منديل ديدمونه
“أنا لست في خضم عاصفة، أعرف العواصف جيدًا، وما أنا به ليس بالعاصفة.
ألقى أحدهم قنبلة دخان، فما استطعت أن أنشق الدخان لأبدده، ولا استطعت الركض خوفًا من الضباب. لا أعبأ الآن بهوية من ألقى القنبلة، لا أملك سوى أن أجلس ساكنًا، أنتظر أن ينقشع الضباب، ومن ثمّ سيكون هنالك وقتٌ للتحرّي، رُبما تبيّنت في نهاية المطاف أني، ولا أحد سواي، من ألقى بالقنبلة ليخنقني.”
أعاد “عُمر” مفكرة صاحبه الغائب إلى موضعها على طاولة المقهى ونظر إلى ساعته، لم يتأخر “أحمد” كثيرًا، ولكن الوقت يمرُ كعجوز كسيح. نظر إلى مقعد “أحمد” الشاغر أمامه، كانت الطاولة بين كرسيين، وعلى جانب “عُمر” الأيمن كان النيل يمتص عتمة المساء وتلمع على صفحاته انعكاسات النجوم.
كان البدر يجلس على عروش المساء. تداعبه الغيوم، فتواريه تارةً، وتدعه يرتع في اكتماله أخرى. كان بقدر ضآلته بالنسبة إلى النجوم يفوقها وهجًا، وكأنه غير آبهٍ بضيائها ولا يراه إلا ومضًا، لا يبالي بشيءٍ سوى بشمسه؛ بسطوعها الذي يملؤه وينساب بين شقوقه، بدونها، تبتلعه عتمة المساء حتى ليصير جزءًا منها.
مضى يجوب ببصره بين طاولات المقهى دون اهتمام، لاحظها جالسةً وحدها، كانت ساحرة، بلهاء بعض الشيء ربما، لكنها كانت ساحرة. ترائى له النادل يمشي متراقصًا، وكأنه القدر، يجوس بين الحضور ليقدم لهم مشروبات شتى، يحمل فوق راحة يده صينيةً خشبيةً عتيقة تعج بالكؤوس الزجاجية وأشياء أخرى لم يتبينها. أقبل النادل نحو الطاولة يطقطق بكعب حذائه على الأرض مُحدثًا لحنًا سيرياليًا، ثم دار حول نفسه دورةً كاملة، وانحنى يضع المشروبات على الطاولة. وضع قبالة “أحمد” الغائب زجاجة ويسكي و”كانز ستلا”، ثم صب إزاء “عُمر” فنجان قهوة. هتف “عُمر”:
“ما هذا؟ لكني لم أطلب شيئًا!”
توقف النادل لبرهة كأن “عُمر” قد ضغط على زر ال “pause”، تنحنح النادل، ثم قال:
“وما الذي توّد أن تشربه هذا المساء؟”
“أفضل أن أنتظر قليلًا حتى ينتهي صاحبي من إفراغه.”
تكشّف وجه النادل عن ابتسامةٍ خاوية، ثم همهم في هدوء وكأنه يُدندن لحن أغنية ما:
“هذا المقهى ليس مكانًا للانتظار أو الأحلام، تأتي، فتجلس على كرسيٍّ قد راوده المئات من قبلك، تحتسي ما يُقدم لك، تترك ورقاتٍ عابثةً أسفل الكؤوس الفارغة، ثُم ترحل.. لتفسح الطاولة لأنام آخرين. أرأيت؟ لا شيء مميزٌ فيك لأستمع لك دونًا عن غيرك، لن يذكرك أحد، ولن تذكر أنت أحدًا ما إن تهمّ بالرحيل.”
أدار النادل وجهه، ثم قفز فخبط بكعب رجله اليُمنى في باطن اليسرى، واستأنف رقصه وأغنياته، تاركًا “عُمر” ينظر مشدوهًا.
قصّ “أحمد” خيوط دهشة صاحبه، سحب الكرسي وهو يرتعد، ثم جلس وانكب على الطاولة، خالقًا في ظهره تقويسةً وكأنه خُنفساء، طفق يرنو إلى صاحبه بأعين متقدة، وأنفاسه متسارعة وكأنه قد نجا لتوه من الموت.
