موسيقيو كاراڤاچيو
كان كاراڤاچيو رسامًا إيطاليًا نشطًا في روما ونابولي ومالطا وصقلية بين عامي (1592-1610)، واسمه الأصلي مايكل انجلو دي ميرسيه، وقد ولد في نابولي عام 1571 في خضم الفقر المدقع والمجاعة التي ضربت البلاد حينها، وتوفي والده وجده بمرض الطاعون وهو في عمر السادسة. بعدها انتقلت والدة كارافاجيو بعائلتها إلى بلدة كاراڤاچيو والتي عنها أخذ اسمه الذي عرف به.
وقد تدرَّب كاراڤاجيو تحت قيادة سيمون بيترزانو تلميذ الفنان الكبير تيتيان في سنوات مراهقته لتعلُّم أساسيات حرفة الرسم، من هنا ظهرت موهبته في براعته وسرعته في إنجاز اللوحات وإتقان التصوير ومزاجه الدموي في الرسم، وأيضًا عدوانيته الشديدة وسوء خلقه. ثم انتقل إلى روما حيث كان هناك طلب على اللوحات لملء العديد من الكنائس الضخمة الجديدة التي بنيت في ذلك الوقت، حيث كانت الكنيسة تبحث عن أسلوب جديد في الفن الديني الذي كُلف بمواجهة تهديد البروتستانتية.
ابتكر كاراڤاچيو رسوم راديكالية جمعت بين الملاحظة الفيزيائية عن كثب والاستخدام الدراماتيكي للسرد في اللوحات، واستخدام شخصيات من عامة الشعب الفقراء والمهمشين بدلاً من الشخصيات المعتادة المتأنِّقة من الأثرياء والتي اشتهر بها أسلوب المانريزم، وطوَّر أسلوبًا متفرِّدًا في التصوير عُرف باسم “Tenebrism” يعتمد على التضاد الشديد بين الضوء الساطع والظل القاتم مع الانتقال المفاجئ من الضوء إلى الظل واستعمال الحد الأدنى من الدرجة الوسيطة مع توزيع شخوصه في فراغ اللوحة في تكوينات مسرحية، وقد لاقى هذا الأسلوب استحسان الفنانين المعاصرين وجماهير العامة على حد سواء، وهذه اللوحات مثل لوحة (دفن المسيح) و(العذراء والحجاج) و(موت العذراء) و(القديس بطرس على الصليب) و(استشهاد القديس ماثيو). وكانت واقعيته سببًا في الكثير من المشاكل مع المتزمِّتين في الكنيسة، الذين كانوا يجدون صعوبة في تقبل شطحاته عندما يرسم الفلاحين بأقدامهم المتسخة وهم في حضرة العذراء، أو عندما يتخذ من إحدى عاهرات روما موديلاً يجسد بها إحدى الشخصيات الدينية، ولكن اللوحات التي كانت ترفضها الكنيسة كانت تجد طريقها لقصور المقتنين من النبلاء.
وبذلك أصبح كاراڤاچيو وهو في الثلاثينات من عمره أستاذًا له أتباعه ومقلديه، مما ترك أثرًا واضحًا في تطور مسار الفن الباروكي بعده، خاصةً المدرسة الفلمنكية، لنرى ذلك جليًا في لوحات فناني القرن السابع عشر العظام، مثل ڤيرميير ورمبراندت في هولندا و فيلاسكيز في أسبانيا.
وفي بداية نجاحه وشهرته كانت لوحات كارافاجيو مثيرة للجدل بشكل كبير بسبب طبيعتها المتاخمة للحرمان، والنماذج الأخلاقية المشكوك فيها أخلاقيًا، حيث تسبَّب كاراڤاچيو في فضيحة كبرى باستخدام جثة عاهرة غارقة كنموذج للوحته (موت العذراء)، ومع ذلك كانت أن نجحت بشكل كبير.
