معرفة عمرك الحقيقي تستلزم أكثر من عينة فحص ورزنامة
فلنبدأ بسؤال بسيط: كم يبلغ عمرك الحقيقي؟ قد تعتقد أنه سؤال سهل. يمكنك الإجابة بعدد السنوات أو بالأشهر والأيام أيضًا إذا دعت الحاجة إلى مزيد من الدقة. ضبط صديقي شاشة توقف على جهاز حاسوبه تعرض له عمره في الوقت الحالي مقسمًا إلى أجزاء من الثانية. شخصيًا، أجد الرسائل التذكيرية بمرور الوقت بالتفصيل مرهِقة. لكن الفكرة الأساسية بدهية، تلك الأرقام تعبّر عن الوحدات الزمنية التي مرّت منذ ولادتك.
وبالطبع سيحتمل الحساب اللَبس بعض الشيء. متى تبدأ عجلة الزمان بالدوران؟ هل بخروجك من رحم أمك؟ عند قطع حبلك السري؟ أم حينما أخذت أول شهيق؟ فلنضع التعقيدات جانبًا، النقطة واضحة: كل ما في الأمر أن العمر يتوافق مع الوقت منذ الولادة كما يرد بدقة في كافة الوثائق والسجلات الرسمية، لكن أحقًا الأمر كذلك؟
قاس العلماء حديثًا عمر الخلايا عند كائنات حية مثل الفئران والبشر. تتكون أعضاء البالغين ممّا يمكن أن يسمى بـ”معدّات بيولوجية” والتي تختلف جذريًا في العمر. يتراوح طول العمر الخلوي بين ثلاثة أو أربعة أيام، كما هو الحال في خلايا النسيج الطلائي في الأمعاء، إلى عمر الكائن الحي بأكمله كما هو الحال في الخلايا العصبية وخلايا عضلة القلب.
تثير هذه الظاهرة المعروفة بالفسيفساء العمرية ألغازًا مثيرةً للاهتمام. وتقوم هذه الفكرة الشائعة القائلة بأن العمر يُحَدَّد ببساطة من خلال العودة إلى لحظة الولادة على الافترض المسبق بأن الكائن الحي بأكمله وُلِد ذاك الوقت. لكن مع ذلك سيعترض معظمنا على حجة مطروحة في متجر خمور بأن نبيذ بورتو مُباع على أنه معتَّق من السبعينات لأن بعضًا من النبيذ في الزجاجة مصنوع من عنب مقطوف في السبعينيات. وبذلك تقترح الفسيفساء العمرية أن شيئًا على هذا المنوال يحدث مع كائنات حية مثلنا. إذًا لو ولدت أعضاء في السبعينيات وبعضها في التسعينيات وبعض آخر منها في عشرينيات هذا القرن، فكيف نحدد عمر الشخص ككل؟
تكمن الصعوبة في توفير مقياس مترابط للعمر البيولوجي الإجمالي للكائن الحي، مع ملاحظة أن المكونات البيولوجية عند الفرد نفسه تختلف اختلافًا كبيرًا في عمرها وفي معدلات الشيخوخة. أي مقاييس تُعتَمد؟ ولماذا؟ إن مفهوم العمر مبهمًا أكثر مما كان عليه عند ظهوره في البداية.
لمعرفة ما يجري، من المفيد إدخال مفهومين معروفين. يجب ألا يُصدَم أحدٌ إذا سمع أن كائنين حيين أو بصورة أكثر عمومية شيئين ما ممكن أن يكونا قد قضيا نفس عدد الأيام في معركة الحياة هذه في حين يتقدمان بالعمر في طرق نوعية مختلفة. تتحسن بعض أنواع النبيذ كثيرًا، وأنوع أخرى لا تُشرَب نهائيًا. وُلد ريان جوسلينج وماكولاي كولكين عام 1980، لكنهما لم يبلغا العمر نفسه. يمكن ملاحظة هذه البدهيات من خلال التمييز بين العمر الزمني chronological age والذي يتوافق مع مرور الوقت، والعمر البيولوجي biological age المتوافق مع تأثير الزمن على الكائنات الحية.
