مكانة الألم في التَّجربة الدِّينية

إن حياة الإنسان منذ وُجد على الأرض محاطةٌ بغموضٍ كبيرٍ هو غموض الألمِ والموت. كما أن وعيه منذ البداية كان وعيًا بالآلام؛ لذلك تمثلت أولى مراحل بنائه للحضارة في محاولة مواجهة المعاناة والآلام وإيجاد معنى للحياة. لذلك فإن محاولة تفسير الألم موغلة في القِدم. ففي عصور ما قبل التَّاريخ نظر الإنسان البدائي إلى الألم على أنه قصور في الجانب الروحي؛ لذلك كانت محاولة التَّطْبِيب في تلك المرحلة تشمل تطهير الروح والجسد عبر ممارسات وطقوس يقوم بها كاهن العشيرة لتخفيف الألم. ومع إرساء دعائم الحضارات الأولى، لم تختلف نظرة الإنسان إلى أن مصدر الألم مرتبط بالآلهة. لذلك اعتقد المصريون القدماء أن الآلام الجسدية والنفسية هي نتيجة تأثيرات من قِبَل الآلهة وأرواح الموتى. كما رأى الهنود القدماء أن مصدر الآلام يُعزى إلى الإله أندرا، وأن ميلاد الإنسان مرتبط بالألم، وأن القلب هو مصدر الألم كما هو مصدر اللذَّة والبهجة.

ولم يختلف تصور الأديان الإبراهيمية حول اعتبار الألم ذي مصدر إلهي. ففي اليهودية كان الألم والمعاناة نتاجًا لعصيان آدم وحواء للأمر الإلهي بتجنب الأكل من الشجرة المحرمة. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ». وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ أمْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّأمِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (سفر التكوين 16: 3ـ19).

ويُعد الألم في المسيحية جزءًا من رسالة المسيح كما جاء في إنجيل لوقا على لسان المسيح: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا» (لوقا 9: 22)، وتطهيرًا من الخطيئة الأصلية لآدم وحواء.

أما في الإسلام فلم يُنظَر إلى الألم على أنه هدفٌ وغاية، بل أتى ضمن منظُومة تجربة دينيّة واسعة، يمر بها الإنسان خلال حياته تحت مُسمى (الابتلاء). ووفقًا لهذه المنظومة فالألم مثل اللذَّة، قد يسقط فيه المرء فيخسر ذاته، أو يبني عليها يقينه بِرَبِّهِ ليحقق كمال النفس واستنارتها بنور رَبِّهَا. لذلك نظر الإسلام إلى الألم كشرابٍ مُؤقتةٌ مرارتُه، مهمته تقريب الإنسان من الله. فجاءت آي القرآن بإثباتها أَنَّ الألم والبلاء إنما هما من عند الله «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم» (يونس 107)

فالمعتقدات والأديان نظرت إلى الألم بوصفه طريقًا للخلاص مُقدم من قِبَل الإله. وأصبح الألم بمثابة شرط من شروط تطَهُّر الروح فكلما بلغت الآلام ذروتها من الجسد والنفس، تحررت الروح من سجنها الجسدي. كما أصبح التماهي مع الألم وسيلة من وسائل التقرب والاتحاد بالمطلق (الله). لذلك كان للألم مكانة خاصة في التَّجارب الرَّوحية الدِّينية عند عديد من النساك والرٌّهْبان والمتصوفة من كافة الأديان، باعتباره إحدى وسائل الانتقال من الدنيوي لبلوغ الاتحاد بالمقدس.

