توضح للطرف الآخر مدى جديتك، فضلًا عن تحفيزك أنت وفريقك على المضي قُدُمًا. لكن هذا النوع من الاستراتيجيات ليس لضعاف القلوب لما يتحمله صاحبها من مخاطر كثيرة كان يمكن تجنبها. انظر مثلًا شخصًا على مستوى علمي ومهني مرتفع يستقيل من عمله ليبحث عن وظيفة أكبر وأفضل، لأن هذه الاستقالة تحول دون التكاسل أو تأخير البحث ركونًا لما في يديه مخاطرًا بلقمة عيش دونها سيقتله الجوع يومًا.

(٣) استراتيجية التعاون cooordination دون تواصل

درس شيلر قدرة اللاعبين على تنسيق تصرفاتهم حتى مع عجزهم عن التواصل، ولاحظ أنه في تجارب الألعاب يتم التوصل إلى حلول تعاونية coordinative solutions بشكل أكثر مما يمكن التنبؤ به نظريًا، ويتم التوصل إلى هذه الحلول، والتي نسميها في نظرية الألعاب نقاط شيلينج Schlinng points بسبب اشتراك اللاعبين في إطار فكري مشترك ربما يكون مصدره الأعراف والعادات الاجتماعية والتقاليد والكثير من الأحداث الثقافية والوطنية المشتركة.

في إحدى الألعاب مثلًا طلب من شخصين كل على حدة اختيار عدد صحيح integer. إذا اختار الاثنان نفس الرقم يحصل كلاهما على جائزة، وعلى الرغم من أن هناك عددًا ما لانهائيًا من الاختيارات أمام اللاعبين، فقد اختاروا في معظم الأحوال التي تمت فيها هذه التجربة الرقم (١) بوصفه أصغر رقم صحيح. وبشكل مشابه، إذا سألت شخصًا ما أنّ عليه أن يقابل شخصًا آخر في مدينة نيويورك دون تحديد مكان أو وقت معين، فأي مكان وتوقيت تختار؟ ستندهش أن الجميع اختاروا برج الساعة في السنترال بارك ظهرًا.

خاتمة

ساهمت، دون شك، نظرية الألعاب بشدة في وضع شكل علمي رياضي لدراسات العلاقات الدولية واستراتيجيات تعامل الدول على المستوى الدولي، ولقد ساهم توماس شيلينج مساهمة كبيرة في هذه المنحى مدعمًا بجهوده حتى أنشطة الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية دول العالم. وإذا جاز لي أن أوصي بثلاثة كتب أساسية في مجال السياسة الدولية هنّ: “فن الحرب ل صن تزو “، و”الأمير ل نيكولو مكيافيلي“، و”استراتيجية الصراع لتومسون شيلر”. وأنا على يقين أن الأخير يقدم فهمًا أعمق وأكثر شمولًا للسلوك البشري.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا