مراجعة كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو: الجزء الثاني (نظرية زمكان الوعي)
يعتبر كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو مرجع شامل لكل مايخص العقل من أفكار وتقنيات وفسيولوجيًا، والكتاب مليئ بالأفكار حيث يعتبر عدة كتب في كتاب واحد.
قدَّمنا قبل ذلك مراجعة للمقدمة والفصل الأول تستطيع قرائتها من هنا والآن نقدم الجزء الثاني والتي تتضمن مراجعة من الفصل الثاني للفصل السادس.
الفصل الثاني “الوعي”
يذكر ميشيو كاكو إشكالية الوعي وصعوبة تحديد ماهيته حتى أنَّ الفيلسوف ديفيد تشالمرز صنَّف أكثر من عشرين ألف رسالة كتبت حول هذا الموضوع، وبعض الفلاسفة يدعُّون أنَّ الوعي لايمكن أن يفسَّر على الإطلاق لأنَّ الشيء لايمكن أنَّ يفسِّر ذاته، ونجد أنَّ النظرية السلوكية إحدى النظريات المهيمنة في القرن العشرين أهملت الوعي بالكامل لأنها بُنيت على أنَّ السلوك الموضوعي للحيوان والإنسان هو فقط الجدير بالدراسة، وليس الحالات الداخلية والذاتية للعقل مثل نظرية التحليل النفسي.
وقد بدأ كاكو بعد ذلك بمحاولة الفيزيائي للتعرف على الوعي ووضع بنفسه تعريفًا بعد جمع توصيفات للوعي في حقلي علم الأعصاب والتشريح وهو “الوعي هو عملية خلق نموذج للعالم باستخدام دارات تغذية راجعة عديدة بمتغيِّرات مختلفة من أجل تحقيق هدف ما” وأطلق على هذا التعريف “نظرية زمكان الوعي” لأنها تؤكِّد فكرة أنَّ الحيوانات تصنع نموذجا للعالم تحديدا بالعلاقة مع المكان وبعضها مع بعض، بينما يتخطَّى البشر ذلك ويصيغون نموذجًا للعالم وفق الزمان للأمام والوراء.
هنا شرح كاكو محاولة وضع مقياس للوعي حسب نظريته يتكون من رقمين، الرقم الأوَّل يمثِّل مستوى الوعي ويبدأ من الصفر إلى مستوى الوعي، رقم 3. والرقم الثاني يحدَّد عدد دارات التغذية الراجعة، فمثلًا منظِّم الحرارة (الثرموستات) يملك وعي (0 : 1) أي أنَّ له مستوى الوعي صفر لأنَّه جسم ثابت أو مثل النبات له حركة محدودة ، والرقم الثاني واحد لأنه يخلق نموذجا لمكانه باستخدام دارة تغذية راجعة واحدة وهي درجة الحرارة، ونجد النبات يمتلك عشر دارات تغذية راجعة ولذلك يملك النبات وعي (0 : 10)، أما الكائنات التي تظهر فيها نظام أعصاب بسيط تنتقل لمستوى الوعي 1 مثل الزواحف، ويكتب بجانبه عدد دارات التغذية الراجعة كما شرحنا سابقا ، والثدييات تمتلك مستوى وعي 2 فعلى سبيل المثال وعي الذئاب بطريقة تقريبية (2 : 150) وهكذا.
