“نساء صغيرات”.. إبداع تَفلّت من بين ذراعَي التعنّت (مترجم)
حلّت مؤخرًا الذكرى المائة والخمسون لإصدار رواية “نساء صغيرات” للكاتبة البريطانية ماري لويز إلكوت، الرواية البريطانية الكلاسيكية عن حياة النساء، والتي ما تزال تتوالى طبعاتها بمختلف اللغات حتى وقتنا هذا. لمست حياة الأخوات “مارش” وترًا حساسًا لدى قارئيها منذ حداثة ظهورها ـ خاصةً الصغيرات منهم ـ وما تزال تحتفظ حتى الآن بذات الصدى الأخّاذ.
تتجلى شعبية وأهمية الكتاب لدى جمهور المعجبين واضحةً في كمّ الأعمال الفنية التي اقتبست عنه سواء في مجال الأفلام، المسرح أو التلفزيون، وكان آخرهم الفيلم السينمائي الذي أُنتج العام الماضي والمقتبس عن ذات القصة وإنما بمعالجة خاصة لتجري أحداثه في زماننا الحالي، أما عن هذا العام فمن المقرر ظهور فيلم آخر مقتبس عن الرواية من إنتاج ستديوهات الإنتاج في هوليوود، من إخراج جريتا جيرويج وبطولة ميريل ستريب وإيما واتسون وسيرشا رونان.
تقص “نساء صغيرات” حياة الأخوات مارش الأربعة؛ ميج، وجو، وبيث، وإيمي اللاتي يواجهن معًا مصاعب الحياة، ويتعلّمن عنها ويوطّدن علاقتهن ببعضهن البعض بينما تمر بهن السنوات من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الأنوثة.
يصوّر الجزء الأول من الكتاب فتيات عائلة مارش خلال فترة الطفولة، نضالهن ضد الفقر والاختلاف البيّن بين شخصياتهن وتبعات أخطاءهن، وكيف تغلبن على كل تلك التحديات واحدة تلو الأخرى، بينما يأتي الجزء الثاني لرسم صورة مفصّلة عن تحولهن من فتيات إلى سيدات، وزواج كل منهن ليصرن من بعد طور الطفولة زوجات وأمهات وسيدات فاضلات.
معاناة حقيقية
استندت ماري لويز في قصّها عن ملامح الفقر المدقع الذي عاشته الشقيقات مارش، إلى ذات الظروف التي خبرتها عائلة إلكوت في الحقيقة، بينما جاء الاختلاف الوحيد في حقيقة أن الفقر في عائلة إلكوت إنما فُرض عليهم فرضًا من قِبل السيد إيموس برونسون إلكوت؛ والد ماري لويز، الفيلسوف والمصلح التربوي الشهير آنذاك، وأحد المؤمنين بفلسفة التسامي.
في تناقضٍ صارخ مع الكتاب، وبينما استنكرت التقاليد والمواثيق الاجتماعية آنذاك عمل النساء واعتبار الإعالة والإنفاق دور الرجل الرئيسي، أحجم برونسون إلكوت عن دوره في إعالة عائلته متمسكًا ومتفرغًا لرسالته التربوية، مُعلنًا عن استعداده “لملاقاة حتفه جائعًا أو متجمدًا حتى الموت قبل أن يضحي بدوره كناصح ومرشد في سبيل الكدّ بالعمل من أجل المال والراحة التي يوفرها”، أرغم ذلك الأمر زوجاته وبناته على العمل للإنفاق على البيت، وفي حالة ماري لويز لاحتراف الكتابة.
على الرغم من فداحة منطقه لاقى برونسون كل صنوف الدعم والتأييد لموقفه من زوجته أبيجيل -والتي صورتها ماري لويز في شخصية مارمي في الرواية-، أثار ذلك الدعم والتأييد غير المنطقي أو المشروط غضب ماري لويز وغذّى من إحباطها على مر الأيام. أشار العديد من كُتّاب السير الذاتية الذين اضطلعوا بدراسة حياة ماري لويز إلكوت إلى كون النغمة الصادرة عن الكتاب -فيما يتعلق بتحمّل الفقر وتبعاته- إنما تأتي بإيحاء من رغبة خفية لدى ماري لويز في تبرير موقف والدها المزعج غير المَعنِي على الإطلاق بتوفير سُبل الحياة الكريمة للعائلة.
أخلصت ماري لويز في حياتها لوالديها، بل وخضعت لهم تمامًا وبالأخص لوالدها، كانت نظرة إيموس إلكوت للعالم قائمة على فكرة ذات طابع رومانسي روحي عن ماهية الخير والصورة المثالية التي يجب أن يكون عليها البشر، وقد ألح برونسون لسنوات عديدة على ابنته لكتابة حكايات بسيطة في مضمونها موجَّهة للأولاد والبنات بغرض توعيتهم لمواجهة مشاعر الغضب والأنانية، ذات المشاعر التي كثيرًا ما أشار آسفًا إليها باعتبارها من عيوب لويز نفسها، في النهاية نالت أفكار برونسون من ابنته وشقّت طريقها رغمًا عنها إلى روايتها، حيث جاهدت الشقيقات مارش طوال الرواية لتحقيق الصورة المثالية للمرأة.
