نظرة في كتاب مذكرات حرب أكتوبر للفريق سعد الدين الشاذلي
“لا يستطيع أي جيش في العالمِ أن يدعي أنه كان باستطاعته أن يفعل أفضل مما فعله المصريون في تخطيطِ وإدارة واقتحام قناة السويس، أما القرار باستغلال النجاح فكان خطأ جسيما، ولنتذكر جيدًا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسلاح الجوي الإسرائيلي والتفوق المساوي له تقريبًا في حربِ المدرعات المتحركة ”
الخبير الأمريكي الكولونيل ترينور دي بوي .
التجهيزات للحرب :
لم نكف عن التفكير في الهجوم على العدو، وفي خريف 1968 م بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة تستطلع إمكانية القيام بمثل هذا الهجوم على شكل “مشاريع إستراتيجية” تنفذ بمعدلِ مرة كل عام، والمشروع الذي كان مُقررا عقده عام 1973 م لم يكن سوى خطة حرب أكتوبر الحقيقية، وبسبب تفوق إسرائيل علينا تفوقا ساحقا في كل شئ عام 1968م وللأعوام التالية فقد كان مديرو هذه المشاريع يقترحون امتلاكنا لقوات مصرية ليست موجودة واقعيًا، بل ما يجب أن تكون موجودة معنا، وهو ما يظهر حجم القوات المسلحة التي يجب توافرها لكي يمكن تنفيذ هجوم ناجح، وهذا ما حدث عام 1973م فقد أصبحت خطتنا الهجومية مطابقة للإمكانات الفعلية لقواتنا المسلحة، وعندما عُينت رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة في 16 مايو 1971م لم تكن لدينا خطة هجومية بل دفاعية تسمى “الخطة 200” وكانت هناك خطة تعرضيه أخرى تشمل القيام ببعض الغارات وتسمى “جرانيت” وكانت تسمح ببعض الغارات، ولكن لم تكن في المستوى الذي يسمح بأن نطلق عليها هجومية .
وكانت القوات الجوية ضعيفة جدًا لا تستطيع تغطية أي هجوم بري لقواتنا وصواريخ الدفاع الجوي. أي كانت لدينا دفاعية وليست هجومية ولا تستطيع تغطية أي هجوم بري لنا، وبالرغم من أن قواتنا البرية كانت متعادلة مع قوات العدو وبعض التفوق في المدفعية، ولكن لم تكن ذات فائدة بسبب خط بارليف وقناة السويس، وأما قواتنا البحرية أقوى من البحرية الإسرائيلية ولكن ضعف قواتنا الجوية قلب الموازين، ونتيجة لهذه الدراسة فقد ظهر لي أنه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق لتدمير العدو وإرغامه على الانسحاب من سيناء لغزة، ولكن إمكانياتنا الفعلية قد تمكنا من عبور خط بارليف إذا أحسنا استخدامها ومن ثم احتلال المضايق.
عندما عرضتُ أفكاري الخاصة بعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف قبل تعييني رئيسا للأركان العامة على الفريق أول محمد صادق وزير الحربية عارض الخطة، وقال أنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، وكانت خطته في العملية الهجومية هي أن نقوم بتدمير جميع قوات العدو في سيناء والتقدم السريع لتحريرها هي وقطاع غزة في عملية واحدة مستمرة، وعبر عدة جلسات توصلنا لحل وسط وهو تجهيز خطتين خطة للاستيلاء على المضايق وأخرى للاستيلاء على خط بارليف.
الخطة الأولى أطلقنا عليها “العملية 41” وأخبرنا بها الروس للحصول على السلاح اللازم أما الخطة الثانية “المآذن العالية” لم نعلم بها أحد، عندما كنا نطلب السلاح اللازم للعملية 41 لم يستجب الروس وكانوا يتهموننا بالمغالاة في المطالب. أما خطة المآذن العالية في خطة فعلية موضوعة حسب ما نملكه من سلاح فعلي، وبعد عام 1972 م أدخلت تعديلات على الخطة 41 وتغير اسمها لجرانيت 2، وبسبب ضعف الإمكانات أصبحت خطة المآذن العالية هي الوحيدة الممكنة .