وفي محاولةٍ لربطِ مستويات الوعي بتركيب الدماغ الذي توصَّل له العلماء وضع جدولًا يبيِّن كل مستوى وعي وبنية الدماغ له، ويركِّز كاكو على أنَّ الإنسان يمتلك مستوى وعي مرتفع لأنَّه يستطيع إدراك الزمن، ولتبسيط الفكرة يحاول دراسة الفكاهة ويشرح تأثيرها علينا فالفكاهة تغيير في توقُّعنا للمستقبل بصورة مفاجئة حسب تعريفه لها ، ثم ينتقل للغيبة التي تكون بين الناس وضرورتها للبقاء على قيد الحياة وأنَّها تنقلنا من مستوى وعي 2 لمستوى وعي 3، وكذلك اللعب الذي يجعلنا نزيد من قدرتنا على توقُّع المستقبل، وتتم عن طريق ألعابٍ تقودنا لتمثيل المستقبل مثل الشطرنج وورق اللعب، ومثلما يلعب الأطفال دور الشرطي أو لص أو دكتور، ومن هنا يهاجم كاكو “إختبارات الذكاء – IQ tests” لأنها منحازة ثقافيا ولاتقيس “القدرة على تفعيل تمثيلات أكثر تعقيدًا في المستقبل”، وهو الأمر الذي يعتبر حجر الزاوية في نظرية كاكو عن الوعي.
وانتقل كاكو بعد ذلك في محاولة لفهم سرِّ الوعي بالذات وذكر قول عالم الأحياء الدكتور كارل زيمر “قد تؤدِّي القشرة أمام الجبهة الوسطى الدور نفسه للذات الذي يؤديه بالنسبة للذاكرة فهي قد تركَّب باستمرار محور شعورنا بذاتنا”، ولكن كاكو اعترض عليها وشرح ذلك وعاد مرة أخرى للدماغ المشطور الذي ذكرناه في المراجعة السابقة وكيف يتعامل النصف الأيسر المسيطر مع النصف الأيمن الذي يمتلك أحيانًا معلومات لايعرفها النصف الأيسر الذي بدوره يقوم بخلق تبريرات، ويذكر تجربة توضح ذلك قام بها الدكتور مايكل غازانيغا عندما أضاء في إحدى تجاربه الكلمة “أحمر” للدماغ الأيسر فقط والكلمة “موزة” للدماغ الأيمن فقط لمريض، ثم طلب من الشخص أن يلتقط قلما بيده اليسرى “التي يتحكم فيها النصف الأيمن من المخ” ويرسم، فرسمت اليد اليسرى موزة. ثم سأله لم رسمت موزة؟
ولا تنس عزيزي القارئ أنَّ الدماغ الأيسر هو من يتحكَّم في الكلام وهو في هذه التجربة لايعلم شيئًا عن الموزة التي رآها الدماغ الأيمن وكان من المفترض أنَّ المريض يجيب لاأعلم، ولكنه بدلًا من ذلك قال، والأسهل هو الرسم بهذه اليد، لأنَّ هذه اليد يمكنها السحب لأسفل بشكل أفضل. فالدكتور غازيتغا ويقول من هنا يأتي شعورنا بالذات الموحِّدة بالرغم من أنَّ الوعي مركَّب من ميول متنافسة ومتناقضة، وغالبًا فإنَّ الدماغ الأيسر يتجاهل عدم الإتساق ويغطى ثغرات واضحة ليعطينا شعورا ناعما بـ “أنا مفردة” .
الفصل الثالث “التخاطر”
يُفتَتح الفصل بسيرة هاري هوديني الذي يعتبره بعض المؤرِّخين أعظم ساحر على الإطلاق، وأنه كان يغضب من السحرة لأنهم يخدعون الناس، فجال في البلد ليفضح هذه الخدع وأصبح عضوًا في لجنة نظمت من قبل مجلة سيانتفيك أميريكان وقُدِّمت مكافأة سخية لأيِّ شخص يستطيع أن يبرهن أن لديه قوة نفسانية -لم ينل أي شخص إطلاقا هذه المكافأة-، يذكر كاكو قصة هوديني ليبيِّن أنه كان مخطئًا عندما تحدَّث عن التخاطر وقال أنَّ التخاطر مستحيل ، ويقول كاكو أنَّ العلم برهن على أنَّ هوديني كان مخطئًا ، وهو ليس التخاطر الحقيقي الموجود في روايات الخيال العلمي.
