اللاسلطوية في فيلم نادي الشغب – Fight Club

إنّ أكثر الأفكار الفلسفيّة انتشارًا لم تكن كذلك إن لم تكن في الأصل في تماسٍ مع ذواتنا. فهل كان عمل نادي الشغب لـديفيد فينشر الذي تمّ انتاجه عام 1999، والمأخوذ عن رواية نادي الشغب لتشاك بولانيك يطرحُ مجرّد فكرة اللاسلطويّة والأناركيّة كمذهبينِ فلسفيّّيّن؟

ففي عمل نادي الشغب للمخرج ديفيد فينشر هناك سؤالان يطرحان نفسيهما، هل جسّد فيلم نادي الشغب الأناركيّة كفلسفة أم طرح جانبًا أصيلًا فى إِنسان الحداثة أو إنسان الألفيّة؟ فلنلقي أولاً نظرة سريعة على الأناركيّة أو فكرة اللاسلطويّة، ومن ثم نسلّط الضوء على الفيلم.

اللاسلطويّة أو الأناركيّة..

استُمِدَّ مصطلح اللاسلطويّة من أناركيسموس من اليونانيّة، وفكرة اللاسلطويّة والأناركيّة ليست ذات فكرٍ محدّد أو يمكن حَصرها في عدّة مفاهيم كالماركسيّة مثلًا. ويعدُّ منتسبوها مختلفين فكريًّا أكثر من اتفاقهم. فأناركيّة الغرب على سبيل المثال، يختلفون عن أناركيّة الشرق. أمّا فكرة الأناركيّة واللاسلطويّة، فهناك من يعيد ظهورها مع ظهور السيّد المسيح بنفسه وإنكاره لفكرة التحكّم، والحكم بالقوّة الغاشمة، والقمع، وفكرة رفض الإمبراطوريّة الرومانية كَكلّ أي رفض السلطة، وإعلاء كلمة المستضعفين والفقراء والمنبوذين والطبقة العاملة الدّنيا الكادحة من الشعب. فهناك من ينظرُ للمسيح على أنّه أول يساريٍّ متطرّف ظهر في التاريخ، وأنّ تلاميذه هم أول جماعة لاسلطويّة ظهرت يومًا ما. حتّى جماعات الهيبز الأناركيّة المسالمة التي انتشرت في السبعينيّات، لا تجرّد نفسها عن المسيح وإن كانت تنفي ارتباطها بالدّيانة المسيحيّة أصلًا.

وهناك البعض الذي ينسب اللاسلطويّة إلى القرن السادس قبل الميلاد، أي قبل ظهور المسيح نفسه، ويستشفّها من بين أعمال الفيلسوف الطاوي “لاوزي”، وَوُصفت أيضًا فلسفة جوانغ زي باللّاسلطويّة، وكذلك ديوجين والكلبيون وزينون. وَنُقل عن البروتستانتي المسيحي المتطرّف جيرارد وينستانلي وجماعته “الحفّارون” من قبل العديد من المؤلّفين اقتراح معايير اجتماعية لاسلطويّة في القرن السابع عشر في إنجلترا.

أمّا مُصّطلح اللاسلطويّة فدخل لأوّل مرّة إلى اللغة الإنجليزيّة في عام 1642 خلال الحرب الأهلية الإنجليزيّة كمصطلحٍ للتحقير، واستخدمه الملكيّون ضد معارضيهم. كما تم استخدامه في الثورة الفرنسيّة كإشارة للثوار الغاضبين.

إعلان

وكان بيير جوزيف برودون أوّل من وصف نفسه بأنّه لاسلطويّ وهو ما دفع البعض لتسميته بمؤسّس النظريّة اللاسلطويّة الحديثة. أمّا الآباء الروحيين فهما جان جاك روسو ووليم جودوين، وقد كانا أوّل من صاغ مفاهيمها السياسيّة والاقتصاديّة. بيدَ أنّ وليام جودوين على خلافٍ كبيرٍ مع شريحةٍ واسعةٍ من الأناركيّين الأكثر تطرفًا، والذين ينتقدون مفاهيمه ونظريته عن اللاسلطويّة.