وبالمناسبة هذه التسمية مضللة، فبينما لا يوجد شيء ‘بيولوجي’ جوهريًا حول العمر البيولوجي – ينطبق المفهوم بشكل غير واضح على أنظمة من أمثالها العضوية وغير العضوية. ولا جديد في مسألة التناقض المحتمل بين العمر الزمني والآخر البيولوجي. وما يجعل الفسيفساء العمرية مثيرةً للاهتمام ومحيِّرة هو التحدي الذي تضعه أمام مفاهيمنا العادية للعمر الزمني والعمر البيولوجي على حد سواء.
عندما نقول أن شيئين تقدما بالعمر بشكل مختلف، فإن ما نعنيه أن لديهما العمر الزمني نفسه لكن عمرهما البيولوجيين مختلفان. لقد قضيا الوقت نفسه لكن كل واحد منهما تأثر بشكل مختلف. تتحدى فكرة الفسيفساء العمرية الحقيقة البدهية بأن الأشياء المولودة أو المخلوقة تقريبًا في نفس الوقت لها العمر الزمني نفسه. إننا مزيج من الخلايا و”التروس الخلوية” التي تختلف جذريًا في العمر.
ومن خلال العمر الزمني يصبح الحديث عن العمر البيولوجي بلا معنى، ما دمنا نحتاج معرفة عمر عضوين أو شيئين لمقارنة كيف تقدما بالعمر. والآن ليس بمقدورنا الحديث فجأة عن العمر الإجمالي، خصوصًا على صعيد رقم بسيط أو قيمة متسقة. هل اتخذنا منعطفًا خاطئًا في مكان ما في الطريق؟
لا داعيَ للهلع، على الأقل ليس الآن. قد يكون أحد الحلول للغز الفسيفسائية بإعادة النظر إلى توصيفنا للعمر الزمني. بدلًا من حساب العمر منذ الولادة، يمكن ترجيح العمر الزمني على أنه المتوسط المُرَجّح للمكونات على حدى. تستطيع تحديد عمر كل خلية في جسمك ثم حساب المتوسّط المرجح. وسيكون الناتج عمرك الزمني الجديد.
قد يظهر هذا الحل مبشرًا بالخير في البداية، ثم بعد التفكير به قليلًا سيظهر أنه لا يجدي نفعًا. أولًا، سيجعل متوسط عمر الخلية تحديد العمر معقدًا للغاية وصعب التنفيذ. والأخطر من ذلك أن أي تقدير كمّي عددي ضمن هذه الخطوط عبارة عن هراء. خذ بعين الاعتبار زجاجتا النبيذ. الأولى معبأة بما مقداره خمسون بالمئة من نبيذ معتق منذ السبيعينيات والنصف الآخر منذ العقد الأول من هذا القرن. أما الزجاجة الثانية فهي معبأة كاملة بنبيذ عتيق منذ التسعينيات. العمر المتوسط للمكون يقترح بأن الزجاجتين لديهما نفس العمر الزمني، والتي تصبح بعد ذلك الخطوة الأولى في تحديد عمرهما البيولوجي. لكن ما الذي يبرر هذا الاستنتاج؟ فعلى نفس المنوال ليس هناك ما يضمن أن متوسط عمر الخلايا العصبية مثلًا وخلايا الدم الحمراء والخلايا العضلية يعطي أي قيمة حقيقية فيما يتعلق بالفرد ككل.
يتعلق الموضوع بتوفير أداة قياس متسقة للعمر البيولوجي الكلي للكائن، ومتوافقة مع الملاحظة بأن “تروس” الأداة المختلفة قد تتباين بعمرها بمعدلات التقدم بالعمر. يُفهم العمر البيولوجي عادةً كدالة على العمر الزمني والتي تتلخص في مرور الوقت الحقيقي أو الفعلي. لكن الفسيفساء العمرية تشير إلى أن العمر الزمني لا يتلخص ببساطة في الوقت المادي. وبناءً على ذلك فإن العمر البيولوجي يفتقر كذلك إلى أساس لمقارنة عملية الشيخوخة بين الأفراد. إذًا كيف نحل هذه المعضلة؟
اقتراحي واضح ومباشر: يتطلب العمر -بيولوجيًا كان أو زمنيًا- زمنًا بيولوجيًا حتى لو لم يتطلب الزمن الحقيقي أو الفعلي ذلك. نحتاج إلى أساس مشترك لمقارنة وإضافة العديد من العمليات الفرعية وتوليد مقياس بيولوجي شامل ينطبق على الأعضاء ككل.