“ما بك؟ لمَ تجعلنا نجلس ها هنا تاركين زوجتك جالسةً على طاولةٍ وحدها؟”
سأل عُمر. أخذ أحمد يداعب خاتم الزواج في إصبعه، قال بصوت متهدج:
“أنا أحبها.”
“من؟ زوجتك؟”
“أو ما أتخيله عنها.”
ثم صاح كمن لاحظ ما تعجّ به الطاولة للتو:
“أووه! ويسكي وستلا! كيف علِمت أنني أحب هذا المزيج؟ أتعلم؟ أفضل الستلا في الحفلات؛ فهي تُشعل فتيل الأدرينالين. أمّا الويسكي.. آآه.. كيف كان يقولها نجيب؟ أجل، بينزل عالضمير يكويه!”
“نجيب؟”
صب أحمد بعض الستلا في الكأس الزجاجية، ثم سكب الكثير من الويسكي، وقلب محتويات الكأس بخنصره:
“نجيب محفوظ! ألم تقرأ «القاهرة 30»؟”
“لا أعتقد ذلك.”
ارتشف أحمد بعضًا من سمومه، ثم قال:
“كنت دائمًا ما أتساءل، كيف كان لمحجوب أن يظل بهذا البرود طيلة الرواية؟ أعني، كيف كان له أن يجلس ساكنًا بينما يُضاجع أحدهم امرأته على علمٍ منه؟ أحدهم أعلى منه شأنًا وأكثر منه مالًا يواقع زوجته، بينما هو جالسٌ هكذا.. نفس هذه الجلسة.. يبتلع نفس هذا الويسكي!”
ابتلع جرعةً أكبر من سمومه، وأخذت الغيوم تتسلل فوق سطح البدر لتحجب ضياءه. ألقى أحمد برأسه على مؤخرة الكرسي، تنهّد وقال باستسلام:
“أشعر أنها تخونني.”
“من؟ زوجتك؟”
“أجل! مدام إحسان، حرم محجوب بيه عبدالدايم!”
صمت “عُمر” لوهلة، وكأن الخندق الذي كان يتوارى فيه قد داهمته الغارات، ارتشف بعضًا من القهوة التي لم يكن قد طلبها فألفاها مُرةً كالعلقم، فكّر في أن يبصقها، لكنه قطّب بين حاجبيه وابتلعها على مضض.
“مع من إذن تخونك؟”
“معي أنا، تخونني زوجتي معي أنا!”
رمق عُمر كأس صاحبه في شفقةٍ مشوبةٍ بازدراء، أردف أحمد:
“أنا لا أهذي! صدقني! قبل يومين، كُنت أسهر في إحدى الحانات، صادفت إمرأةً ذات نهود كـ.. آآه، كيف كان يقولها نجيب؟ أجل، نهودٌ كالمرمر! على أي حال، اصطحبتها معي إلى الشقة، كانت “رؤى” قد هجرتني وذهبت لتبيت عند أمها، تحسست المرمر.. ثم قضمته.. قبضت هي على عنقي فألقتني على السرير واعتلتني، ومضت تفك أزرار القميص.. العاهرة! للحظة تخيلتها هي الرجل في الموضوع! اقتربت من أذني.. ثم همست: “ماذا تريدني أن أفعل بك اليوم؟”.. قاومت تنهداتي وقبضت على جيدها.. سألتها: ما اسمك؟ قالت بصوت فاجر: رؤى.”
ابتلع قدرًا آخر من سمومه، ومضت الغيوم تراود القمر عن نفسه، تسلب منه وهجه، كان يبدو وكأن القمر هو الذي يتوارى طوعًا وراء كتل الغيم.. وكأنه قد اعتد ببريقه حتى تناسى أن هذا البريق ما هو إلا انعكاسات شمسٍ مُسرجة. أردف وهو يقبض على خاتم زواجه:
“وفجأة، تحوّل كل شيءٍ إلى كابوسٍ مروّع! أقسم أنها لم تكن أضغاث خمر! كان الأمر حقيقيًّا جدًّا! رأيت ملامحها وهي تتشكل لتصبح شخصًا آخر، رأيت زوجتي تعتليني.. تداعب عضوي كبغي ماجنة! وأحسست وجهي يُسلب مني، وكأنني أنسلخ رجلًا آخر. كان مشهدًا مروّعًا. ولم أشعر بنفسي إلّا وأنا أجرها من شعرها، أهتف: أيتها العاهرة! أنتِ طالق! ثم وضعت بين المرمر الذابل الملطخ بالدموع ورقاتٍ عابثة، وقذفتها خارج الشقة!”
