نزلاء القدر

استيقظتُ في نهاية تلك الرحلة الطويلة مع أصدقائي على شاطئ البحر، غفوت في تأملي نجم سهيل الذي كان في كامل تألقه ليلتها، لأجد ماريا، ابنة أحد أصدقائي التي تبلغ السادسة من العمر، تكوِّم رمال الشاطئ في يدها وتقذف بها على ثوبي الأسود، لم أتمالك نفسي حتي صِحْتُ بها أن تكفّ عن هذا العبث فهي تفسد ثوبي، أخذت تضحك دون إعطاء أدنى أهمية لصراخي، وقالت بابتسامة خافتة كمن يبّرر ذنبًا يخشي من الآخر ألا يتقبله:

“انظري، فالآن ثوبك أصبح جزءًا من السماء.”

وأشارت بحذر نحو بعض تكومات الرمال على كتفي، وقالت “ها هي كوكبة الجبار.” وأشارت على أخرى وكانت تشبه الدبّ الأكبر. لم أتمالك تلك البراءة واحتضنتها بشدة، فبرغم مقتي لِعُلوّ صوت الأطفال وتبريراتهم، إلا أنني لا أجد سبيلًا مع هؤلاء الصغار الذين يملكون شغفًا نحو السماء، أو هذا ما أعتقده على الأقل.

أشار لنا مشرف الرحلة أنه موعد الرحيل، لكيلا يتأخر أحد عن أعماله. كان أثر هذه الإشارة حزينًا علينا جميعًا، فحتى من لم يكونوا أصدقائي قبل هذه الرحلة، أصبحوا كذلك فيها، كان عددنا يبلغ نحو الثلاثين شخصًا، وعلى نهاية أيام الرحلة الثلاث، كنا قد وطّدنا علاقتنا جميعًا، فكنا نسخط الفراق حينها، لكني كنتُ أوقن أنّ جمال هذه العلاقة يكمن في كوننا عابري سبيل في حياة بعضنا البعض، وإن طالت رفقتنا لمللنا وسخط بعضنا بعضًا دونًا عن الفراق.

اتجهنا ناحية السيارات التي ستقلنا، كُنّ ست سيارات “بيجو”، وبينما كنت أستمع لموسيقاي الخاصة أثناء الطريق، تعطلت السيارة بنا، في الحقيقة، تعطلت كلّ السيارات، قال المشرف أنه لابدّ من عطلٍ ما أو عيب صناعي، لأنه ما من نقصٍ في الوقود أو ما شابه، ولسوء الحظ، كانت الأمطار تهطل بغزارة، وما من إرسالٍ متاح حتى لنطلب المساعدة.

إعلان

ولحسن حظنا، كان هناك فندق في الجوار حيث توقفنا، اتجهتُ أنا وأحد أصدقائي مع المشرف لنرى إن كان هناك من يمكنه المساعدة.، وجدنا رجلًا بدا في سبعينيات عمره جالسًا أمام الفندق مرتديًا بزة عتيقة رمادية وطربوشًا، مما أعطانا انطباعًا عن مدى قِدَم المكان.
– سيدي، آسفون على الإزعاج، لكن سياراتنا تعطلت، وكنا نتساءل إن كان هناك وسيلة اتصال أو ما شابه للمساعدة؟
رفع الرجل رأسه ببطء ناحية المشرف، ووقف مستندًا على عصا لم نلاحظها قبلًا، كما جعلتني العصا أنتبه لكومة كتب مرتصّة جانبها.
– بلى يا بني، يوجد هنا عمّال قد يستطيعون إصلاحها، لكن أظن أنّ هذا سيأخذ وقتًا، كما أنّ الطقس يسوء. فأقترح أن تقضي أنت وصِحابك الليلة هنا، حتى ينتهي العمال من عملهم.

لم يبدُ اقتراح العجوز سيئًا بسوء وضعنا، فوافقنا، كما أنّ الفندق كان يبدو أثريًا نوعًا ما، مما أشعل بداخلنا رغبة في التطلّع له.
كان باب الفندق ضخمًا مجاورًا لمجلس العجوز، يشبه مداخل القصور الرومانية نوعًا ما، يقابل المدخل سلم ضخم ملتوٍ، يؤدي إلى الغرف. وعلى اليسار، كانت هناك ردهة طويلة وواسعة نوعًا ما، على جانبيها يوجد ما أطلق عليه العجوز “السوق”، والذي كان مكتظًّا بالناس والسلع، من كلّ حدبٍ وصوب، وكان حضاريًا نوعًا ما بالنسبة لطراز الفندق. بعد الردهة كان مكتب الاستقبال يقع وسط مكتبة ضخمة تبلغ ما يقرب العشرين قدم، وكان هناك مخرج آخر غير المدخل الذي دخلنا منه بجوار تلك المكتبة. كانت هذه التقسيمة الهندسية غريبة نوعًا ما، فكنتُ أتساءل لماذا يجب على نزلاء الفندق عبور تلك الردهة السخيفة لكي يصلوا لصالة الاستقبال التي أساسًا يجلس موظفها أمام المدخل؟ لعلّ العجوز قرأ أفكاري وأجاب:

– معظم النزلاء يفضلون السوق عن الغرف، فالغرف طرازها عتيق، أما السوق فحضاري وتنبض به الحياة، فالغرف تبدو مقبرةً نوعًا ما.
قال ذلك بابتسامة خفيفة. كانت مرعبةً نوعًا ما، لي على الأقل.

اتجه تسعةٌ وعشرون منا إلى السوق، بينما نادى الرجل ستة عمال من السوق ليصلحوا السيارات. أما أنا، فقد استوقفني عنوان أحد الكتب الملقاة بجانب كرسي العجوز، كانت قصة قصيرة، لكاتب مجهول، تسمى “قصتي” كانت لا تتجاوز العشر ورقات، لكن شيئًا ما بها جذنبي، أخذتها وجلست سهوًا على كرسي العجوز أقرأها. لم ألحظ أنّ العجوز يقف أمامي مباشرةً يرمقني وأنا جالسةً على كرسيّه أقرأ قصته إلا بعد انتهائي من قراءتها.

– “آسفة! لم ألحظ أني أجلس على كرسيك، وآه، قرأت بعضًا من قصصك.”
قلت ذلك وأنا أقف أنتفض، فالقصة قد لامست شيئًا من وجداني.. شيئًا حتى أنا لا أفهمه.

– لا يهم، ما رأيك في القصة؟
– هذا لطف منك.. القصة غريبة نوعًا ما، فهي تنتقل في عشر صفحات بين طيات حياتنا من الميلاد إلى الممات، قلبي منفطر على ما قرأت بها من أسطر، وعقلي يريد أن يقابل كاتبها. أما أنا، فسأشتريها منك بأي ثمن، أود اقتنائها. كم تريد لها؟
أخرجت من حقيبتي كل المال الذي أملك قبل أن يتفوه بأي رد، كنت أريدها بشدة. لكنه قاطعني وأنا أبحث عن المزيد من النقود.

– عذرًا سيدتي، فالقصة ليست للبيع. لكن، إن عبرتِ ممرّ السوق، وقابلتيني عند مكتب الاستقبال هناك، يمكنني إعطاؤك إياها.
– يمكنك فقط إخباري بما تريده، سأعطيك أي شيء مقابلها.
– ستعطيني كل شيء، لكن ليس هنا.
– كل شيء؟ -قلت باستخفاف-
– ربما تحمل قطرة من دمكِ كل شيء. لا أحد يعرف ماهية كل شيء.
كان يتحدث بجدية تامة، وابتسامته لم تفارقه منذ أن وصلنا. وتركني وذهب لينتظرني هناك. كنت أرى الأمر سخيفًا لحدّ لا يطاق، لماذا لم يأخذ هذا العجوز المال ويترك لي القصة؟ ما الفارق إن تفاوضنا هنا أم هناك! سِرت على مضض في الردهة وأنا أحمل القصة.
توقفت فجأة، كأن مسمارًا دبّ في قدمي، كانت الضوضاء لا تطاق في الممر، لكن ليس ذلك تحديدًا ما أوقفني، فالعجوز كان واقفًا بجوار مكتبه حاملًا سكينًا في يمينه، جاحظًا محدّقًا في عينيّ، مبتسمًا بالطبع، أعطاني هذا شعورًا غير مريح بالمرة، فحديثه عن قطرة دمي، والسكين، والضوضاء من حولي، كاد يخنق تفكيري.

بدأ أصحابي ينادونني؛ تعالي، الأجواء هنا جميلة، يجب أن تأكلي من هذا فهو طيب.. اسمعي هذه الموسيقى الغربية كم هي جميلة! أنظري إلى هذه الثياب كم هي جميلة ورخيصة! يا سعدنا أن وقفنا هنا، ليتنا أتينا هنا منذ البداية.. إلخ
كان الوضع يخنقني، فقررت أن أركض ناحية العجوز، لأتخلص من خوفي، ولا أتأثر به أو بما حولي. لكني كنت كلما وصلت لنهاية الممر عاودت الجري في الجهة المضادة عازمةً على ترك هذا المكان فورًا.. استمررت على هذه الوتيرة وقتًا ليس بقليل. حتى اصطدمت بأحد صديقاتي أثناء الجري.
-ماذا بك؟ لماذا تهرولين هكذا!
-لا شيء، فقط هذا العجوز يثير ذُعري.
-ممم، لا بأس، اهدأي، أُصلِحَت ثلاث من السيارات، بعضنا سيغادر الآن، تعالي معنا لعلّ هذا يهدئك قليلًا.
ظللت أفكر في أن آخذ القصة وأغادر معهم وحسب، فلا من قيد يُلزمني بالذهاب لهذا العجوز المجنون. لكن فضولي بأن أفهم ما يجري فاقني، فقلت لها أن ينتظرونني دقيقة واحدة حتى أشتري القصة فقط.