وعندما تولى أحمد إسماعيل وزارة الحربية وقائدًا عاما للقوات المسلحة عرضت عليه الخطتين واقتنع بضرورة التركيز على خطة المآذن العالية وتحدد ربيع 1973 لميعاد محتمل للهجوم، وأثناء المناقشات برز السؤال المهم “متى وكيف سيقوم العدو بهجوم مضاد ؟”.
حسب المشاريع الإستراتيجية السابقة كان سيرد الهجوم بعد فترة تتراوح بين 36 و 38 ساعة ولكن عند مناقشة تفصيلات الخطة قدرت هيئة العمليات أن الهجوم المضاد سيقع بعد 24 ساعة فقط أما مدير المخابرات الحربية فتوقع الهجوم المضاد بعد 6 إلى 8 ساعات، وكان واضحا أنه يبالغ في تقديراته ليؤمن نفسه، وبالرغم من ذلك وضعنا ذلك في الحسبان على الرغم من المشكلات الكبيرة التي خلفها لنا ، فعلى هذا الحساب فإن رد الهجوم سيكون قبل وصول المعدات للجنود من الناحية الأخرى للقناة بأربع ساعات، وبالتالي قمنا بزيادة الصواريخ المضادة للدبابات التي يحملها المشاة معهم أثناء العبور وقررنا زيادة عدد القوات العاملة في عمق العدو بهدف تأخير وصول قواته.
ملاحظة: لم يقم العدو بهجومه المضاد إلا بعد 42 ساعة من بدء الهجوم .
الخطة بدر :
وهي خطة المآذن العالية في صورتها الأخيرة وكانت تحوي قرارا بخصوص عبور قناة السويس وعمل مواجهة واسعة وقد تولدت هذه العقيدة لدينا بسبب أننا إذا قمنا بتركيز هجومنا على مواجهة صغيرة فإن ذلك يعرض قواتنا لضربات جوية شديدة ، كما أنه لو اختار العدو توزيع هجماته المضادة على طول المواجهة فإنه سوف يضطر إلى توزيع مجهوداته وسوف يكون لدينا قدرة لصد هجومه المضاد .
في خلال شهر إبريل 73 أخبرنا وزير الحربية برغبته في تطوير هجومنا في الخطة لكي يشمل الاستيلاء على المضايق وأعددت له مذكرة لأشرح له صعوبة ذلك. فذكر أخيرًا بأنه إذا علم السوريون بأن خطتنا هي احتلال 10 – 15 كم شرق القناة فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا. فأخبرته أنه بإمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا وإن نجاحُنا يشجع السوريون على الانضمام إلينا ولكنه قال أن هذا الرأي مرفوض سياسيا، وبعد نقاش طويل طلب تجهيز خطة تشمل تطوير الهجوم بعد العبور للمضايق لعرضها على السوريين .
قمنا بتجهيز الخطة الجديدة ولم تكن سوى جرانيت 2 بعد إجراء تعديلات عليها وإدماجها مع الخطة بدر وكنا نسمى المرحلة الأولى بدر والثانية جرانيت، وكلنا يعلم أننا لن نستطيع تنفيذ المرحلة 2 .
خط بارليف :
يتكون من مانع مائي عرضه 200م وبعده سد ترابي بميل 45 و 65 درجة حسب طبيعة التربة و35 حصنا بينها 1 كم وهذه الحصون مدفونة تحت الأرض وذات أسقف قوية تتحمل المدفعية وتحيط بها حقول ألغام وأسلاك كثيفة وبين هذه الحصون كانت هناك مرابض نيران للدبابات بمعدل 1 مربض لكل 100 م . وكانت حصون بارليف لديها اكتفاء ذاتي لمدة 7 أيام ، أدخلوا سلاحا جديدا رهيبا هو النيران المشتعلة فوق سطح الماء عن طريق براميل تحمل سائلا مشتعلا كثافته أقل من كثافة الماء . كان كل التفكير موجه للعبور والحفر بالأدوات الميكانيكية ولكن تبين استحالة ذلك .
