مكتبة منتصف الليل.. ليست مجرد مكتبة

حين تفرغ الأحلام من معانيها، وتصبح ذكرى ألم وندم تلوح عند كلِّ مطب، لا هي براحلة ولا هي محقَّقة.. مجرَّد سلسلة حلقات فارغة تُقيِّد صاحبَها عند زمن معين. هذا الصراع هو عينه الذي عاشته نورا بطلة رواية مكتبة منتصف الليل، للكاتب البريطاني مات هيغ، وهي التي كانت تبلغ من العمر 35 عاماً، تبدأ معاناتها من الصفحات الأولى، بدايةً بيومها السيِّئ؛ وصولاً إلى اللحظة التي تُقرر فيها أن يكون اليوم هو اليوم الفاصل في حياتها.

مع الكثير الكثير من الرَّفض الذي كانت تشعر به والقليل شبه المعدم من الحبِّ، هكذا لخصت نورا حياتها التعيسة واتخذت قرارها في تلك الليلة أن تختفي وتنتهي من كل شيء، فلا رغبة لديها في مزيد من حبوب الاكتئاب، ولا الاستمرار في حياة لا يحتاجها أحد فيها، فقد أصبحت الحياة في نظرها مجرَّد عبء يُثقل قلبها. لكن ما حدث أن الموت أيضاً لم يرحب بها، ولم تصل إلى الجنة أو الجحيم؛ بل وجدت نفسها تائهة في مكان آخر لا تعرف إلى أين تمضي.

البحث عن النسخة الأفضل في العوالم المتوازية

من منطلق العوالم المتوازية، تجد نورا نفسها عالقةً بين الحياة والموت في مكان يُصوَّر على هيئة مكتبة ضخمة تعجُّ بكتب جميعها بغلاف باللون الأخضر. وكلُّ كتاب يُمثِّل حياة مختلفة خاصة بـ نورا. لم تكن وحدها هناك، بل شاركتها الرحلة السّيدةُ إلم أمينة المكتبة المدرسية التي كانت تقضي نورا كثيراً من الوقت برفقتها في مكتبة المدرسة عندما كانت طالبة.

تُصور السيدة إلم على أنَّها المرشد الذي يخبر نورا بكيفية عمل المكتبة، وما يجب عليها فعله حتى تبدأ رحلتها في تجربة حيوات عديدة كانت ستحياها لو أنها اتخذت قرارات مختلفة. فكلُّ قرار في هذا العالم يؤثر في حياتنا وحياة من حولنا على نحو كبير أو محدود، ويخلق مساراً جديداً وقصة أخرى. فالكتب تمثِّل العوالم المتوازية لحياة نورا الحقيقية ومن خلالها ستتمكن من رؤية نفسها في حيوات متعددة لا تشبه بعضها، ومن هنا تبدأ المغامرة.

تقرر نورا بعد محادثتها مع السيدة إلم أن تخوض هذه التجربة وتكتشف حيواتها المحتملة في العوالم المتوازية، ومنها تعيش نورا في خلال صفحات الرواية عديداً من التقلبات والمواقف؛ فمرَّة تكون بطلة الأولمبياد في السباحة ومرة مغنية مشهورة ومرة عالمة فيزياء في القطب المتجمد. وقد مكَّنها كلُّ ذلك من تجربة الأدوار التي تمنَّت لو أنها عاشتها في حياتها السابقة، وتذوقت طعم النجاح والشهرة والمال. والأهم أنها مع كلِّ تجربة كانت تتوصَّل إلى الدرس المناسب، فكما ذكر الكاتب في الرواية “الطريق الوحيد للتعلم يمرُّ بالحياة”. وكلما تصالحت مع نفسها وغفرت زلات الماضي؛ أصبح كتاب الندم خاصتها أقل ثقلاً، وابيضَّت صفحاته.

إعلان

كانت نورا تخبر السيدة إلم بالحياة التي تتمناها وبدورها تبحث لها عن الكتاب المناسب حتى تجده، وتلقائياً تنزلق نورا إلى تلك الحياة لتتعرف إلى نسختها الجديدة. ومع كلِّ خيبة أمل تُصاب بها في إحدى الحيوات، كانت تختفي فجأة من هناك وتعود إلى المكتبة.