إعلان

الألم طريقًا للإشراق عند الشامانيين

تعتبر الشامانية من أقدم الممارسات الروحانية في العالم. إذ تعود جذورها إلى العصر الحجري القديم. والشامانية في أبسط تعريف لها “هي ممارسات يمارسها الإنسان من أجل الخروج من وعي الجسد المادي المحدود، إلى الاتصال بالمطلق أو الأرواح اتصالًا مباشرًا”. ويجتهد الشامان للوصول إلى حالة تسمى الْوَجْد، وهو حالة ترتكز على عدم إحساس الشخص بنفسه ومجاوزته لذاته. وتمثل الشامانية إحدى الأمثلة على الوصول إلى تلك الحالة، ويشير مرسيا إلياد في كتاباته عن الشامانية إلى بعض ممارسات الشامانيين التي تمثل إحدى علامات تحول المرء إلى شامان، وهي إصابته بحالة تشبه الصرع في بادئ الأمر، والميل إلى العزلة في الغابات والجبال، والتغذي على أوراق الشجر، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى ممارسات شديدة كأن يجرح الشامان نفسه بسكين دون أن يشعر، أو يغطي جسده بمادة طباشيرية حارقة حتى يبدو وجهه كوجوه الموتي، والسَّير فوق الجمر. وَيرْوي إلياد عن أحد الشامانيين من قبائل ياكوت، أن الشامان في هذه التجربة يشعر بآلام شديدة وكأن أعضاء جسده قد تمزقت بخُطاف من حديد. والآلام التي تعتري الشامان في بداية طريقه تمثّل علامةً على الاختيار والقبول الإلهي. وفي نهاية المطاف، تأتي مرحلة الإشراق وهو نور باطني غامض يجتاح كيان الشامان.

الألم طريقًا للخلاص عند النُساك الهندوسيين والبوذيين

في أقدم أشكال الديانة الهندية القديمة أي “الهندوسية”، نجد أن تصور الهندي للخلاص وإدراك براهمان الأسمى لا يتم إلا بالانتقال التام عن العالم والحياة، والقضاء على رغبات الجسد؛ ولهذا أصبح الزهد وإماتة الجسد شرطين أساسيين من أجل التحرر الأبدي في الهندوسية. فيشير كريشنا إلى أن عدو الإنسان هو الرغبة التي تمزق كل شيء وتسبب كل خطيئة وتهاجم الإنسان؛ الرغبة من خلال الحواس. لذلك شددت الهندوسية على ممارسة الرياضات الروحية الصارمة لضبط الحواس وإماتتها مثل اليوجا. واليوجا تعني حرفيًا اتحاد الذات الفردية مع الذات العليا (براهمان الأسمى). وعندما تتحقق وحدة الإنسان مع براهمان يكون منفصلًا عن فكرة أنه كائن متجسد يشعر بأي آلام؛ لذلك حفلت ممارسات النساك الهندوس بتعذيب الجسد وإيلامه، مثل الاضطجاع وسط النيران، والتحديق في ضوء آشعة الشمس لفترات طويلة، والوقوف على ساقٍ واحدة، وارتداء ملابس مبللة في الشتاء قهرًا للرغبات الجسدية.

أما في البوذية، فقد أشار بوذا إلى أن الشهوة هي مصدر الألم. فالشهوة في تصوره نارٌ عنيفة، وإخمادها هو السبيل للوصول إلى النيرفانا. لذلك نجد أن حياة بوذا في بدايتها لم تختلف كثيرًا عن ممارسات النساك الهندوس وذلك من خلال استحضار الألم. ولكي يجرد بوذا ذهنه من الأفكار التي تشعل نار الشهوة، اتبع نظامًا في الصوم شديد الصرامة والشدة، مقللًا من تناول الطعام حتى يصل إلى حبة أرز واحدة. ويروي بوذا أنه عندما حاول أن يلمس معدته وجد نفسه يُمسك بعموده الفقري من شدة هزول جسده. ويرى ديفيد لوبرتون أن البوذيين يستطيعون أن يتحكموا في ألمهم من خلال عمَلية التَّفكُّر. فالألم من وجهة نظرهم مثل السعادة، هو مظهر من المظاهر الروحانية، لذلك فهم يركزون ذهنهم حول الألم، فالبوذي لا يهرب من الألم بل يسلمُه نَفْسه.

الألم طريقَّا للاتحاد بالمسيح عند الرهبان المسيحين

لم يكن استحضار الألم من أجل الوصول للإله أمرًا مقبولًا في اليهودية. وكانت نزعة الزهد غريبة بالنسبة إلى التفكير اليهودي على عكس المسيحية. فإلحاق الأذى الجسدي والتألم من أجل التقرب إلى الله لم يكن له أي معنى في اليهودية. كما أن سبيل الخلاص ومعرفة الله في اليهودية يتوقف على الالتزام بالشريعة والوصايا الموسَويَّة المنصوص عليها في التوراة.

