علاقة حضارية “النظرة الأوروبية لنشأة الحضارة الغربية”
النظرة الأوروبية لـ نشأة الحضارة الغربية، وحتى وقت قريب، كانت تعتبر أنّ أصل حضارتهم بدأ مع نشأة الحضارة اليونانية القديمة التي أعطت للعالم مفاتيح المعرفة والعلوم اللازمة لتطوّر البشرية، ثمّ تلتها الحضارة الرومانية مستخدِمةً ومطوّرةً ما أخذته من ميراث وأسرار العلوم اليونانية.
أمّا ما نعرفه عن نشأة الحضارة اليونانية يرجع إلى نحو سبعة قرونٍ قبل الميلاد… وميراث تلك الصحوة التاريخية هي مجموعة العلوم الأساسية مثل: الفلسفة مع أفلاطون، والرياضة مع فيثاغورث، والفلك والهندسة الفراغية مع تالس، والجغرافيا مع أناكسيماندر، والقانون والنّظم الضريبية مع صولون، والروحانيات مع هيراكليت وآخرين ممّن لمعت أسماؤهم في الطبّ والموسيقى والصناعة بصفتهم آباء الحضارة اليونانية.
وقد ثبت من خلال اكتشافات آثار الحضارة المصرية الفرعونية، ومن خلال مدوّنات البردى، أنّ كلّ علماء اليونان السابق ذكرهم بلا استثناء، قد تتلمذوا على يد كهنة الحضارة الفرعونية، القائمين على حفظ كنوز المعرفة بمعابدهم، حتى أنّ هؤلاء اليونانيين قد اضطروا للامتثال لشروط الكهنة حتى يمكنهم الدخول إلى المعابد، ومنها شرط “الختان” للتطهّر.
فانتقلت تلك المعارف والعلوم من مصر إلى اليونان ابتداءً من سنة 650 قبل الميلاد إلى سنة 350 ق. م.. أما عن أصول العلوم وأبحاثها ونظرياتها، فكانت مدوّنة لدى الكهنة منذ 2250 قبل الميلاد. وقام هؤلاء اليونانيون بتملّك تلك العلوم ووضع أسمائهم عليها، (طبعًا دون مراعاة لحقوق الملكية الفكرية، بما فيها نظرية الهندسة التي حملت اسم فيثاغورث). وظلّت اليونان تنظر إلى مصر بإعجاب شديد واستغراب من الثروة الفكرية لتلك الحضارة المصرية، كما كانت تتعجّب من عظمة الفراعنة “السود” أو “السمر” الذين حافظوا طوال ألاف السنين على الكنوز العلمية والمعرفية. (لم تظهر الأفكار العنصرية تجاه الأفارقة السود إلا مع عصر تجارة العبيد فى القرون الوسطى).
ثمّ جاء الإسكندر الأكبر أو المقدوني إلى مصر عام 332 قبل الميلاد، ونصّب نفسه فرعونًا على مصر، ثمّ أسّس الإسكندرية وبدأ منها فتوحاته متّجهًا شرقًا لصدّ الفرس، معتبرًا أنّ مصر واليونان تمثّلان كيانًا واحدًا، وبدأ عصر البطالسة من 323 ق.م. واستمرّ حتى 30 ق.م. ويعتبر البعض أنّ هذا العصر كان يمثّل الدولة الفرعونية رقم 32.
ثم انتقلت مصر بعد ذلك إلى العصر الرومانى تحت حكم كليوباترا آخر البطالسة. استمرّت العلاقة وطيدة بين مصر واليونان عبر القرون. فكانت مصر تعتبر اليونان بوّابتها الشمالية نحو أوروبا، واعتبرت اليونان مصر أمّ الحضارة اليونانية والجزء المكمّل لها.
ثمّ جاء العصر العثماني الذي بدأ باحتلال اليونان منذ القرن الرابع عشر. وظلّت اليونان عثمانية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وفى يوم 4 مارس من سنة 1769، وُلد بإحدى جزر اليونان – جزيرة كافالا – (أو قاولا) الواقعة على مشارف مقاطعة مقدونيا الشرقية، طفلٌ لأبوين من أصول ألبانية، هو محمد علي باشا. وبطبيعة الحال قضى محمد علي طفولته باليونان، فكان يتحدّث باللغة اليونانية واللغة التركية وبعض الفرنسية، وقليلًا جدًّا من اللغة الألبانية، ولكنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة.
وعندما انضمّ إلى صفوف الجيش العثمانيّ، ووجد نفسه مرسَلًا إلى مصر لمواجهة حملة نابليون، انبهر محمد علي بقدرات الجيش الفرنسي، وقرّر التقرّب منهم، ولكنّه كان أكثر انبهارًا بمصر وبما تحتويه من مقومات حضارية، فقد كانت ثقافته اليونانية تملي عليه احترام الحضارة المصرية هذا البلد، أمّ الحضارات. وبعد سنوات من تولّيه حكم مصر (سنة 1805)، وبعد أن أسّس مع ابنه ابراهيم باشا جيشًا مصريًا قويًا، أراد الحصول على استقلال مصر تدريجيًا من حكم السلطان العثماني، فلم يكن يتقبّل أن تظلّ أم الحضارات تحت حكم تلك الخلافة الآيلة للزوال…
وقد أظهر قدرات الجيش المصري من أجل إقناع السلطان باستقلال مصر، وأرسل جيشه المصريّ ليعاونه في تهدئة ثورة استقلال اليونان، واستطاع بالفعل إعادة احتلال اليونان وانتهت بموقعة نافارين البحرية (1827)، أما عن مسقط رأسه “كافالا” فقد أهداها محمد علي عام 1817 التكية المصرية لاستضافة الفقراء من اليونانيين وتقديم الوجبات المجانية. وكانت تسمّى “إمارة محمد علي”… ولا تزال مبانيها متواجدة، لكنها تحوّلت إلى فندق فخم (فندق إمارة).
ثمّ جاءت هجرة اليونانيين إلى مصر بحثًا عن العمل طوال القرن التاسع عشر والعشرين، فقد ظلّت مصر في مخيّلة الشعب اليوناني هي أم الدنيا. فماذا نحن فاعلون اليوم بهذا التراث الحضاريّ المتكامل مع جيران الشمال؟ أنقطع صلة “الرحم” التاريخية؟