لم يتمكَّن كاراڤاچيو من الاستفادة من نجاحه، لأنَّ شخصيته وحياته الشخصية كانت أكثر قتامةً وأكثر إثارةً للجدل من لوحاته، هيئته المميزة بتجعد شعره الأسود الجامح واللحية السوداء غير المهذَّبة، والتجوُّل في شوارع روما مرتديًا الأسود، بمرافقة كلبه الأسود وغرابه الأسود، حاملاً سيوفًا وخناجرًا جعلته على الدوام مصدر استفزاز للسلطات حينها، وكلما قامت موجة احتجاج على الأوضاع الاقتصادية والسياسية خرج هو وتابعيه للكتابة على الحوائط في الشوارع عبارتهم الشهيرة (لا خوف .. لا رجاء)، وأصبحت سجِّلاته لدى الشرطة مليئة بقصص الاعتداء، والأسلحة غير القانونية، ومضايقة السلطات والشؤون المعقدة مع البغايا.
وغالباً ما كانت المشاكل القانونية العديدة التي وقعت لـ كاراڤاچيو سببًا في هروبه المتكرِّر لمدن أخرى داخل إيطاليا، والعمل في عدة مهن تتطلَّب المجهود الشاق مقابل أجر زهيد كعامل في ميناء أو في مزارع الفاكهة، ووصفه معاصريه بالمجنون خلال هذا الوقت لسلوكه الغريب، مثل النوم بكامل أسلحته والانفجار في غضب عنيف عند أدنى استفزاز.
وصلت ميول كاراڤاچيو العنيفة إلى مستوى جديد في مايو 1606؛ في هذا التاريخ تورط كاراڤاچيو ورفاقه في شجار في الشارع مع أفراد عصابة رانتشو توماسوني الشهيرة وقتها وقتل شابًا منهم بطعنة غائرة في الفخذ والرأس، ولم تشفع له شهرته ولا وساطاته حينها وحكم عليه بالإعدام، فاضطر كاراڤاچيو إلى الفرار من روما للمرة الأخيرة. ثم تورَّط في مشاجرة في مالطا في 1608، وأخرى في نابولي في 1609، وبعدها تعرَّض لمحاولة اغتيال من قبل أعداء مجهولين أثناء نومه، ولم ينجحوا إلَّا في تشويه وجهه وعدَّة جروح متفرقة في أنحاء جسده.
استمر كاراڤاجيو طوال السنوات منذ ترك روما في محاولاته اليائسة في العمل، وإرسال اللوحات لشخصيات مؤثرة مثل الكاردينال بورغس وألف دو فيجناكورت من أجل تأمين نفوذهم واسترضائهم للحصول على عفو البابا والعودة إلى روما، فأنتج خلال هذه السنوات أكبر لوحة في تاريخه (مقتل يوحنا المعمدان) التي بلغ طولها أكثر من خمسة أمتار ولوحة (دايڤيد يحمل رأس جولياث)، وأخيرًا في عام 1610 بدأ البابا بول الخامس عملية منح العفو لـ كاراڤاچيو، ولكن في يوم العودة إلى روما لم يلحق بالسفينة في توسكانا وظل يسبح خلفها دون جدوى حتى موته إثر الحمى الشديدة نتيجة الالتهاب الرئوي وتلوث جراحه التي خلفتها آخر مشاجرة له مع جماعة الفرسان في صقلية قبلها بشهر، ورغم عدم العثور على جثته إلَّا أن وفاته أعلنت في يوليو 1610 عن عمر يناهز الـ 39 سنة، ولكنه في خلال هذا العمر القصير غيّر من شكل الفن وامتد تأثيره قرونًا من بعده، وقال عنه المؤرخ الفني أندريه بيرن -چوفروي: “ما بدأ في أعمال كاراڤاچيو هو بكل بساطة ما نسميه الآن الرسم الحديث”.