وكلفت اللواء جمال علي مدير إدارة المهندسين بضرورة البحث عن أسلوب آخر وجاء بعدها ليخبرني باقتراح أحد الضباط المهندسين بفتح ثغرة في الساتر الترابي بأسلوب ضغط المياه وأنه مارس هذا العمل قبل ذلك في السد العالي وكانت النتيجة رائعة ، كان هذا حلا سهلا ورائعا وشكرت المهندس . وعرفنا أن اسرائيل لم تكتشف طريقتنا هذه عندما وقع في أيدينا أحد جواسيسهم قبل بدء الحرب بشهرين . وللتغلب على النيران تم اقتراح أن يلبس الجنود ملابس واقية من الحريق ونستبدل القوارب المطاطية بمركبات مائية .
ما قبل الحرب :
” ذكر اليعازر رئيس أركان القوات المسلحة الإسرائيلية أثناء مناقشة احتمال قيام المصريين بالهجوم على القناة ، علق دايان ساخرا لكي تستطيع مصر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف فإنه يلزم تدعيمهما بسلاحي المهندسين الروسي والأمريكي معا ”
في الساعة 18 من يوم 21 أغسطس 73 جاء وفد سوري واجتمع مع وفد مصري في قصر رأس التين بالإسكندرية وذلك لتحديد موعد الحرب . واقترحنا موعدا للحرب من 7 – 11 سبتمبر والثاني 5 – 11 أكتوبر . وقد حرر الاجتماع من صورتين وتم التوقيع عليهما من قبل يوسف شكور من الجانب السوري وسعد الشاذلي من الجانب المصري . وتم في اجتماع الإسكندرية تنسيق الخطط المصرية السورية الخاصة بالسرية والأمن والخداع التعبوي والاستراتيجي والسياسي ، وجدير بالذكر هنا أننا سرحنا 40000 رجل يوم 4 أكتوبر فانخدعت إسرائيل ولم تشعر بتعبئة 100000 رجل .
واعتبارا من يوم 21 سبتمبر بدأ العد التنازلي نحو حرب أكتوبر . كان علينا القيام بالكثير خلال الخمسة عشر يوما التالية لكي نتخذ أوضاع الهجوم النهائية : حشد المدفعية وحشد وحدات المهندسين والتعبئة واستدعاء الاحتياطي وتحرك الغواصات واتخاذ أوضاعها .
وفي الأول من أكتوبر 73 أخطرنا قائدي الجيش الثاني والثالث بأن تمام الاستعداد لتنفيذ الخطة بدر هو يوم 6 من أكتوبر وقد فرضنا عليهم أن يجري تبليغ قادة الفرق يوم 3 من أكتوبر فقط وقادة الألوية يوم 4 من أكتوبر وقادة الكتائب والسرايا يوم 5 من أكتوبر وقادة الفصائل وضباط الصف والجنود قبل بدء الهجوم بست ساعات فقط . وفكرت في هذه الأثناء بتصوير فيلم عن معركة العبور ولكن عدلت عن الفكرة لأن ذلك يتطلب معرفة مخرج الفيلم بجميع سيناريو الحرب قبل 4 أيام ، ولكن ندمت بعد ذلك عندما رأيت صور العبور منشورة في الصحف العالمية وهي الصور التي تم تصويرها بعد الحرب بكومبارس وللأسف تظهر عملية العبور في صورة غوغائية ينعدم فيها الضبط والربط . وهي صورة لا تمثل عملية العبور ولا الجندي المصري مطلقا ، ومن الأحداث التي حدثت قبل الحرب م 24 ساعة هو سحب الروس لخبرائهم بدون سبب وربما يكون السبب أنهم لا يريدون أن يتورطوا في الحرب .