التقدير؛ هو أعظم ما حَرَمَته ماري لويز
أما عن فكرة برونسون عن ابنته، فلطالما نظر إليها باعتبارها خيبة محقَّقَة لآماله العريضة؛ كان يعتبرها مفعمة بنشاط مبالغ فيه، قليلة الصبر، “تابعة مخلصة لغرائزها”، وقد أشار مرارًا إلى كونها تُظهر ما دعاه بعلامات مبكرة لـ “شرٌ وشيك” سيتلبّس روحها، اختارت ماري لويز ألا تتزوج حتى نهاية حياتها، ولقد خضعت -رغمًا عن إرادتها- لتوجيهات ناشرها وقاعدة جمهورها العريضة، وجعلت جو بطلة روايتها تتزوج في النهاية.
وفي ظنّي أنه ربما لو تمتعت ماري لويز بحالة مادية مستقرة من نتاج كتابة تلك الروايات القوطية التي أحبتها وبرعت في كتابتها، ما كانت قد كتبت “نساء صغيرات” في الأصل، غير أنها كانت “غارقة في الديون” على حد قولها، وقد حثّها الناشر على كتابة رواية تصلح للفتيات، واعدًا إياها بنشر كتاب والدها “مقتطفات” إن هي أذعنت لطلبه.
“بيث” الملاك الذي لم تستطع الحياة احتمال نقاؤه
يبرز مشهد موت الأخت الصُغرى “بيث” كحدث مأساوي ومفجع، عصي على النسيان بين صفحات “نساء صغيرات”، كانت بيث في واقع الأمر أكثرهن خجلًا وعزلة، ولقد رسمت ماري لويز موتها كصورة من صور “التضحية بالذات”؛ ذلك أن بيث قد ضحّت بحياتها “لعلمها تمامًا بالقدر الضئيل الذي تشغله في الحياة”.
كانت “بيث” هي الشخصية التي رسمتها ماري لويز للدفع بذكرى أختها “إليزابيث” أو “ليزي”، والتي لاقت حتفها إثر مضاعفات إصابتها بالحُمى القرمزية، جاءت قصة وفاة “بيث” في الرواية كمثال صارخ على نموذج الأدب الفيكتوري المفضل؛ الابن العاطفي، المتألم، الملائكي والمثير للشفقة حتى بقدرٍ ما. ماتت “ليزي” في الواقع في عام 1858، في عمر الثانية والعشرين، بعد معاناة وألم، وخوف من الموت صاحَبها طوال فترة المرض، وغضب اعتراها من تلك الحياة التي لم تهنأ بها وإنما فُرضت عليها فرضًا من قبل والديها، بينما كانت إليزابيث تحتضر كانت ماري لويز تراقب المشهد برعب.
في كل الأحوال لا يمكننا إنكار أن الفكرة الرئيسية في “نساء صغيرات” والمعنية بتيمة الحب والحزن والرابط الأخوي ما زالت تروق لنا كقارئين؛ وعن ذلك تصرّح روبن سويكورد -المنتجة للفيلم الروائي السالف ذكره المأخوذ عن الكتاب والذي من المنتظر عرضه في وقت قريب من هذا العام-: “يشير الكتاب إلى كافة الأمور التي تواجهها أو تتعرض لها الفتاة بينما تشق طريقها نحو عالم الراشدين”، وتضيف روبن عن تصنيف الفيلم أنه: “نظرًا لطابع الكتاب، فمن الطبيعي أن تتخذ كل الأعمال الفنية المقتبسة عنه الطابع الرومانسي”.
بالمقارنة؛ تبدو المواضيع والمبادئ المدرجة عن عمد ومباشرةً في الرواية عتيقة، غير عادلة أو معقولة بما يكفي لتتماشى مع أيامنا الحالية، خاصةً وقد كُتبت بناءً على إرشادات من والد ماري لويز أو مساومات من ناشرها.
كتبت ألكوت “نساء صغيرات” فقط لأن والدها أراد ذلك، وقد ظهرت المبادئ والأخلاق والدروس التربوية في الرواية وكأنما أُمليت عليها، على الرغم من أن ماري لويز لم ترد كتابته في الأصل، وعلى الرغم من كونه أجبرها على استعادة أقسى سنوات حياتها وأمرّها، حققت الرواية نجاحًا فوريًا إبان إصدارها، واهتمامًا ما تزال تتمتع به كافة طبعات الكتاب حتى الآن.
وهدفنا الأثير أننا وبإلقاء الضوء على ظروف كتابة الرواية، يمكن الآن للقارئ -والمشاهد في حالة الفيلم- تكوين صورة كاملة عن الرواية، والتوصّل لتفسيرات متعددة -وإنما حقيقية- عن مآسيها وأحداثها بعيدًا عن الصورة المباشرة والنمطية المشهورة.