الموسيقى في عصر كاراڤاچيو
في لوحات كارافاجيو التي سنستكشفها معًا نجد فيها الشخصيات المرسومة تمارس العزف على أداة موسيقية مستديرة شبيهة بآلة العود، لكنها كانت بمثابة الغيتار الكهربائي الحالي لعصر النهضة، واتجه لتعلّم العزف عليه المراهقين والشباب، لأنهم اعتقدوا أن مهارة العزف على الآلات الموسيقية تجعلهم مثيرين في نظر الفتيات، والأكثر موهبةً هو من يمارس الغناء مع العزف، وكانت أماكنهم المفضَّلة لحلقات العزف في الحدائق بين الفواكه والزهور، وهذا ما نقله كاراڤاچيو إلينا بفنه، لكن ما هي سمات الموسيقى والغناء في هذا العصر؟
استمعت إلى التسجيلات الحديثة التي تحاول التقاط صوت موسيقى عصر النهضة، وأنا أكثر حيرةً من أي وقت مضى حول ما يبدو حقًا، فـ بالنظر إلى عازفي كاراڤاچيو فإنَّ أوَّل ما يصل لمخيلتنا أنها أغنية رومانسية مغرية، ومع ذلك في العديد من التسجيلات تبدو أغاني عصر النهضة والباروك الموسيقية مثل الموسيقى الكنسية، فهي متناغمة للغاية وبسيطة، ومع ذلك نجد اللوحات في وقتها مثل لوحة ليوناردو داڤنشي لموسيقي، أو لوحة لورنزو كوستا لامرأة ورجلان يغنيان معًا، مفعمة بلمحات حميمة تصل إلينا كتجسيد للإثارة والشغف في لحظة الأداء.
لم يكن هناك طرق لتسجيل الموسيقى في هذا العصر كالأسطوانات، فدائمًا ما كانت الحفلات الموسيقية كالمسرح دراما مباشرة بين الفنانين والجمهور، وعلى الرغم مما تُظهرِه مجمل لوحات كاراڤاچيو من الدراما الخطرة والجريئة غير أنَّ لوحات الموسيقى كانت أكثرهم رهافةً وذات مزاجٍ رومانسي، على عكس مزاجه العنيف في اللوحات الأخرى وفي حياته الشخصية كما سبق وأوضحنا.
هناك نوع واحد على قيد الحياة يربطنا مباشرةً بالموسيقى في عصر كاراڤاچيو: (الأوبرا).
الاختراع الإيطالي الأعظم في القرن السادس عشر، حيث جمعت أصوات وأحداث العصر في مشاهد أثارت الحواس واستحوذت على الانتباه، وما لا يعلمه الكثيرون أنَّ من اخترع طريقة الغناء الأوبرالي هم فئة من عمال المواني لإخبار بعضهم البعض بمجريات الأحداث السياسية والاقتصادية، وحتى لا يقعوا في قبضة عناصر الشرطة تحت ذريعة إثارة الشغب، ثم انتقلت إلى الأفراد الأكثر ثراءً من أصحاب السفن والمسافرين عبر مدن إيطاليا، وطلبوا من عازفيهم الشخصيين تأليف قطع موسيقية متماشية مع طريقة الغناء، إلى أن أصبحت أيقونة الفن الراقي وفاكهة الحفلات في قصور النبلاء.
ولا يزال بإمكانك الشعور بالتوتر والاندفاع والقوة في أوبرا مبكرة للغاية مثل مونتيفيردي في عام 1507 إحدى روائع أورفيو، والتي مثَّلت النقلة الكبرى في عالم الموسيقى والكتابة الدرامية الملائمة لتلك الموسيقى، فامتلأت بالعواطف العميقة والأحداث الملحمية وقصص الحب المأساوية، ويلخص ذلك قول أورفيو: “من يخطُ بقدميه إلى الأوبرا خاوِ العقل والقلب لا يغادرها إلَّا وهو ممتلئٌ بالأفكار والحياة”.