اتجهت نحو العجوز في ثبات، هذه المرة كنت ساخرةً من نفسي، ليس منه، فكم أضحكني كمُّ المخاوف التي اختلقتها لأنّ أحدهم يحمل سكينًا وينتظرني، من أجل قصة! كنت أنا سخيفة! عبرت الممر، فوجدت ماريا، الطفلة التي رشتني بالرمال على الشاطئ، تجلس على مكتب العجوز وتلهو بكتبه، لم يعطِني العجوز متسعًا من الوقت كي أسأل ماريا ماذا تفعل هنا، أو لأسأله ماذا بعد هذا الهراء.. وبخفةٍ سحب ذراعي اليُمنى بيساره، وجرح وريدًا بالسكين، ألقيت القصة حينها، وحاولت مقاومته، وكان مستسلمًا لي تمامًا على غير المتوقع، لكنه ملأ كفه بدم جرحي، وبحركة سريعة ألقى به على مكتبته الضخمة.

قال العجوز: “الآن مكتبتكِ تشبه ثوبك.”..
فردت ماريا: “وثوبكِ يشبه سماكِ.”..
لم أفهم شيئًا، وودت ألا أفعل. أخذت القصة التي كنت قد أسقطتها توًا، وسحبت ماريا، واتجهت ناحية الباب لأخرج من هذا الفندق المجنون.

قال العجوز لي بهدوء وفرحٍ استطعت رؤيته في عينيه:
-انتظري، فكل كتاب وقعت عليه قطرة من دمك هو لك. فهذا ما بنيت عليه فندقي، أنتظر النزلاء أشباهك، الذين يسعون لرحلةٍ من الميلاد إلى الممات، لا يلهيهم ضجيج السوق، يخافون، فيستخفون بخوفهم.. فأدلهم على ما قُدّر لهم، فتلك الكتب التي التصق بغلافها دمك، هي دليلك..

-اسمعني سيدي، لا أعلم إن كنت تراني أحد نزلائك المقدرين أم لا، سآخذ ماريا والقصة وأرحل، وأقسم أني سأقاضيك فور طلوع الشمس.
-ماريا، ماريا، أعرف أنك تفهمتِ أنها سبقتكِ إلى هنا، وأخذت نصيبها من الكتب، ومن القدر.. أما بالنسبة للقصة، فما كانت إلا وسيلة لإدلالك على الدليل، فاتركيها رجاء، وتفضلي يا بنيتي ما لامسته قطرات دمك، فالقدر سيستمر دون إرادتك، حتى وإن كنتِ لا تعرفين له طريقًا.

كنت مازلت أستخف بكلماته، وبوقوفي هنا، لكنني وجدت كمًا هائلًا من الكتب ملطخٌ بدمي، صعدت سلالم المكتبة وأخذتها كلها، كانت أقيَم مما توقعت، كانت مبهرة بالنسبة لمُحِبَّةٍ للكتب مثلي..

أخذت أحد السيارات وملأتها بالكتب، تركت أصحابي الذين كانوا ينتظروني كل هذا الوقت، وتركت ماريا، وذهبت مسرعة.. كنت لا أنفك أفكر أن أقرأ كل هذه الكتب فورًا، ثم أوزعها على الناس، أعطي كتابًا لكل من يصادفني لعله يهديه كما هداني. لكني ما إن جلست في السيارة حتى أخذتني سِنة ثم نوم عميق، فلما أفقت كنا وصلنا وجهتنا، فنظرت للكتب وبداخلي تساؤلات جمة.. لكن ما كان يشغلني أكثر، إن كان ما حدث مجرّد حلم عابر، ما مغزاه؟ هل إن قرأت هذه الكتب الآن سأستيقظ على هدى؟ أم إني سأظل حبيسة هذه القصة التي لا أعلم إن كانت ستنتهي بصوت منبهٍ يوقظني، أم بحادثٍ مرير لسرعة قيادتي؟ أم ربما، بهدايتي؟

إعلان

اترك تعليقا