العبور :
كان الوقت المحدد لعبور الموجه الأولى من المشاة هو الساعة 14:30 ولكن كان هناك الكثير من المهام الأخرى التي يجب تنفيذها قبل ذلك ولعل أهم هذه المهام هو قيام قواتنا الجوية بتوجيه ضربة جوية لمطارات العدو ومراكز قيادته ومناطق حشد المدفعية في سيناء وقد اشترك في هذه الضربة الجوية أكثر من 200 طائرة . وبمجرد عبور قواتنا الجوية لخط القناة بدأت مدفعيتنا عملية القصف التحضيري المكثف على مواقع العدو شرق القناة وفي الوقت نفسه تسللت عناصر استطلاع المهندسين وعناصر من الصاعقة إلى الشاطئ الشرقي للقناة للتأكد من تمام إغلاق المواسير . وفي الساعة 18:30 عبر للشاطئ الآخر 2000 ضابط و 30000 رجل من خمس فرق مشاة وكان المهندسون يعملون بجد في فتح الثغرات في الساتر الترابي . وعند فتح الثغرات تم عملية نقل الدبابات للضفة الشرقية وكانت دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة تتدفق نحو الشرق مستخدمة 7 كباري ثقيلة و 31 معدية . بعد عبور المشاة عادت الطائرات بعد خسارة عدد 5 طائرات . وفي اليوم التالي ظل عبور المشاة قائما والمدفعية مستمرة في ضرب الأهداف في عمق العدو واستمر المهندسون في فتح الثغرات في الساتر الترابي بينما وحدات المهندسين المكلفة بتشغيل المعدات وبناء الكباري قد تم إنذارها لكي تكون جاهزة للتحرك من مواقع تجمعها إلى النقاط المحددة . وبدأ العدو يقحم قواته الجوية في المعركة ودخل معه دفاعنا الجوي وأسقط 7 طائرات . ونجح العدو في تعطيل كوبريين وتدمير بعض وسائل العبور الأخرى . بحلول الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد 7 من أكتوبر 73 كانت قواتنا قد حققت نجاحا حاسما في معركة القناة وعبرت أصعب مانع مائي في العالم وحطمت خط بارليف في 18 ساعة وهو رقم قياسي لم تحققه أية عملية عبور في تاريخ البشرية .
الهجوم المضاد الرئيسي للعدو :
في يوم 7 أكتوبر كان يوم سباق بيننا وبين العدو استعدادا للمعركة التالية فقد دفع العدو بخمسة ألوية مدرعة جديدة كما دفع ب 300 دبابة . كانت حجم القوة البرية المصرية والإسرائيلية تقريبا متساوية ولكن التفوق كان لدبابات العدو لأنها كانت مجهزة بوسائل جيدة لتقدير المسافة والتسديد . ولذلك تحاشينا الدخول مع العدو في معركة دبابات في أرض مفتوحة حيث يصبح مدى المدفع هو السلاح الحاسم في المعركة . والنقطة المهمة الأخرى أن العدو كان يستخدم دباباته الاستخدام الصحيح أما نحن فنستخدمها كمدافع مضادة للدبابات ذاتية الحركة . ولم يكن جهلا منا بأصول استخدام الدبابة بل بسبب ضعف تسليح دباباتنا وضعف قواتنا الجوية . وأثبتت الأيام أننا كنا على صواب عند إتباع هذا الأسلوب . وعندما قمنا بتغيير هذا الأسلوب في 14 أكتوبر بناءا على قرار سياسي تمكن العدو من أن يدمر لنا 250 دبابة في أقل من ساعتين
ثغرة الدفرسوار ” القرار السياسي الخاطئ ” :
بعد عودتي من الجبهة يوم الخميس 11 أكتوبر فاتحني الوزير في موضوع تطور هجومنا نحو المضايق ورفضت فأبلغني أن هذا القرار سياسي. وعندما أرسلت لقادة الجيش، طلبني اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني على الهاتف وقال بغضب سيادة الفريق أنا مستقيل؟ أنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ المعلومات وبعد دقائق اتصل اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث وأبدى معارضة شديدة، وقررت استدعاءهما وإبلاغهما أن القرار سياسي وليس عسكري.