مدارس الفكر اللاسلطويّ

يشملُ الفكر اللاسلطويّ خمس مدارس وهنَّ:

1- اللاسلطويّة التبادليّة
2- اللاسلطويّة الشيوعيّة
3- اللاسلطويّة الجَمعيّة
4- اللاسلطويّة النقابيّة
5- اللاسلطويّة الفرديّة

أمّا أبرز ظهور للّاسلطويّيِّن والأناركيّة كان في حدثين رئيسيّيّن وهما أولًا الثورة الفرنسيّة، وثانيًا الثورة البلشفيّة في روسيا، فقد كان اللاسلطويّن في طلائع الثوّار الفرنسيين. وكَتِفًا بكتف مع الشيوعييّن في الثورة الروسية.

عن الفيلم..

خيرُ ما يُبدأ به الحديث هو: هل يُمكن اعتبار فيلم نادي الشغب فيلمًا أناركيًّا أو لاسلطويًّا ويقدِّم الفلسفة الأناركية في عرضٍ مدّته 139 دقيقة؟ أم يعتبرعملاً يمسّ جانبًا أصيلًا في إنسان العصر الحديث؟ تلك الجوانب التي توجد في القسّ والشيخ والكاهن والشّاب والمراهقين والنساء والفتيات ورجالِ العصر الحديث أنا وأنت وهؤلاء.

البداية..

نجح ديفيد فينشر في بداية الفيلم في أن يُظهر هذا الجانب الثوريّ الأصيل الفطريّ الناقم في إنسان عصر الحداثة غير المتّصل أصلًا بالفلسفة الأناركيّة أو بالفكر اللاسلطويّ وغير المنتمي لأيديولوجيّة لهُ بشكلٍ مباشر، والذي قد يكون من المُمكِن عدم سماعه بتلك الفلسفة في حياته أصلًا. هذا الجانب النّاقم يُمكن إدراكهُ بإمعانِ التفكير لدقائق معدودة في العصر الحالي، عصر العولمة أو عصر النظام العالميّ الجديد، وفكرة الاستغلال والمجتمع الهرميّ لإنسان القرن العشرين من عمالةٍ كادحة تأكل الفتات في دولة نامية تعمل كتروسٍ في ماكينة ضخمة، تصنع أشياء لبشرٍ في مستوى أفضل، وعلى الجانب الآخر من الكوكب يعملون هم أيضًا كتروس في ماكينة ضخمة لخدمة طبقة أعلى وتلك الطبقة الأعلى تَخدم ما فوقها وهكذا دواليك. حتى ينتهى المطاف إلى جيوب قلّة قليلة من فاحشي الثراء في العالم والمالكين للشركات العابرة للقارات ومُلّاك البنوك الدولية والإعلام والعلامات التجارية العالميّة التي يملكها أفراد يُعدّون على أصابع اليد فيصبح إنسان الألفيّة مملوكًا لتلك القلّة ابتداءً من ملابسه مرورًا إلى سيّارته وإلى محتويات منزله وانتهاءً بطريقة تفكيره. وما هي إلّا مجرّد أرقام  في مجتمع استهلاكيّ ينتج أشياء بلا قيمة.

أو كما قال تشاك بولانيك على لسان تايلر دردن:

أنت لست وظيفتك.. أنت لست كمية النقود التي تملكها في المصرف.. أنت لست السيارة التي تقودها.. أنت لست محتويات محفظتك.. أنت لست زيّك اللعين.. أنت لست مميزًا.. أنت لست تمثالًا ثلجيًّا فريدًا وجميلًا.. أنت مواد عضوية متعفنة كأي شيء آخر.. أنت كلّ النفاية الراقصة والمغنيّة في العالم..

مارلا العدميّة..

تعدّى الفيلم مرحلة عرض فكرة الإنسان النّاقم والنظرة التأمليّة للعصر الحالي، وذهب بعيدًا إلى الجانب النفسي البائس في إنسان العصرِ الحاليّ، ونَجح ديفيد فينشر في إبراز وإدارة فكرة الفيلم الأساسيّة سواء بالسيناريو أو بالكادرات المُبهِرة أو بحركة الكاميرا، والأزياء والديكورات الرائعة. ومن ثمّ دخل إلى أعماق بطل الفيلم وعرض مرآةٍ لحقيقته وعرض جوانب عدّة للبطل أثناء ممارسته لعمله، واغتراب البطل الوجوديّ بحضوره لاجتماعات جمعيّات المرضى الميئوس من شفائهم، وصراع البطل مع الأرق وإيجاد معنى لحياته. ويمكنك أن ترى جليًّا مقولة الفيلسوف الألماني شوبنهاور:

“الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل” من خلال بطل العمل.

