نبيل فاروق: معلّم جيل بأكمله
الكتابة عن د. نبيل فاروق -رحمه الله- مثل الخوض في غابة مليئة بالأشجار من كل نوع؛ فلا تدري من أين تبدأ ولا أين تنتهي! فالرجل كان موسوعةً متحركة، وكَتَبَ سلاسلَ كثيرة، من المغامرات والأكشن “رجل المستحيل”، إلى الرقّة والرومانسية “زهور” إلى التنوع “كوكتيل 2000″، والخيال العلمي “ملف المستقبل”، والاجتماعية “رواية أرزاق”، والترجمة “سلسلة روايات عالمية للجيب”، وحتى الألغاز “ع في 2″، وغيرها ممّا لم نعد نتابعها. الرابطَ في كلّ ذلك هو الأسلوب السهل الممتنع الذي أثّر على كتّاب كُثر حاولوا تقليده، لكنه ظلّ نسيجًا وحده.
د. نبيل فاروق علّمتَ جيلًا كاملًا -وأنا واحد منهم- أن يقرأ، والفضل كل الفضل -بعد الله تعالى- لك وللمؤسسة العربية الحديثة وصاحبها الراحل حمدي مصطفى، محتضِن كل هذا الإبداع والألق الذي صبغ جيلنا بأكمله.
البداية من رجل المستحيل
لقد أدخَلَنا الراحلُ في دهاليز الجاسوسية، وأضاف إلى قواميس حياتنا مصطلحاتِ ذلك العالَم، كأسماء أجهزة المخابرات العالمية (الموساد والكي جي بي وسي آي إيه)، ومنظمات المافيا، وغيرها مما يعج به ذلك العالم الخفي عنا عندما كنا في مقتبل العمر. ولا أظن أن أيّ شابٍ منا -آنذاك- كان سيسمع بهذا العالم أو يحتك به لولا كتابات د. نبيل فاروق -رحمه الله-، وبالذات “أدهم صبري”، تلك الشخصية الخرافية التي اخترعها لتكون نظيرًا لجيمس بوند الغربي، مع الفارق بين أخلاق الرجلين.
لقد وضّح الراحل علاقتَه برجل المستحيل وحقيقة أدهم صبري في كتابين نُشرا خارج المؤسسة العربية الحديثة، وهما: “رجل المستحيل…أوراق لم تنشر”، وكتاب “رجل المستحيل وأنا”. لن أخوضَ فيما ذُكر في الكتابين؛ لأن هذا يحتاج مقالًا بمفرده.
الخيال العلمي والرومانسية
أنا شخصيًا أشكرُ للراحل إدخالي عالم الخيال العلمي من خلال سلسلته “ملف المستقبل”، والتي ناقش فيها كل ثيمات الخيال العلمي تقريبًا، بل لقد تعرفنا ضمن السلسلة على مصطلحاتٍ علمية لم نجدها في مراحل الجامعة وما بعد ذلك، كالثقب الأسود، والسفر عبر الزمن، والهولوجرام، وغيرها. اسم آينشتاين نفسه طرق ذهني من خلال تلك السلسلة الرائعة وإبداعات الراحل فيها مع المخابرات العلمية الموجودة في أرض سرية من أرض مصر، وما زلت أذكر عبارة “سري جدًا” التي كنت أبحث عن ما هو السري فيها؟ ورغم كتاباته عن الدماء والصراع والرصاص المتدفق بغزارة في سلسلة رجل المستحيل، فإن لغة د. نبيل فاروق -رحمه الله- تستحيل إلى شاعريةٍ عظيمة عندما يكتب في “سلسلة زهور” الرومانسية، وهي تعالج لواعج الحب والهيام، تلك السلسلة التي لا يجد الأب والأم حرجًا من وجودها بالمنزل، كما هو مدوّنٌ في غلاف كل عدد.
وأي حرجٍ في الحب؟
جاء تبرير ذلك في مقدمة العدد 100 منها “أزمة منتصف الحب”: “لأن هذه السلسلة تقدم الحب والرومانسية من مفهوم مدروس، ملتزم، ومحترم. تقدمهما بمفهوم واقعي جذاب، يدخل كل عقل، وكل بيت”. فكيف جمع الرجل بين العنف والجاسوسية والحب والرومانسية؟ هنا الإبداع.
التكرار والكوكتيل
في سلسلة “فارس الأندلس” تجد لوعة العربي الذي فقد أرضًا كانت تتحدث العربية ذات يوم، يستحضرها د. نبيل فاروق -رحمه الله- من أدغال التاريخ الأندلسي مع فارس وحروبه ضد مملكة قشتاله، وإن كان البعض يجدها نسخة أخرى من رجل المستحيل، لكن بصياغة تاريخية. التكرارُ سمةٌ لدى الرجل، وهذا لا يعيبه، فنجد أن سلسلة “العقرب سيف العدالة” التي كانت تعرض ضمن سلسلة “كوكتيل 2000” بشكل متفرق -نجدها تكرارًا لرجل المستحيل أيضًا، ولو بصورةٍ أخف قليلًا. فالعقرب “نديم فوزي” لم يكن وراءه جهاز مخابرات بقدر كونه مفصولًا من جهاز الشرطة.
يجرُّنا الكلام إلى سلسلة “كوكتيل 2000” للراحل. تلك السلسلة متنوعة العرض، من قصصٍ قصيرة، وقصة العدد، ودراسات، وقصص مسَلسَلَة، وغيرها. هذه السلسلة هي أقرب سلسلة إلى قلب د. نبيل فارق، كما صرّح في إحدى المقابلات. وأظنها كذلك لأنها تتويجٌ لأعمال سابقة بدأها سواء في الخيال العلمي أو الأكشن أو الرومانسية، فجمعها كلها في سلة واحدة سمَّها “كوكتيل 2000″، وهي اسمٌ على مسمى. ونجده يعرفها بأّنها “ثقافة الغد لشباب اليوم”، كما هو مدوّن في مقدمة كل عدد. ولأنه بدأ إصدارَها في مرحلة متأخرة من صدور السلاسل القديمة كرجل المستحيل وملف المستقبل وزهور. ونجد أن الراحل يفصح عن بعض ذكرياته الشخصية في أوراق هذه السلسلة، مثل: “مذكرات طبيب في الصعيد الجواني”، وغيرها. ناهيك عن الدراسات العلمية التي صارت ضمن كتب مستقلة بعد ذلك مثل “خلف أسوار العقل”، “ويأتي الغد”، وغيرها.
من سلسلة كوكتيل خرجت روايتُه الطويلة “أرزاق”، والتي -برأيي- لم تقدّم د. نبيل فاروق -رحمه الله- كما نعرفه، بل كاتبًا عاديًا ليس فيه ألق الجاسوسية والخيال العلمي.
أعمالٌ أخرى
ظل د. نبيل فاروق -رحمه الله- قلمًا سيّالًا في الكتابة، ولو أن وهجه خفَّ في الفترة الأخيرة، فلقد اتجه للمقال السياسي والذكريات وغيرها. وكذلك قدّم للتلفزيون عام 2005م مسلسل “العميل 1001” عن عمرو طلبه -الجاسوس المصري- الذي حكى قصته بشكل مقتضب في إحدى أعداد “سلسلة كوكتيل 2000″، لكن للإنصاف لم أجد العمل التلفزيوني بقدر القصص المكتوبة. يبدو أن أدب د. نبيل فارق -رحمه الله- للقراءة أكثر منه للمشاهدة.
رحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عنّا أحسنَ الجزاء على ما غرَسَ في نفوسنا من مبادئٍ وقيم في قصصه وأعماله.