تلك نبذة عن تطوُّر الموسيقى من الرتابة للجرأة، والذي تأثرت به كنائس أوروبا بعد ذلك. نستكشف هنا لوحات كاراڤاچيو الهادئة لعازفي الموسيقى عبر ثلاث سنوات متتالية.
اللوحة الأولى (الموسيقيون – 1595)
رسم كاراڤاچيو هذه اللوحة لـ راعيه الكاردينال فرانشيسكو ديل مونتي، ويعتقد أنَّ هذا قد يكون أول لوحة رسمها كاراڤاچيو خصيصًا للكاردينال، الذي اشتهر برعايته للفن بكل أنواعه واستقبال الرسامين والموسيقيين في منزله وسخائه معهم.
وما أراد كاراڤاچيو نقله إلينا من خلال اللوحة هو خصائص الحب وقيمة الموسيقى خلال هذه الفترة الزمنية التي كانت الكنيسة فيها تمر بتحوُّل في الأساليب الموسيقية وأشكال الغناء المعتادة.
ونرى في في اللوحة أربعةَ مراهقين، ثلاثة منهم منشغلين بالموسيقى والغناء ورابعهم كيوبيد اللعوب في الزاوية اليسرى بهيئة الملائكة الرمزية، وجعبة سهامه ملتقطًا لعنقود من العنب في إشارة النبيذ، وقد تأثَّر كاراڤاچيو فيها بقول ايكونريس: “الموسيقى والنبيذ هما سرُّ خفة الأرواح”، وجود كيوبيد في الرسم عزز من الربط بين الحب والموسيقى، يرتدي الأولاد ملابس كلاسيكية اشتهر بها عصرهم، الصبي الثاني من اليمين هو الرسام ماريو مينيتي صديق كاراڤاچيو والذي استخدمه كموديل في عدة لوحات أخرى، الكمان المهمل فوق الأوراق يشير إلى وجود عازف خامس وكأنه ترك آلته ووقف ليلتقط لزملائه صورة فوتوغرافية كما نفعل الآن.
استخدام الفنان للضوء والألوان عزَّز من حسية اللوحة، حيث يمزج بين الحياة والقماش مع الملابس التي تبدو كلاسيكية، في حين يضيء لاعب العود بذقنه المشقوق وشعره الكستنائي المتموج شفتيه ولسانه يتألَّقان في الأغنية، وعيناه ندية بالدموع، انحناءة جسد كيوبيد كأنها لقطة متحركة من الزمن حبست داخل إطار، هنا لا يمكننا التغافل عن أنَّ النمذجة المتوهجة للشفاه هي العلامة المائية في لوحات كاراڤاچيو.
وقد اختفت هذه اللوحة عدة قرون حتى عُثر عليها عام 1995 في منزل ريفي لتاجر لوحات بصقلية قبيل إقامة مزاد لبيعه، وهي موجودة الآن في متحف متروبوليتان في نيويورك.
وتمتلئ لوحات كاراڤاجيو بواجهات الناس العاديين في الشوارع، حيث توفِّر لعشاق الفن اليوم لمحة عن الحياة الحقيقية في إيطاليا في القرن السابع عشر، اليوم يمتد نفوذه إلى ما وراء الرسامين إلى مخرجين سينمائيين مثل مارتن سكورسيزي وبيير باولو بازوليني، وليس من الصعب رؤية الموسيقيين كأنهم ما زالوا من فيلم.
اللوحة الثانية (عازف العود -1596)
سعى كاراڤاچيو قبل كل شيء لنقل واقع وتوثيق مجريات العالم المحيط به، يمكننا بالفعل رؤية عناصر أسلوب الفنان التي كان لها تأثير واسع النطاق على فنانين آخرين.