تنهّد عُمر، أخذ رشفةً أخرى من قهوته التي يكرهها، ثم مضى يرنو إلى صاحبه الذي دفن وجهه بين عضديه وهو يقول بصوتٍ متهدج:
“أنا لا أعلم! أنتَ صديقي الوحيد! أنا أثق فيك أكثر من أي شيءٍ آخر، الخيانة! كم كُتب عنها! بيد أن أحدًا لم يستطع أن يصف ما أشعر به الآن. تخيلت أحدًا آخر يتحسسس جسدها، وكان مُجرد الخيال يصيبني بالجنون! وكأن اليد الأخرى التي تتغنج فوق تضاريسها، تكوي في الآن ذاته متاهات روحي، وكأن الأصابع التي تقبض على نهودها، تعتصر في الآن ذاته قلبي حتى ليؤول خرقةً حمراء. أتعلم؟ لم يكن السؤال أبدًا لماذا قد تفعل هذا؟ السؤال دومًا (ابتلع جرعةً كبيرةً من الويسكي وحده) ما الذي يمنعها من ذلك؟ لماذا هي معي أصلًا؟ آآه.. كيف كان يقولها نجيب؟ كنت سأَصلح ممرضةً، أو أي شيءٍ آخر، أما رجلًا فلا.. أمثالي نساءٌ كاملات، أو رجالٌ مغفلون.”
ساد الصمت لبرهةٍ إلا من غمغمات الحضور واختلاجات روح أحمد، حتى شقّ عُمر الصمت بصوتٍ متأنٍ:
“في رأيك، أين تبدأ الخيانة؟”
أرخى أحمد جسده على الكرسي، ثم قال بصوت مخمورٍ قد أخضعته سمومه:
“أفحمني.”
“انظر إلى تلك الفتاة وراءك. تجلس مع رجلٍ يبدو ذا شأن، بيد أنها قد رنت إليّ بضع مرّات، هل يمكننا أن نوصمها بالخيانة؟ أم علينا أن ننتظر حتى تأتيَ وتحادثني؟ أم لا تتم الخيانة سوى بقبلة؟ ماذا إن كانت قبلةً بريئةً أطبعها على جبينها؟ أم عليّ أن أداعب نهديها أولًا حتى يتحقق الأمر؟ أم كان الإيلاج هو الحد الفاصل والبيّن؟ ولمَ عليه أن يكون كذلك؟ أليس الجسد شيئًا وضيعًا في أصله؟ أليس أول شرٍّ تبينه آدم هو الشهوة الجسدية؟ وماذا إن كانت معي بجسدها ويستأسر صاحبها وحده بقلبها، أيمكن وقتها أن ننعتها بالخائنة؟”
سكب أحمد الـ”ستلا” وحدها في جوفه، ثم قال في حنق وهو يخنق بنصره المنوط بالخاتم:
“أنت تهذي! إن الوفاء هو أن تكون لي وحدي! هي لي وحدي! هل تفهم ذلك!”
ابتلع عمر ما بقي من القهوة في مرارة، ثم أردف:
“بالضبط! إما امتلاك كامل، أو حُرية مُطلقة. أترى؟ لا رمادي في الأمر. وما دُمت أكثر لينًا من أن تسجنها بين قضبان الخاتم، فعليك أن ترتضي بالأمر، أن ترتضي بهواجسك.. بكوابيسك. ليس لأمر الغيرة علاقةٌ بالحب على أي حال.”
“ليس له علاقةٌ بالحب؟” قال أحمد في سخرية.
“بالطبع، لا علاقة له بالحب. سنتغاضى عن أنك اكتشفت خيانتها المزعومة ما إن لمست أنت أنثى أخرى، فقط دعني أجرب أمرًا، حسنًا؟”
“تفضّل.”
“أتعلم؟ لطالما فكّرت أن أي أنثى مثيرة تحمل بين أضلعها أطلال فيلسوف، أي أنها كانت تُحب في الماضي رجلًا عظيمًا، وما هي عليه الآن ما هو إلّا نتاج هذه العلاقة الثرية. وبنفس الطريقة، أجد زوجتك مثيرةً إلى حد الجنون! لولا أنك صاحبي لكنت ضاجعتها فورًا!”
