موتسارت: رحلة الصعود إلى عرش الموسيقى
أماديوس ومعناه “المحبوب من الإله” لقبٌ أطلقه الإيطاليون على فولفجانج موتسارت “موزارت” فأحبه صاحبه وأضافه لاسمه ليصبح “فولفجانج أماديوس موتسارت” المولود في السابع والعشرين من يناير عام 1756م في مدينة سالزبورغ النمساوية التابعة للإمبراطورية الرومانية الجرمانية حينها، مؤلِّف وملحن موسيقي فذ يعد أحد أعظم عباقرة الموسيقى على مر العصور – إن لم يكن الأعظم على الإطلاق- نشأ موتسارت وترعرع في كنف أبٍ يمتهن الموسيقى، فأبوه ليوبولد موتسارت كان مؤلِّفًا وعازفًا للكمان، فتسرّبت لآذان موتسارت الصغير منذ نعومة أظفاره بديع الألحان، فلم يبلغ الرابعة من عمره حتى بدت عليه علامات النبوغ الموسيقي، فاتضح سريعًا أنه يمتلك أذنًا موسيقيًّة وذاكرة فوتغرافية أتاحت له إعادة عزف أي قطعة موسيقية تُعزف أمامه مهما بلغ حجمها وصعوبتها، وسريعًا أجاد عزف مختلف الآلات الموسيقية.
الطفل المعجزة
كانت عبقرية موتسارت محطّ دهشة وإعجاب الجميع منذ أن لامست أنامله الذهبية آلة البيانو حينما كان والده يدرّب عليها أخته الأكبر منه بخمسة أعوام وهو في الرابعة من عمره، فأظهر مهارة فائقة على الرغم من حداثة سنه وافتقاره للتدريب أو سابق معرفة بقواعد العزف، فكان أشبه بالطفل المفطور على إجادة لغة أجنبية لم يسبق لأحد تلقينه إياها، فأجاد العزف على البيانو والأرغن والفيولين (الكمان) خلال مرحلة الطفولة، ليس هذا فحسب، بل تجاوز بأدائه المٌتقن لشتّى الآلات إلى تأليف الموسيقى فكتب أوّل كونشرتو وسيمفونية له ولم يتجاوز الخامسة، وقاد أول أوركسترا في السابعة من عمره ثم أنهى تأليف أول عمل أوبرا له في سن الرابعة عشر في حين أن كثيرين من أعلام الموسيقى يحيون على أمل كتابة أوبرا واحدة لهم طيلة حياتهم ولم يجد لذلك سبيلًا إلّا القليلون.
أدرك والده مبكرًا أن ما يكمن داخل طفله الصغير كنزٌ لا يُقدّر بثمن، فعكف على رعايته وجال به بلدان أوروبا عارضًا موهبته الفذة على الأمراء والوجهاء فأعجبوا به أيما إعجاب، وصل الأمر إلى إعجاب إمبراطورة النمسا حينها “ماريا تريزا” وكسرها للبروتوكول الملكيّ عندما حملته على ركبتيها وقبلّته في إحدى حفلات الدّيوان الملكيّ عندما أظهر لها الصغير الكثير من الثّقة والشجاعة بطلبه أشهر وأفضل موسيقييّ النمسا ومدرس القصر الخاص حينها وكان يدعى “فجنزايل” للحكم على أدائه للموسيقى، وذلك عندما سألته مداعبة إياه “من ذا الذي يستطيع أن يحكم على مهارتك في العزف بكل هذه الثقة التي تبديها”، وبالفعل أستدعت الإمبراطورة فجنزايل فرحّب به الصغير قائلاً “إني مسرور لوجودك، واسمح لي أن أعزف كونشرتو من تأليفك” وبدأ الصغير في العزف فكانت أصابعه كأنها تطيرعلى البيانو وانسابت النغمات الساحرة وغمر المكان ألحان غاية في الإتقان مفعمة بالإحساس، عندما سمع فجنزايل ألحانه تُعزَف بهذه المهارة الفائقة التي تفوق أداءه هو نفسه –مؤلِّفها- انهمر الدّمع من مقلتيه من شدة تأثره، وأصاب الجميع الذهول من روعة ما سمعوه وأدركت الملكة حجم الموهبة الجبّارة التي يحملها الصغير فهنّأت والده ومنحت موتسارت خاتمًا ثمينًا من الألماس.
وعلى هذا المنوال لم يدخل موتسارت تحدٍ موسيقيّا واحدا إلّا ونجح فيه نجاحًا منقطع النّظير فعزف مغمض العينين وعزف على مفاتيح بيانو مغطاة وعزف مُرتجلًا من تأليفه تأليفًا لحظيًا –وهذا عمل إعجازي- وعزف مقلدًا الأصوات أيضًا كالأجراس والساعات وغيرها، وعلى الرغم من صعوبة ما يقوم به لم يكن عزفه عزفًا عاديًا تقليديًا بل عزفًا مدهشًا ممتعًا، فنال إعجاب وتقدير الجميع حتى إذا أتم الرابعة عشر من عمره تقدم لاختبارات عضوية أكاديمية بولونيا الموسيقيّة التي كانت تعد أكبر أكاديمية موسيقية في العالم، وكانت بمثابة حلم صعب المنال للموسيقين حينها فاجتاز اختباراتها بالغةِ الصعوبة بغير عناء، وحقّق نجاحًا باهرًا فأنهى الاختبار المحدد له أربع ساعات في نصف ساعة فقط.