كان هذا القرار أول غلطة كبيرة ترتكبها القيادة المصرية خلال الحرب وقد جرتنا هذه الغلطة لسلسلة غلطات أخرى، وكل ما استطعنا عمله هو التأجيل ليوم 14 أكتوبر، لقد خسر العدو خلال قتال يومي 8 و 9 من أكتوبر حوالي 260 دبابة ولهذا تراجع وأبطأ من هجومه وقام بتعويض الجزء الأكبر من خسائره في الدبابات إلى أن وصلت 900 دبابة يوم 13 من أكتوبر ، كان علينا في 14 من أكتوبر أن نهاجم 900 دبابة معادية في المكان الذي يختاره العدو لهذا اللقاء وتحت سيطرة جوية معادية بقوة 400 دبابة مصرية فقط، هل كان هذا القرار نتيجة الجهل أم المقامرة أم الخيانة؟ لقد نجح العدو في تدمير معظم دباباتنا وفي ظهر يوم 14 انسحبت قواتنا مرة أخرى، وكان تبرير السادات بأن هجومنا كان بهدف تخفيف الضغط عن سوريا وهو إدعاء باطل الهدف منه هو تسويغ الخطأ .
من الإحداث التي حدثت الساعة 13:30 يوم 13 أكتوبر ظهور طائرة استطلاع فوق منطقة القتال ولم تكتف بتغطية الجبهة بالكامل بل طارت فوق الدلتا قبل أن تخرج وكل هذا دون أن تصاب بأذى وعندما سألت الدفاع الجوي لماذا لم يسقطها فرد اللواء محمد على فهمي بأنها تطير على ارتفاع خارج مدى صواريخنا . وعرفنا من إرتفاعها وسرعتها أنها لابد أن تكون الطائرة الأمريكية SR-71-A ومعنى هذا أن إسرائيل أصبحت تعلم بموقف قواتنا شرق القناة وغربها على وجه اليقين وأنه لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه على العدو .
وعلى مستوى القيادة العامة وصلتنا المعلومات الأولى عن اختراق العدو صباح يوم 16 من أكتوبر وكان الموقف مائعا عجزت قيادة الجيش عن تحديد حجم ومكان القوة المعادية، عقد مؤتمر بالقيادة بعد ظهر يوم 16 واقترحت سحب الفرقة 4 المدرعة واللواء المدرع 25 من قطاع الجيش الثالث خلال الليل وأن يقوم فجر باكر بتوجيه الضربة الرئيسية ضد قطاع الاختراق، ولكن السادات قال بغضب” أنا لا أريد أن أسمع منك مرة أخرى هذه الاقتراحات الخاصة بسحب القوات من الشرق، إذا أثرت هذا الموضوع مرة أخرى فغني سوف أحاكمك”
لقد أصابني كلام السادات بجرح عميق وكنت أفكر بالإستقالة ولكن طردت هذا من خاطري. كيف أترك القوات المسلحة في أوقات الشدة؟ وهكذا قمنا بإصدار التعليمات الخاصة بعمليات يوم 17 طبقا للقرار الذي اتخذه الوزير والرئيس، وحاول اللواء عبد المنعم واصل تعطيل القرار ولكن كمبدأ عام يمكن للقادة أن يختلفوا عند إبداء وجهة نظرهم قبل اتخاذ القرار، أما مجرد اتخاذ القرار فيجب أن يعمل كل منهم قدر طاقته لتنفيذه سواء كان يتفق مع وجهة نظره أم لا . ولذلك لا سبيل للتراجع الآن . وبعد حديث طويل مع عبد المنعم واصل قال لي بيأس شديد “لا حول ولا قوة إلا بالله . سوف أقوم بتنفيذ هذه الأوامر ولكن أقولها مسبقا ، سوف يدمر هذا اللواء”
وهذا ما حدث بالفعل وتم تدمير اللواء تدميرًا تاما وتدفقت قوات وتدفقت قوات العدو ونجح في بناء أول كوبري له في منطقة الدفرسوار، وأصبحت قواتنا مهددة بالتطويق، ودمر العدو الكثير من مواقع صواريخنا سام وأصبحت القوات الجوية المعادية قادرة على العمل بحرية من خلال الثغرة التي أخذتها في دفاعنا الجوي، وأخيرا اتخذ السادات القرار بسحب الفرق واللواء المدرع ليلة 25 18/19 من أكتوبر وقد كنت أريد سحبها 18/19 أكتوبر وحينها كان سيتغير الموقف تماما.