يشرح كاكو محاولات العلم لمعرفة دماغ شخص والأساس الفيزيائي التي تبنى عليه هذه الدراسات وهي محاولة اكتشاف الموجات الرادوية التي يصدرها الإلكترون عندما يتحرَّك أو يهتز داخل الدماغ أي “عندما يفكِّر الدماغ بأمر ما” ، ولكن أيضًا يبيِّن صعوبة تفسير هذه الموجات الرادوية في الوقت الحالي، بالرغم من استخدام العلماء لـ “الماسحات – EEG”، وتوصَّل العلماء لقاموسٍ تقريبي أولي بسيط عندما يعطي شخص صورة سيارة ويقوم بمسح دماغه وعندما يفكِّر مرَّة أخرى في السيارة فإنَّ مسوحات “EEG” تعطي نفس الشكل، فتعرف أنه يفكِّر في سيارة وهكذا.
تطوَّر الأمر مع الدكتور غالانت الذي قام بتصوير فيديوي لأفكار الناس عن طريق أجهزة “MRI” ، وهو يقوم بإجراء تجاربه على طلاب الدراسات العليا ومساعدي البحوث المتحمسين للفكرة ، وبالرغم من أن الصور التي أخذها الدكتور غالانت كانت غير واضحة أو مفهومة ، إلا أنه مع الوقت وبزيادة القاموس الذي يربط حركة السيالات العصبية بما يقابلها من فيديوهات خارجية يشاهدها المتطوع ، يتوقع كاكو أن التقنية ستتطور كثيرا ، واسترسل في شرح عدة تقنيات يحاول العلماء قراءة الأفكار من خلالها مثل مسوحات “ECOG” التي تعتبر تطور لمسوحات EEG ، وذكر محاولات الطباعة بواسطة الدماغ وعمل الموسيقى عن طريق قراءة الأفكار، وبعد عرض عدة تقنيات للتخاطر وقراءة الأفكار والتجارب المتعلِّقة بها خصص نهاية الفصل للحديث عن قضايا الخصوصية والمسائل القانونية المتعلقة بهذا الموضوع.
الفصل الرابع “التحريك بالدماغ”
يتناول هذا الفصل بعض حالات الشلل التام مثل تلك التي تعلمت معها كاتي هاتشينسون التي استطاعت في مايو 2012 م تحريك ذراع آلية عن طريق وضع شريحة ضئيلة فوق دماغها. وهناك أيضًا حالة ستيفن هوكينج الذي ألصق جهازًا لأطرافٍ صناعية عصبية بنظارته وعن طريق حساس EEG امكنه وصل أفكاره بالحاسب الآلي. ثم انتقل لتجارب العلماء لتطوير الاطراف الصناعية مثل ماقام به دكتور لينغ الذي أنجز أكثر الأذرع الميكانيكية تطوُّرًا في العالم والتي يمكنها تقليد الحركات الدقيقة للأصابع والصقت هذه الذراع بجان شيرمان المشلولة الأطراف وظهرت في برنامج تلفزيوني وهي تحرِّكها بدقة.
إنَّ التحريك بالعقل ليس هدف العلماء وحدهم بل حتى رجال الأعمال وشركات الفيديو جيم تسعى وراءه أيضا. وهذا ما دفع الدكتور نيكوليليس لمحاولة وصل العقل بالآلة عبر القارات، وقام بتجربة عندما ربط قرد في كارولينا الشمالية بإنسالي ( إنسان آلي ) في اليابان. إلَّا أنَّ مشكلة الإحساس تقف عائقًا أمام هذه التجارب ويأمل الدكتور نيكوليليس في تجاوز هذه المشكلة عن طريق تقنية BMBI دماغ – آلة – دماغ.
كما استطاع الدكتور نيكوليليس أن ينجز شيئًا ظهر في مسلسل ستارترك وهو دمج العقول وذلك بين دماغين مثلما فعل مع قردين أحدهما في جامعة ديوك في الولايات المتحدة والآخر في جامعة ناتال بالبرازيل.