أما في المسيحية فقد ارتبط الألم بالخطيئة الأصلية، وأصبحت آلام المسيح في أثناء صلبه، وفقًا للمعتقد المسيحي، بمثابة تطهير عن الخطيئة الأصلية. وقد عبر القديس أغناطيوس الأنطاكي فى إحدى رسائله عن ذلك قائلًا: “ماذا تفيدني ملذات هذا العالم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العالم؟ إنني أفضل أن أموت مع المسيح الذي مات من أجل أن أملك أطراف المسكونة، اتركوني أقتدي بآلام ربي”. وقد كشفت دراسات كارولين باينوم، في دراستها حول الألم الذي يمارسه الرهبان المسيحيون، عن وجود قدر من البهجة في الشعور بالألم طالما أن الأجساد التي تختبره تتجاوب معه في ضوء التقرب إلى الله والاتحاد بجسد المسيح. وقد كرس القديس بولس لتلك العقيدة باعتبار أن أجسادهم هي أعضاء وجسد المسيح فقال في رسالته إلى أهل كورنثوس: “ألستم تعلمون أن اجسادكم هي أعضاء المسيح؟” كما وجد بولس بهجة في الألم والعذاب: “أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي، لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو 1: 24).

وهناك نوع من الاقتران بين اللذَّة والألم، وهو ما عبرت عنه الأم تريزا في تجربتها الصوفية: “كان الألم عظيمًا فأصبحت أعاني وأتلذذ من فرط حلاوته، وأتمنى ألا يتوقف هذا الألم الحسي طالما أن الروح لا تكتفي إلا بالله”. هكذا أصبحت إمكانية التقرب إلى الله عبر الألم هي الأساس التي قامت عليه بدايات حركة الرهبنة، لذلك نجد سير الرهبان الأوائل مليئة بشتى أنواع التعذيب والإذلال الجسدي باعتباره محض الخطيئة وعائق أمام الوصول إلى الله. وقد كان الراهب أمنيوس الطويل يحرق جسده باستخدام قطعة من الحديد ويضعها على أطرافه حتى تحترق إذا ما اشتدت عليه شهوته، والأنبا مقار الإسكندراني كان يتعرى لمدة طويلة ليتعرض لِلْدغ النَّامُوس حتى يتورم جسده كاملًا، بالإضافة إلى قيام العديد من الرهبان بممارسات لا تقل قسوةً وإيلامًا كالوقوف على قدم واحدة لمدة طويلة، أو القيام بالإخصاء للتخلص من شهوة الجنس، وهكذا أصبح الطريق إلى الله وفق تلك الرؤيا الرهبانية لا يتم إلا عن طريق الجسد المُبتلى دائمًا.

الألم طريقَّا للفناء في التصوف الإسلامي

نزعة استحضار الألم غريبة عن الدين الإسلامى، فآيات القرآن والأحاديث النبوية حثت على عدم إلقاء المرء بنفسه ضمن دائرة الألم الجسدي فيقول الله في القرآن: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة” (سورة البقرة: 195)، وفي الأحاديث نجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن التشدد والغلو على النفس في العبادات من أجل التقرب إلى الله فيُروى عن الرسول أنه قد مر على رجل من الأنصار قد نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم فقال الرسول: “مروه فليتكلم وليستظل، وليقعد وليتم صومه” (صحيح البخارى). إلا أن الممارسات الروحانية للمتصوفة المسلمين قد استحضرت الألم الجسدي تحت مسمى المجاهدات مع النفس على اعتبار أنه إحدى الطرق الموصلة إلى مرحلة الفناء، وهو عدم شعور الشخص بنفسه ولا بشيء من لوازمها، وهي مرحلة يتوقف فيها الوعي تمامًا بدرجة يستغرق فيها الصوفي حتى لا يعود مُحسًا بما يقع من أمور تثير الألم. هذا لأنه فقد إحساسه أو لأنه قد أصبح في حالة تركيز كاملة مع فكرة الألوهية.