العبقريّة في شراك الحسد
على قدر ما كان يتمتّع به موتسارت من طيبة القلب وصفاء السّريرة كان يكّن له العديد من الموسيقيين الحقد والحسد على الرغم ممّا يظهرونه من إعجاب وغبطة وثناء، فحاربوه ونسجوا له الشراك واحدة تلو الأخرى خاصة مع هيمنة بعض المدارس الموسيقية على مسامع الأوروبين في هذه الفترة، فكانت أوّل الثمار الخبيثة لهذا العداء هو نجاحهم في منعه من نشر أوّل أوبرا له -وهو في الرابعة عشر كما أسلفنا-، فالأوبرا كانت لوناً موسيقيًا يحتكره الإيطاليون حينها ولا تستقيم أيّ أوبرا إلّا باللغة الإيطالية، لكنّه كان بمثابة ثورة في عالم الموسيقى فهو محرّر الفن الألماني من الأَسر الإيطاليّ في هذه الحقبة، وظهر هذا جليًا في إبداعه لأوبرا النّاي السّحري بالألمانية التّي جعلت فاغنر الموسيقار الألماني المعروف فيما بعد يقول: “لا يستطيع الألماني أن يقدّر موتسارت حقّ قدره في “الناي السحري” فقد يصحّ القول بأن الأوبرا الألمانية كانت عدمًا قبلها فخلقتها هذه الأوبرا خلقًا“.
واستمر الحقد على عبقرية موتسارت ملازمًا له طيلة حياته، فتسبب له في إبعاده عن بلاده في أكثر من مناسبة وعن المنصب الذي يليق بموهبته، فاتّجه للتدريس أحيانًا على الرغم من مقته له ليجني بعض المال فيعينه على أعباء الحياة، حتّى أنه يقال أن موته كان نتيجة لتجرعه السُم، وضعه له عدوه اللدود الموسيقار الإيطالي “أنطونيو ساليري” الذّي كان يدّعي صداقته حتّى وفاته، وقد رُوِّج لهذا الادعاء في أعمال فنية تناولت حياة موتسارت كمسرحية “أماديوس” لمؤلفها “بيتر شافر” التّي تحولت لفيلم يحمل نفس الاسم فيما بعد. أقول: إن ادّعاء قتل موتسارت بالسم من قبل ساليري رُوِّج له في هذه المسرحية فيقال على لسان ساليري في أحد مشاهد المسرحية – موجهًا حديثه لقبر موتسارت بعد وفاته – جملة قصيرة لكنها بليغة وقد اختصرت ما كان يعتمل في قلب ساليري الحاقد على موتسارت والمريض به: “أنا مُسمّم بك”. وأنتَ مُسمّم بي“، لكن على الرغم من انتشار هذا الادعاء إلا أنه لم يثبت صحته حتى الآن. والظاهر أن موتسارت مات نتيجة مرض “إلتهاب البلعوم” وهو مرض كان منتشر في فيينا وقتها وذلك طبقًا لدراسة حديثة أجراها باحث هولندي في جامعة أمستردام عن تداعيات وفاة موتسارت.
مختارات من أعمال موتسارت
بعدما استعرضنا سويًا لمحات من حياة موتسارت آن لنا أن نستمتع ببعض روائعه، لكن يجب الإشارة إلى أن اختيار هذه المقطوعات لم يخضع لأية معايير فنية أو جمالية بل معيار واحد هو التنوع، فانتقيت من أعماله عملًا للأوبرا وآخر سيمفوني وعملًا للكونشرتو وأخيرًا القداس الجنائزي، فأعمال موتسارت جميعها تتمتّع بقدر فائق من الجمال، وإن شئت فقل “الكمال” سواء أمن ناحية التوازن أم الصفاء أم العذوبة أم التعبير، وهذا هو سر كمال موسيقاه ووحدتها التي تميزها عما سواها.