وهنا كان تسليطٌ أكبر للضوء على الجانب النفسيّ للبطل. فإذا ما أردنا تحديد العمل ضمن إطارات، فهنا انتقل العمل وزاد من تسليط الضوء على الجانب النفسيّ للبطل بظهور مارلا سينغر أو بونهام كارتر شبيه البطل والإنسان البائس؛ أو الفلسفة “العدميّة” في أقصى صورها، ويمكنك أن ترى أيضًا العمل حينها كإحدى روايات كافكا، أو كمقطع لأحد أقوال ايميل سيوران، أو كتابات صمويل بيكيت.

 أكثر الأفكار جنونًا..

مع ظهور تايلور دردن أو براد بيت، تعدّى الفيلم مرحلة التشويق إلى مرحلة الإبهار والجنون والتصعيد الدراميّ. وهنا قد يتوقف الطبُّ النفسيّ ليُلقي بدلوه؛ فطبقًا للجمعية الأمريكية للأطباء النفسيِّيّن “American Psychiatric Association” فمرض البطل النفسيّ المُتزامن مع ظهور تايلور دردن، ما هو إلّا ردُّ فعلٍ دفاعيّ من العقل على الجنون، بمعنى لم يكن البطل ليمرض نفسيًّا، فهو بالتأكيد كان سيقع في الجنون أو سيفقد عقله بالكامل إن لم يكن قد أُصيب بالمرض النفسيّ، وتلك حقيقة علميّة فى طبّ النفس فظهور تايلور دردن هي حالة ثورة من عقل البطل على واقعه ووقايةً له من ذهاب عقله بالكامل.

وهنا يُعرض العمل في ذروته، ضمن إطار إثارةٍ تشويقيّ يُمكن أن نطلق عليه فلسفيًّا الفلسفة العدميّة التي تُمثّلُها مارلا سينغر وبطل الفيلم. إضافةً للفلسفة العبثيّة والأناركيّة المتطرّفة مع ظهور تايلور دردن مع بطل الفيلم المُنفصم أيضًا.

ومع إنشاء نادي الشغب واحتدام العنف من شخص مجنون يكون الفيلم على مفترق طرق، ويطرح سؤالًا هو الأصعب بالتأكيد، وهو ما تعريف الجنون؟ فإذا كان إنسان العصر الحاليّ يحمل في ثنايا عقله أفكار التمرّد والرفض بالأناركيّة المتطرّفة والعنف والبؤس بالعدميّة وانعدام المعنى بالعبثيّة؛ فإنسان عصر الحداثة هو مجنون كليًّا وضحية مثل تايلور دردن وإدوارد نورتون.

النهاية..

تأتي مع نهاية الفيلم وإفاقة بطله، ومع مقتل تايلور دردن، الشخصيّة الخياليّة والممثل للجانب الأناركيّ العنيف المتطرّف كرمزٍ لاستبعاد ديفيد فينشر ذلك الاستنتاج وذلك الفكر.

وينتهى الفيلم بمشهد تفجير مبنيَين مشابهين لبرجيّ التجارة العالميّ وإصابة البطل ونجاته بشكل هزليّ من الموت، ثمّ يُلقي ديفيد فينشر كلمته الأخيرة للخروج من الوضع الحاليّ وهي ضرورة انهيار النظام الماليّ العالميّ الحاليّ، وبضرورة اتّحاد الشعوب الذي أشار له بتشابك يديّ البطل مع يد مارلا سينغر.

وعليه، اختلفتَ أم اتفقت مع نادي الشغب ستظلّ فكرة التمرّد والعصيان والبحث عن الحرية والكثير من أفكار نادي الشغب أفكارًا لقطاع عريض من شعوبِ عصر الحداثة. وتتزاحمُ الأُمنيات في داخل كلٍّ منّا، والتي تنادي بانهيار النظام العالميّ الحاليّ الذي يستعبد الشعوب. فالجميع متفقٌ مع نادي الشغب في جزءٍ ما، ومن هنا كان النّجاح الباهر للفيلم. حيث أنّ نادي الشغب يَمسُ جزءًا أصيلاً في كلٍّ منا، وليس مجرّدُ عرض لأيدولوجيّة وفكرة فلسفة الأناركية على شاشة السينما.

إعلان

اترك تعليقا