محطاتٌ ودروسٌ لن تُنسى

يُصوِّر لنا الكاتب بلغة بسيطة وواضحة المشاعرَ الإنسانية ومدى تعقيدها وصولاً إلى تجربة العوالم المتوازية وما تحمله في طياتها من مفاجآت غير متوقعة، كما يفتح عقلَ القارئ عليها ويثير فضوله بفكرة تخيُّل وجود نسخة أخرى من الشخص نفسه في عالم موازٍ تعيش تجارب وخبرات مختلفة، وكيف يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها؛ إذ يُوضِّح الكاتب في الرواية: “كانت نورا قد قرأت عن الأكوان المتوازية وعن نظرية علم النفس الغشتالتي، عن الطريقة التي تأخذ بها العقول البشرية معلومات معقدة عن العالم لتبسيطها، ولهذا عندما ينظر الإنسان إلى شجرة تمت ترجمتها من تركيب معقد من الأوراق والفروع إلى شيء واحد يُدعى شجرة. أن تكون إنساناً يعني الاستمرار في تلخيص العالم في قصة قابلة للفهم للحفاظ على بساطة الأشياء”.

إضافة إلى حصول القارئ على المتعة الفلسفية من خلال ذكر اقتباسات لأهم الفلاسفة وذلك لأن نورا درست الفلسفة في لندن. والرسائل والعِبَر التي تُكشف واحدة تلو الأخرى، تلامس العاطفة والمنطق بكل تأكيد مثل الاقتباس الذي يقول:

“إن حاولت الوصول إلى ذات غير ذاتك، فسوف تفشل حتماً. حاول الوصول إليك، حاول النظر والتصرف والتفكير كذاتك، حاول أن تصبح أصدق نسخة من ذاتك، احتضن ذاتك، ادعمها، قِع في حبها، اعمل على تحسينها ولا تشكِّك فيها”.

الندم في أفضل صوره

كان إسقاط الكاتب على أن يكون كتاب الندم هو أثقل الكتب في المكتبة إشارة إلى مدى قسوة هذا الشعور على النفس البشرية لما يحمله من ذنب وحزن، فكما جاء في الرواية “الندم هو ما يجعلنا نذبل ونشعر أننا العدو اللدود لأنفسنا ولمن حولنا”. ويمكن الوصول إلى أهم درس أشار إليه الكاتب في الرواية؛ وهو ألا يعيش الإنسان حياة غير حياته وألا يسعى إلى تحقيق أحلام الآخرين عوضاً عن أحلامه. وهذا ما جعل نورا تشعر بالضياع والحسرة والذنب ظناً منها أنها المسؤولة عن فشل الآخرين، لأنها رفضت تحقيق أحلامهم من خلالها. الأمر الذي وصل بها إلى الاكتئاب، إلى جانب آلام الطفولة كالبيئة التي ترعرعت فيها وأسلوب والديها في التعامل معها والعلاقة بينهما. كل ذلك ساهم في تكوين شخصيتها ونمو نقاط ضعفها أكثر فأكثر. ومنه نستنتج أن المشكلة ليست في صعوبة تحقيق الأحلام بل في الكون الصغير الخاطئ الذي يكبر بداخل الإنسان، من مشاعر ألم وإحساس بالذنب وخوف من الحياة. فقد قال الفيلسوف برتراند راسل: “الخوف من الحب هو الخوف من الحياة، ومَن يخاف الحياة ما هو إلا شخص ميت”.

إنَّ رواية مكتبة منتصف الليل عبارة عن رحلة لتأمل الحياة والتعمق فيها، وهي ملجأ لكل شخص فقد أمله من حياته وتمكَّن اليأسُ منه. وفي النهاية هل ستدرك نورا الدرس جيداً وتقدِّر فرصة أنها حية؟ أم أنها ستستسلم لخيبتها وتختار الموت عوضاً عن ذلك؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: هبه النديوي

تدقيق لغوي: Shurook Dirkey

اترك تعليقا