وفي عام 2013 م مضى عدد من العلماء إلى أبعد من الدراسات على الحيوانات وعرضوا أوَّل اتصال دماغ – دماغ بشري مباشر والتي أنجِزت في جامعة واشنطون حين ارتدى أحد العلماء خوذة “EEG” ولعب لعبة فيديوية عندما أطلق قذيفة بتحريك ذراعه اليمنى ليرسل اشارة عبر الانترنت لعالم آخر يرتدي خوذةً مغناطيسية وضعت بعناية فوق الجزء الذي يتحكَّم في ذراعه الأيمن من دماغه فتحرَّكت.
والمشروع القادم للدكتور نيكوليليس هو المشي مرة أخرى عن طريق صنع هيكل خارجي كامل للجسم يجري التحكم فيه بواسطة العقل. وهذا يفتح الآفاق لارسال بدلاء لسطح القمر يجري التحكُّم بهم من على الأرض لأنَّ الإشارة تصل خلال ثانية للقمر (ولكن لانستطيع أن نفعل ذلك على المريخ لأنَّ اشارة الراديو تستغرق 20 دقيقة). كما أننا نستطيع استخدام هؤلاء البدلاء في المفاعلات النووية التي بها مستويات قاتلة من الاشعاع. ويذكر الدكتور نيكوليليس ما يلي “من المحتمل أن نقوم بتشغيل مبعوثين وسفراء وإنساليات وسفن فضائية بأشكال وأحجام مختلفة، تُرسَل من قبلنا لاستكشاف الكواكب والنجوم في مناطق نائية من الكون يجري التحكم فيها عن بعد.
ويتساءل كاكو بعد ذلك إلى أي مدى يمكن للعلم أن يمضي لتطويع قوى التحريك بالعقل، ويجيب أنه حتى بوجود مصدر طاقة خارجي لتضخيم أفكارنا من غير المحتمل أن يستطيع الناس تحريك أجسام كقلم رصاص بقدرات عقلية لأنه يوجد أربعة قوى أساسية تحكم العالم ولاتستطيع أيا منها أن تحرِّك الأجسام سوى القوى المغناطيسية ولكن لا تستطيع أيا منها تحريك الأجسام سوى القوى المغناطيسية. وفي نهاية الفصل يناقش صاحب الكتاب التبعات الأخلاقية للتحريك عن بعد وأضرارها وفوائدها.
الفصل الخامس “الذكريات”
ونقرأ هنا عن محاولة هنري موليسون المعروف في المراجع العلمية بـ “MH” الذي أصيب في التاسعة في رأسه، وقد سبَّبت الإصابة مضاعفات فتم اجراء عملية له في سن الخامسة والعشرين ولكن مشكلة أخرى ظهرت فالجرَّاحيين قطعوا بالخطأ جزءا من الحصين وهذا ما سبَّب له عدم قدرته على الاحتفاظ بذكريات جديدة. وقد عاش باستمرار في الماضي، محييًا الأشخاص نفسهم عدَّة مرات في اليوم وبالتعبيرات نفسها فانه يراهم للمرة الأولى. وبقيت ذاكرته على المدى البعيد على الرغم من ذلك سليمة فقد كان يستطيع تذكُّر حياته قبل العملية. فعلى سبيل المثال كان يرتعب إذا نظر في المرآة لأنه يرى رجل طاعن في السن بينما يعتقد أنَّه في الخامسة والعشرين. ومن غير الحصين انحدر من مستوى وعي 3 إلى مستوى وعي 2.
وتوضِّح هذه الحالة أهمية الحصين لأنه الجزء الذي تمر به جميع الذكريات السمعية والبصرية والتذوقية والشمية إلى أماكن تخزينها. فمثلًا تخزِّن الذكريات العاطفية في اللوزة والكلمات في الفص الصدغي ومعلومات الألوان والبيانات المرئية في الفص القذالي واللمس في الفص الجداري.
وللأسف فقد مات المدعو “HM” في العام 2008 م قبل أن يستفيد من بعض النتائج المدهشة التي حقَّقها العلم: كالقدرة على صنع حصين اصطناعي ثم حشر ذكريات فيه.