وتبرِز شخصية الفتى المراهق في قميصٍ بسيط من الكتان الأبيض مع درزات منخفضة الرقبة من كتفيه بأكمام واسعة التباينَ مع وضوح الخلفية المظلمة والضوء الجانبي الحاد، والظلال المتساقطة تعطي للأجسام حجمًا ووزنًا ملموسًا كالرسوم ثلاثية الأبعاد. واهتم كاراڤاچيو بتفرُّد محيط اللوحة، ليس فقط في وجه الشاب الصغير وتفاصيله الجميلة من خدود متوردة وعيون لامعة وشعر مستعار فخم مصفف بعناية، ولكن أيضًا في الأشياء التي تشكل الحياة الساكنة حوله، مثل أوتار العود والكمان، كراسة الموسيقى المثبتة بالكمان والتي يظهر فيها لحن مكتوب، وهو لحن الأغنية الأنيقة التي كتبها چاك أركاديلت Jacques Arcadelt (أنت تعرف أنني أحبك)، الذي كان من أشهر الموسيقيين في وقته وصاحب المعزوفات الأوبرالية بدايةً من عام 1537.
ووُضِعت الزهور المنمَّقة في وعاء من الزجاج الشفاف تشكل مجموعة رائعة من الألوان، هناك (قزحيات، وردة دمشقية، قرنفل، ياسمين، أقحوان، مكنسة برية، زعتر، خوخ، زهر برتقال، زهر العنب، كمثرى، تين، برقوق، خيار مغطى بقطرات الندى) تشير إلى وقت أواخر الربيع إلى أوائل الصيف، وهي الفترة المعتادة لنشاط الحفلات الموسيقية في العصر الباروكي وحتى الآن؛ فربما هذا الشاب هو أحد العازفين المهرة الذين يجيدون العزف على آلتين موسيقيتين، والتقطت له هذه اللحظات أثناء التمرين والاستعداد لتلك الحفلات، ومع ذلك لم تخلُ اللوحة من استعارةٍ للحب نجدها في العود المتصدع كإشارة للحب الذي ضاع أو فشل، وصنف النُقاد هذه اللوحة كرمز للانسجام بين الحب والألم وتقبل عيش العشاق مع عذابات الهجر والاشتياق، بل والاستمتاع بها كقربان لتطهير الأنفس والسمو بها.
تم نقل هذه اللوحة من روما إلى باريس في عام 1808 كجزء من المجموعة الفنية للأمير Giustiniani، ثم بيعت في مزاد علني لصالح معرض الفن الإمبراطوري في روسيا عام 1812، وبذلك أصبحت لوحة لاعب العود أحد جواهر مجموعة متحف الأرميتاج وهو العمل الوحيد من قبل الفنان الإيطالي الشهير (كاراڤاچيو) في روسيا.
اللوحة الثالثة (رحلة العائلة المقدسة – 1597)
لا يعتمد المشهد هنا على أي حادثة في الكتاب المقدس نفسه، بل على مجموعة من القصص أو الأساطير التي نشأت في أوائل العصور الوسطى حول العائلة المقدسة التي فرت إلى مصر واتخذتها كملجأ لها بعد تحذيرها من أنَّ هيرودس العظيم كان يسعى لقتل المسيح الطفل.
ووفقًا للروايات فقد توقَّف جوزيف (يوسف النجار) وماري (العذراء مريم) أثناء ترحالهم في بستان من الأشجار، حيث أمر الطفل المقدس أن تنحني الأشجار ليتمكن جوزيف من تناول الفاكهة منها، ثم أمر نبع ماء للتدفق من الجذور بحيث يمكن لجوزيف وماري إرواء عطشهم.