كيف سيبدو هذا “الزمن البيولوجي”؟ وما هي الطرق التي يمكن أن يحيد بها الزمن للعضو عن الزمن المقاس بالساعة؟ في حين يتطلب إجراء مناقشة شاملة الخوض في الجوانب التقنية التي تتجاوز نطاق هذه الفكرة، اسمحوا لي أن أذكر اقتراحًا قائمًا بإمكانه أن يكون بمثابة نقطة انطلاق للنقاش في المستقبل.
خلال السنوات القليلة الماضية، أصبح من الشائع وصف عملية التقدم بالعمر من حيث القصور الحراري أو الإنتروبيا entropy. وكما يعلم كل طالب مبتدئ في الفيزياء، يمكن استخدام الإنتروبيا لقياس وتحديد كمية الفوضى الموجودة في نظام ما. كلما ازدادت الإنتروبيا كلما أصبح النظام فوضويًا أكثر وغير منظم. والآن، حيث إن الأنظمة الفيزيائية متروكة إلى أدواتها الخاصة، فإنها تتحول تلقائيًا من حالات أكثر ترتيبًا إلى حالات أقل ترتيبًا، لذا يمكن أخذ موت كائن حي ليتوافق مع أعلى حالاته الفوضوية، وعلى العكس نحدد الولادة عند نقطة أدنى مستويات الإنتروبيا، مع أخذ هذا في عين الاعتبار، نستطيع تتبع مرور الوقت (العمر الزمني) وتأثيره على الكائن الحي (العمر البيولوجي) من حيث التحولات في مستويات الإنتروبيا. لكن منذ أن التحولات في الإنتروبيا لا تحتاج بالضرورة أن تتوافق مع التقدم الخطي للزمن الفعلي، هل يمكن أن تتوافق مع مفهوم الزمن البيولوجي؟
إن البت في هذا الحل وطرحه مقابل البدائل المحتملة يكمن وراء أهدافنا الحالية. وإن استنتاجي أبسط. نميل لعرض العمر كمفهوم مباشر وغير إشكالي ولا يتطلب سوى تتبُّع مرور الوقت. تكشف الفسيفساء العمرية أن هذه الحقيقة البدهية المنطقية قد تكون مُبهَمة. بينما العمر فكرة متعددة الأوجه تنتشر على عدة أبعاد. لكن العمر الزمني يتطلب زمنًا بيولوجيًا، والعمر البيولوجي يتطلب زمنًا بيولوجيًا. والأسئلة هي: أين يمكن العثور عليه؟ وماذا يمكن أن نفعل به؟
دعوني أُنهِ الموضوع بملاحظة تخمينية، افترضوا أننا سنجد في المستقبل -سواء القريب أو البعيد- وسيلة لضمان وضع الأطر المفاهيمية ومقياس موضوعي للزمن البيولوجي. قد تكون الإنتروبيا في نهاية المطاف حلًا، أو قد تثبت استراتيجية أخرى بأنها أنجح – فهي لا تحدث فرقًا ملموسًا على أهدافنا الحالية؟ بالتأكيد. إن الزمن البيولوجي في المجمل هو المفتاح لفهم أين نتموضع في رحلة الحياة، في حين لا يغدو العمر الزمني مجرد بديل وعنصر نائب عن شيء أعمق لقياس كيف تجتاز عقولنا وأجسامنا مرور الوقت.
في نهاية المطاف ما يهمنا حقًا هو العمر البيولوجي، فهو يحمل مفتاح عافيتنا، وفرصًا لحياة مديدة وصحية، وخططًا للمستقبل، وكلَّ آمالنا وأحلامنا. لكن هذه المعلومة قد تتحول إلى سيف ذو حدّين. فلحسن الحظ سيكون عمرك البيولوجي أصغر من أصدقائك أو من أفراد عائلتك أو مشاهير أو مجرد أي معارف. لكن قد يحدث العكس أيضًا ، فقد تكتشف أنك أكبر سنًا بيولوجيًا من الذين يكبرونك بالسن زمنيًا، فإذا أصبح مفتاح الزمن البيولوجي بالتالي متاحًا لنا جميعًا يومًا ما، فهل ستريد أن تعرف ذلك؟