وفضلًا عن ذلك فقد استطاع علماء في جامعتي ويك فورست وكارولينا الجنوبية تحقيق انجازٍ تاريخي عندما استطاعوا تسجيل ذاكرة فأر وتخزينها رقميًا في حاسوب. وتوجد تجربة على فأر تم حقنه بمادة كيميائية معينة جعلته ينسى مهمه وقد أعادوا ادخال الذكرى لدماغ الفأر نفسه. وبصورة مدهشة عادت ذكرى المهمة. فهم بذلك صنعوا حصينًا صناعيًا لديه القدرة على نسخ ذاكرة رقمية أي “أدر المفتاح يصبح لدى الحيوان ذاكرة، أغلقه يفقدها”.
استخدم علماء MIT تقنية الجينات الضوئية للتعرُّف على ما تحتويه عصبونات معينة من ذكرياتٌ عن طريقِ تسليط ضوءٍ عليها من أجل تنشيطها. ويشير ميشيو كاكو لصعوبة عمل ذاكرة جديدة بسبب عدم معرفتنا الدقيقة بطريقة عمل الحصين ولكن عندما تنفَّذ مهمة وتعالج الذاكرة فمن الممكن تسجيلها وتشغيلها مرة أخرى. ويشير أيضًا هذا الأخير لمشكلة أخرى وهي “ذاكرة العضلة”. فإذا حاولنا حشر ذاكرةِ نشاطٍ فيزيائي كالمشي العسكري فإن عضلات أرجلنا لن تستجيب لأن الاشارات التي تتحكَّم في أرجلنا بعد التعوُّد على المشي لم تعد تصدر بالكامل من الحصين ولكن من القشرة المحركة أيضًا ومن المخيخ والعقد القاعدية. وقد شرح تجارب أخرى لعمل قشرة اصطناعية لقردٍ في جامعة ديك فوريست وعمل مخيخ اصطناعي لفأر في جامعة تل أبيب. وانتقل لبحث الزهايمر الذي يرجعه لتراجع الحصين عن أداء وظائفه . ويقول أنَّ الزهايمر يبدأ مع تشكُّل بروتينات أميلويد والتي تُسرِّع من تشكِّل بيتا أميلويد وهي مادة لاصقة تشبه الصمغ تعطل الدماغ . ويبيِّن صعوبة استهداف اللويحات الاميلويدية التي تتكوَّن لأنها مصنوعة من مادة بريون (ليست بكتريا ولا فيروسات ولكنها تتكاثر).
ومن خلال دراسة الفئران والذباب تم اكتشاف جينات مثل “NR2B” والمنشِّط “CRED” والكابح “CREB” في تنشيط أو اطفاء الذكريات، و هو ماجعل العلماء يفكِّرون به في خلق “حبه ذكية” يمكنها تحسين التركيز وتطوير الذاكرة.
وجربَّت شركات الأدوية عددًا من الأدوية مثل “MEM1003″ و”MEM1414” والتي يبدو أنها تحسِّن الدماغ. ويحاول العلماء صناعة عقاقير تمسح الذكريات بطريقة انتقائية مثلما نشاهد في فلم “Men in Black”. ويتحدَّث كاكو عن بعض الأفكار التي سوف تنتج من تخزين الذكريات مثل عمل مكتبة يسجِّل فيها الناس في المستقبل ذكرياتهم بشكل روتيني بحيث يشترك أحفادهم في الخبرات نفسها بزيارة مكتبة الذكريات ورؤية حياتهم والإحساس بمشاعرهم. وينهي الفصل بالجانب المظلم من هذه التقنيات المرتبطة بالذاكرة ويطرحها في بعض الأسئلة مثل: ما الذي يحدث إذا أعطيت الذكريات لنا من دون إذننا؟ وما الذي سيحدث لو كانت هذه الذكريات مؤلمة أو محزنة؟ أو ماذا عن مرضى الزهايمر المؤهَّلين لتحميل ذاكرات لهم لكنهم مرضى إلى حدِّ أنهم لا يستطيعون معه إعطاء الإذن بذلك؟
ويدعي كاكو أنَّه إذا أمكن زرع ذكريات كما تحمل السجلات الحاسوبية فإنَّ هذا سيهز أساس نظامنا القضائي أيضًا وذلك عند زرع ذكريات مزوَّرة في دماغ الشاهد. أو وضع ذكريات جريمة في دماغ برئ.