- افتتاحية أوبرا دون جيوفاني
تعاقد موتسارت مع أحد مسارح مدينة براغ لعرض أوبرا دون جيوفاني، وقبل العرض بيوم واحد جاءه مدير المسرح مذعورًا قائلًا إن قائد الفرقة الموسيقية أخبره بأن النوتات التّي يدرب عليها طاقم العمل لا تحتوي على الافتتاحية الموسيقية، فقام موتسارت بتهدئته وأخبره أن الافتتاحية ستكون جاهزة في صباح الغد، فذُهل مدير المسرح عندما علم أن موتسارت لم يكتب حرفًا واحدًا من افتتاحية قد تستغرق وقتًا طويلًا من كبار الموسيقين، لكنه تركه على أمل أنه سيعكف اليوم بأكمله في كتابة الافتتاحية، لكنّ موتسارت ذهب في نزهة مع أصدقائه ونسي الأمر وحلّ المساء فتقابلا ثانيةً في حفل ليليّ، وعندما تناهى إلى علم مدير المسرح أنّ موتسارت مازال لم يكتب حرفًا من الافتتاحية أصابه الوجوم كأن صاعقة ضربت رأسه وكاد أن يصاب بالإغماء، فابتسم موتسارت وأكّد له أن الافتتاحية ستكون جاهزة في الموعد المحدّد وذهب إلى منزله بعد منتصف الليل مرهقًا يتجذابه النّوم فبدأ في كتابة الافتتاحية، لكن ما لبث أن أخبر زوجته أنّه سينام قليلًا لكنها أشفقت عليه فتركته يغط في نوم عميق لم يفق منه إلا قبل ساعات قليلة من الموعد، لكن عندما أتى الناسخ المكلّف باستلام النوتة كان موتسارت قد أنهاها بالفعل، هذه الافتتاحية التي كتبت على عَجَلِ في بضع ساعات هي هذه التحفة الموسيقية المفعمة بالحيوية والمرح التي سلبت القلوب والعقول، وكانت هذه واحدة من نوادر موتسارت التي تبرهن على عَظمة عبقريته.
- السيمفونية الأربعون
واحدة من أشهر أعمال موتسارت التي مازالت تستخدم إلى الآن موسيقىً تصويرية لمختلف الأعمال الفنية والإعلانات، منها على سبيل المثال موسيقى أغنية فيروز الشهيرة “يا أنا” التي اقتُبست ألحانها من هذه السيمفونية التي تمتع بقدر كبير من المرح بنغماتها الراقصة الرشيقة التي تداعب المخيلة فتطربها فرحًا، والتي تعبر بجلاء أيضًا عن موسيقى موتسارت الأنيقة التي تبث الفرح والسرور في النفوس.
- كونشرتو الكلارينيت
الكلارينيت أو المزمار هي واحدة من أواخر الأعمال التي أتمها موتسارت ومات بعدها بأشهر قليلة. تتميز المقطوعة بالحوار المميز بين الكلارينيت المنفرد والأوركسترا، ومن المعروف عن موتسارت في بداية حياته عدم حبه للآلات النفخية لكنّه مع الوقت طوّر استخدام هذه الآلات وأضاف إليها لمسته البديعة المميزة فأنتج لنا في نهاية حياته هذا العمل الساحر.
- Requiem – القداس الجنائزي
القداس الجنائزي أو قداس الحداد هو آخر مؤلفات موتسارت ودرّة تاج أعماله في نظر الكثيرين. لم يسعفه الوقت لإكماله فداهمته المنية قبل أن ينتهي منه وقام بإكماله تلميذه المقرب زيسماير.
يربط الكثيرون من متبني نظرية اغتيال موتسارت بين وفاته وبين إسناد مهمة تأليف هذا القداس إليه، ففي أحد أيام عام 1791م جاء إلى موتسارت رسول يحمل خطابًا غير موقّع من صاحبه يطالبه بتأليف قداس حداد يُلقى في الكنيسة عند وفاته، وبعد البدء في تأليف هذا القداس أخذ موتسارت يصيبه الذبول وتمكّن منه المرض حتى وفاته، وهذا ما جعل موتسارت يقول “أشعر بأنني أكتب هذا القداس لنفسي“، ويقال أن ساليري هو من بعث بهذا الخطاب لعلمه بموت موتسارت الوشيك.
وفاته
في الخامس من ديسمبر لعام 1791م تُوفي موتسارت ودُفن في اليوم التالي وكان يومًا عاصفًا شديد البرودة فلم يحضر جنازته سوى خمسة من أصدقائه المقربين.
رحل موتسارت في ريعان شبابه فلم يتجاوز الخامسة والثلاثين ربيعًا، مُخلّفًا إرثًا عظيمًا متنوعًا فلم يترك نمطًا موسيقيًا واحدًا إلّا وأبدع فيه من أعمال الأوبرا إلى الكونشرتو والسيمفوني وموسيقى الحجرة وسوناتات البيانو. وتتمثل مجمل أعماله في 626 عملًا منها 22 عملًا في الأوبرا و41 سيمفونية.
هذه الروائع الخالدة التي تُجسّد ما في أغوار النفس من عواطف وما يعتريها من تباين النزعات، هذا الانسياب المغدق من الألحان البديعة التى تخاطب الوجدان وتروى ظمأ النفس إلى الدعة والطمأنينة كانت نتاج عبقرية قد لا يجود الزمان بمثلها. وكعادة كل جميل ما يلبث أن يخبو سريعًا، رحل موتسارت في وهج تألقه وقمة عطائه فكان كالشمس التي غربت في منتصف النهار.
نرشح لك: موتسارت والنقلة الموتسارتية في السيمفونيّات الكلاسيكية
المراجع: كتاب موتسارت قصة الطفل المعجز والموسيقي العبقري – د. محمود أحمد الحنفي