قهقه أحمد ملء أشداقه، ثم قال: “أنا أحبك، هل تعلم هذا؟”
ابتسم عمر كمن أثبت شيئًا:
“أرأيت؟ لقد عبّرت لتوي عن رغبتي في أن أضاجع زوجتك، إلّا أنك لم تغضب؛ بل إنك سعدت بالأمر وأخذته على محمل الإطراء. أمر الغيرة كلّه ما هو إلّا رهان تبادر به خصيتيك لتثبتا أنهما الأكبر والأقوى؛ للأمر علاقة بنظرتك أنت لنفسك ولا شيء آخر.”
رمق أحمد الويسكي بأعين دامعة، قبض على الزجاجة بشدة. أمسك عمر بمعصم صديقه وحدق في عينيه:
“هل تثق في؟”
“أجل.”
كرّر السؤال على صاحبه كنوع من التأكيد، ثم طلب منه أن يقوم فيأتِ بزوجته لتجلس معهم على الطاولة. انقشع الغيم شيئًا عن القمر، وبدأ ضياؤه يتسلل إلى عُمق صفحات النيل.
***
اقتربت رؤى من الطاولة بخطوات مُختالة، ممسكةً بيمينها بمنديل من الحرير، سحبت كرسي وجلست في أنوثة، ثم فرشت المنديل على الطاولة. بادر عُمر:
“كيف حال نهديك يا عزيزتي؟”
حدقت رؤى في عمر مدهوشة، لم يبالِ الأخير بالأمر، التفت إلى صديقه ثم قال:
“أحمد، أريد أن أعترف لك بشيء، أنا أضاجع زوجتك!”
ارتجفت رؤى كفأر مذعور، وابتسم أحمد مطأطأً رأسه، أردف عمر:
“ألا تُصدقني؟ أتريد أمارة؟” ثم أكمل كمن لا ينتظر ردًّا:
“لها شامةٌ بُنيةٌ في نهدها الأيسر، وكأنه قد زُيّن بحلمتين!”
كانت زفرات رؤى تعلو صوت الموج، بينما عضّ أحمد على شفتيه، وأمسك بخاتم زواجه بتحنان. قال ضاحكًا:
“حسنًا حسنًا، قد أثبتت وجهة نظرك، ماذا تريد الآن؟ أن أترككما وحدكما؟ خصيتي أكبر من خصيتيك على أي حال.”
وقف أحمد وتقدم نحو زوجته، طبع على جبينها قبلةً وضمّها بين ذراعيه، ثم أمسك بالويسكي والستلا وألقى بهما في النيل، ومضى الاثنين يراقبانه وهو يسير ليسحب كرسيًّا على طاولةٍ بعيدةٍ بعض الشيء.
“ما الذي فعلته؟ أنت مجنون؟” هتفت رؤى.
ضحك عمر عاليًا، ثم قال:
“الأبله! نسي أمر شامتك وأخبرني أنها في نهدك الأيمن.”
طأطأ رأسه ثم أكمل:
“الثقة محض وهم يا عزيزتي، محض وهم. يمكننا دومًا أن نثق في الناس، بيد أننا لا نستطيع أن نأمن الشيطان في داخلهم.”
ألقى القمر عنه بالغيوم، كان يشع متوهجًا، إلا أنه، وبرغم كل وهجه، لم يكن يحتلّ سوى مساحةً لا تذكر وسط لا نهائية العتمة.
تعالت طقطقات حذاء النادل، جاء متراقصًا أيضًا، وبينما هو يلملم الكؤوس الفارغة، ارتطم بعمر فجعله يسكب بقايا القهوة على منديل رؤى المفروش على الطاولة، تلطخ المنديل بقهوة أحمد المرة، ولكن النادل هو من أحدث ذلك.
“تك تك، آنت ساعة الرحيل.”
“لكن المكان يغصّ بالحضور، لما نحن الآن؟”
“أخبرتك، ليس هذا مكانًا للانتظار أو الأحلام، أنت هنا فقط تفعل ما يُملى عليك. تذكّر دومًا، لا شيء مميزٌ فيك ليكون لك الاختيار دونًا عن الآخرين. سترحل. سيرحل كليكما الآن.”
وكأن القمر قد انسحب ضياءه منه، وكأن الليل بكآبته قد باغت القمر فسلب منه وهجه كما يسلب القلب سلوانه.