وحدث بعدها أن طالبت بسحب ألويتنا المدرعة من الشرق في خلال الأربع والعشرين ساعة التالية ولكن رفض الوزير أحمد إسماعيل والسادات مرة أخرى، يدعي السادات في مذكراته ( الصفحة 348 ) بأنني عدت من الجبهة منهارا يوم 19 من أكتوبر وأنني طالبت “بسحب قواتنا في شرق القناة لأن الغرب مهدد، ويؤسفني بأن أقول أن هذا كذب رخيص، لقد كنا تسعة أشخاص مات واحد ومازال الثمانية الآخرون أحياء وإني لأتحدى إذا كان أحد من هؤلاء الأحياء يستطيع أن يشهد بصدق ما يدعيه السادات، لقد طالبت حقا بسحب جزء من قواتنا من الشرق للغرب وكانت مطالبتي بهذه العملية يوم 20 من أكتوبر، وحدث بعد ذلك أن حاصر العدو الجيش الثالث . لقد كان القضاء على الثغرة يوم 16 من أكتوبر سهلا ميسورا لو لم يثر السادات من وجهة نظري في وجهي وكأني ارتكبت حماقة، وفي يوم 20 من أكتوبر كان الموقف ما يزال تحت سيطرتنا ويمكن القضاء على الثغرة لو أن السادات أخذ برأيي، أنه درس قاس دفعت مصر والعرب ثمنه غاليا ولكنه درس على أية حال .
إن السادات هو أحد مئات من حكام مصر الذين حكموا هذه البلاد عبر 7000 سنة ويجيء من بعده مئات آخرون، وستبقى مصر شامخة عزيزة الجانب وسيشهد التاريخ أن حرب أكتوبر 73 قد أبلى فيها الجندي المصري أحسن البلاء وأن ضباط والجنود جميعا قد أدوا أروع الأداء، إلا أن حاكم مصر في ذلك الوقت المتعطش للسلطة وحب الظهور قد أجهض انتصاراتهم، فلجأ السادات بعد ذلك للسوفييت وقام السوفييت بتوجيه تحذير شديد اللهجة لإسرائيل وأمريكا وقام نيكسون برفع درجة الأستعداد في جميع أنحاء العالم وبدا الموقف وكأن الدولتين العظمتين على وشك المجابهة ولكن بضغط خفيف أمريكي على إسرائيل أوقفت النار ولكن لم تلتزم بقرار العودة لحدود 22 بحجة أنه لا أحد يعرف أين كانت القوات قبل 22 أكتوبر، ولكن كل ذلك بعد أن أتمت حصار الجيش الثالث .
ما أغلى الثمن الذي دفعته مصر نتيجة حصار الجيش الثالث يوم 23 أكتوبر، لقد أجهض حصار الجيش الثالث إنتصارات أكتوبر المجيدة وأجهض سلاح البترول وأجهض الحصار البحري الفعال الذي فرضته مصر على إسرائيل، وأفقد القيادة السياسية المصرية القدرة على الحركة والمناورة وجعلها ألعوبة في يد إسرائيل وأمريكا، وفي سبيل إنقاذ الجيش الثالث كانت مصر ترى إسرائيل وهي تنهب وتسلب ثرواتها وتقف مكتوفة الأيدي لا تستطيع الرد ولا حتى مجرد الاجتماع .
وهنا يبرز السؤال مرة أخرى، من المسئول عن حصار الجيش الثالث؟ إذا رغبت مصر أن تغسل شرفها العسكري من الشوائب التي أصابته نتيجة حصار الجيش الثالث فإنها يجب أن تبحث عن المسئول عن هذه الكارثة وإني لأتهم السادات بهذه الجريمة ولدي الوثائق التي تؤيد هذا الاتهام .