وقد عبر الصوفي الشهير السري السقطي أنه في تلك الحالة التي يصل إليها السالك، لو ضُرِب وجهه بالسيف وهو في حالة الفناء لما أحس بألمه، فالألم وفقًا للسري السقطي أحب إلى الصوفي من احتجاب الله عنه. يقول السقطي “إن كل ألوان العذاب أحب إلينا من حجابك، لأنه حين ينكشف جمالك لقلوبنا لا نبالي بألوان العذاب”. لذلك أيضًا نجد الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاَّج قد تفرد على جميع المتصوفة باتخاذه الآلام والمعاناة شيئًا مقصودًا لذاته في رحلته عبر الفناء، وقد عبر عن ذلك فى أشعاره بقوله:

أُرِيدُكَ لَا أُرِيدُكَ لِلثَّوَابِ.
وَلَكِنِيّ أُرِيدُكَ لِلْعِقَابِ
فَكُلَّ مآربِي قَدْ نُلْتُ مِنْهَا.
سِوَى ملذوذ وَجِدِي بِالْعَذَابِ

ويناجي ربه قائلًا “إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى الذي يُؤذى فيك”. وبذلك نجد أن الحلاَّج قد عبر عن حبه لله عبر الألم، فهو لا يريد من حبه إلا آلام الْوَجْدِ لأنه يجد فيها لذَّةً لا يجدها في ألوان النعيم الأخرى. فالألم عنده يجب أن يوَصِّل إلى مرحلة العذاب، وهذا العذاب هو لذَّةٌ خالصة لا يعرفها ولا يذوقها إلا الخواص من المُحبين. لذلك نجده رغم الآلام التي عانها على خشبة الصَّلْبِ، وبعد ضربه بالسياط ألف ضربة حتى تمزق جسده، ظل على قيد الحياة، ولم يأن ولم يتوجع، فقد أراد من خلالها أن يُعبر للناس كيف يكون الصَّبر وكيف يكون الفناء والحب في الله.

إن الألم في الأديان وداخل التجربة الدِّينية، يشكل وضعًا حياديًا في حياة الإنسان، فقد يفضي ببعض الناس إلى القنوط واليأس، وقد يفضي بالبعض الآخر إلى التكامل. وهذا ما يشير إليه ديفيد لوبرتون فى كتابه تجربة الألم: “إنَّ الألم سلاحٌ يُستعمل كدافع لتغير الفرد لوجُودهِ”. وإذا كان للألم مكانته الخاصة في التجربة الروحية لكثير من الأديان، فهو في نهاية الأمر ليس السبب الوحيد لتبيان معالم تلك التَّجربة.

نرشح لك: مترجم| التجربة الدينية في ضوء ألعاب فتغنشتاين اللغوية

المصادر
1-الشامانية /مرسيا إلياد /مختارات مترجمة /موقع منشورات اكاديمية ريكى زن الاصدار 6
2-الهندوسية تحضيرها لانعتاق الروح / نينجيلاناندا /ترجمة نبيل سلامة
3-تجربة الألم / ديفيد لوبرتون / ترجمة فريد الزاهى
4-القربان عند الأباء الرسوليين /مجلة حياتنا الليتورجية السنة الأولى العدد 1998
5- سوسيولوجيا المقدس: الدين والتجسيد والتغير الاجتماعي /تأليف فيليب ميلور وكريس شلنج/ترجمة أحمد زايد / المركز القومي للترجمة
6- سيكولوجيا الألم /ديفيد لوبرتون/ ترجمة عياد إبلال –إدريس المحمدى
7- فردوس الأباء بستان الرهبان الموُسع/ 3 اجزاء/ موقع المكتبة القبطية على شبكة الانترنت 
8- الإنسان الكامل /عبد الكريم الجيلى /الهيئة العامة لقصور الثقافة
9- الفناء عند الصوفية والعقائد الأخرى / عبد البارى محمد داوود /الدار المصرية اللبنانية 
10- آلالام الحلاج /لويس ماسينيون 
11- فلاسفة الشرف /أ ف توملين/ ترجمة على أدهم

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سيد مهران

تدقيق لغوي: سارة إبراهيم

اترك تعليقا