اكتسبت هذه القصة الأساسية الكثير من التفاصيل الإضافية عبر القرون، حيث كانت رحلة العائلة المقدسة إلى مصر موضوعًا شائعًا في الفن، لكن تكوين كاراڤاچيو لهذا المشهد مع وجود ملاك يلعب الكمان نُظر إليه كنوع من انتهاك قدسية الحدث، وأمرٌ غير معتاد أن تضاف تفاصيل غير المتعارف عليها، ولكنها قوبلت بعد ذلك بالحفاوة كنوع من التجديد ومزيد من استخدام الخيال الحر للفنان.
يظهر كارافاجيو السيدة مريم العذراء مستغرقة في النوم كعلامة على مشقة السفر وطوله مع طفلها، بينما يحمل جوزيف مخطوطة موسيقية لملاك في هيئة طفل يعزف ترنيمة على الكمان، ربما لتهدئة الطفل حتى ينام وللتخفيف من قلقهما إزاء الملاحقات، ويظهر الحمار (وسيلة الانتقال) خلف جوزيف منتبهًا لعزف الملاك داخل هذا الكهف المختبئين فيه لقضاء ليليتهم حتى الصباح واستكمال المسير.
وقد رأى (مايكل فرايد) أحد المحللين الفنيين أن الملاك في هذه الصورة هو بديل عن الفنان نفسه، الملاك الذي لا يلعب دورًا في السرد المكتوب هو اختراع كاراڤاچيو بوقفته البسيطة والقماش الملفوف حول عورته، وربما أراد كاراڤاچيو لو كان معهم في هذه الرحلة لطمأنتهم والتخفيف عنهم؛ فوضع نفسه بهذه الهيئة في هذه اللوحة، وقد حقق مراده بأن نقل لنا هذه الصورة الذهنية بهذه السلاسة التي لم تظهر كشيء مصطنع.
وقد لاحظ زملاء كاراڤاچيو أنه رسم السيدة مريم بملامح أقرب ما تكون لهيئته هو، خاصةً محيط الأنف والفم؛ يظهر تطابق تام مع الصورة الذاتية المفترضة لكاراڤاچيو في مكان آخر، رد معلِّلاً ذلك: “إنها تمثِّل النصف الأنثوي لعقلي في هذا التكوين بكل مشاعرها المضطربة”.
ونلاحظ من خلال الأعمال الفنية الثلاثة أنَّ كاراڤاچيو استوعب تقاليد عصر النهضة الإيطالية الشمالية وجعلها مشربة بانسجام عميق مع الإنسانية، وعقد عزمه على توسيع مجرى تطوُّر الفن وإطلاق سراح الخيال أمام القيد الديني المعتاد في عصور من سبقوه، مما كان له تأثير قوي على الفنانين في جميع مناطق إيطاليا وأوروبا الغربية، واعتُبر كاراڤاچيو الأب المؤسس للاتجاه الواقعي في الرسم الباروكي الإيطالي، والذي أظهر التأثير الدرامي وانعكاس الطابع العاطفي الجامح للرسام نفسه، وابتدع التقنية التي أنتجت تأثيرات مدهشة من الأضواء واللون، وطريقة الطلاء الأوليكا (بدون رسومات أولية) التي أحدثت ضجة كبيرة في عالم الفن.
ولم يجد فن كاراڤاچيو على الفور التفاهم مع غالبية العملاء المحتملين الرسميين أو حتى مع زملائه المحترفين، لكن جمال المنجز الإنساني والإبداع فيه يفرض نفسه، ولم يبالغ دالي عندما قال: “شفاه شخوص كاراڤاچيو أنضر وأكثر حسية من شفاهنا الحقيقية”.
المراجع: ١- ترجمة عن موقع متحف ميتروبوليتان ٢- ترجمة عن http://www.caravaggio.net/musicians/ ٣- ترجمة عن موقع المتحف الامبراطوري (ارميتاج) ٣- ترجمة من theculturetrip ٤- Caravaggio: A Life Sacred and Profane,Andrew Graham-Dixon,W. W. Norton & Company,2012. ٥- كارافاجيو العبقرى المتشرد، سمير فؤاد، موقع فنون.