ويذكر أخيرًا أنَّه ربما سيسمح لنا تسجيل ذكرياتنا وتخزينها وتحميلها على تسجيل الماضي واتقان مهارات جديدة لكن فعل ذلك لن يغيِّر من قدرتنا الداخلية على استيعاب هذه الكمية الضخمة من المعلومات ومعالجتها ولفعل ذلك علينا أن نطوّٓر ذكاءنا.
الفصل السادس “تطوير الذكاء”
يتم دراسة أدمغة عباقرة مثل آينشتاين ولكن للآن لم توجد اختلافات تبيِّن سبب هذه العبقرية. فالاختلافات التي وجدت عند ىينشتاين تُعدُّ ثانوية وقد كان جزء من دماغه يدعى التلافيف أكبر من المعتاد أما المناطق القذالية الأدنى من نصفي كرة الدماغ أعرض بُ 15 في المائة من المعدَّل، ومن الجدير بالذكر فإنَّ هذه الأجزاء هي المسئولة عن التفكير المجرَّد والتعامل مع الرموز كالكتابة والرياضيات. حاول العلماء تطوير الذكاء ووجدوا أنَّه من الصعب جدًا تنمية الدماغ إلَّا أنهم وجدوا على الرغم من أنَّ خلايا الدماغ لا تضاف لقشرة الدماغ فإنَّ الصلات بين العصبونات تتغيَّر في كل مرة يتم فيها تعلُّم مهمة جديدة. وهذا يبرز الحكمة القديمة “التمرين يؤدي للغتقان”.
ويشير ميشيو كاكو لكتاب الاستثنائيون لصاحبه المؤلِّف مالكولم غلادويل، وبعد دراسة على مؤلفين موسيقسسن ولاعبي كرة سلة وروائيِّين ومتزلِّجي جليد وعازفي بيانو ولاعبي شطرنج ومجرمين محترفين وما إلى ذلك خرج بقاعدة أنَّ عشرة آلاف (10000) ساعة تكفي في أي مجال لتصل للفرد بالأستاذية في هذا المجال.
وينتقل ميشيو كاكو لنقطةٍ أخرى توضِّح مدى صعوبة تطوُّر الذكاء؛ وهو عدم اتفاق العلماء على كيفيةٍ لقياس الذكاء ويبيِّن الانتقادات الموجَّهة لاختبارات “IQ” الحالية وعدم توافقها مع خبرات الحياة. ويطرح بعد ذلك محاولات تطوير الدماغ والتي استلهمها العلماء بدراسة حالات خاصة، مثل حالة جمجمة السيد زد الذي اخترقتها رصاصة في سن التاسعة ولم تقتله غير أنَّها أحدثت ضررًا بالغًا في الجانب الأيسر من دماغه سبَّب شللًا للجانب الأيمن من جسمه تاركة إيَّاه أصم وأبكم بشكل دائمٍ، إلَّا أنه وجد تأثيرًا جانبيًا غريبًا وهو زيادة قدراته الميكانيكية وذاكرته. وأضف إلى ذلك وجود حالة أخرى عام 1979 م عندما ضُرِب صبي في العاشرة من عمره يدعى أورلاندو سيريل بواسطة مضرب ليفقد وعيه، وقد شكى بعد ذلك من آلامٍ شديدة في رأسه، وسرعان ما أصبح يقوم بعمل حسابات رياضية ملحوظة واكتشف أنَّه صار يمتلك ذاكرة شبه فوتوغرافية يستطيع حساب تواريخٍ منذ آلاف السنين حتى المستقبل.
ويذكر ميشيو كاكو وجود مائة حلقة موثَّقة من العارفين الفائقين ويضاف لهم بعض مرضى التوحِّد. ويركِّز بعد ذلك على حالة الاسبيرغر والتي هي شكل أخف من التوحُّد. فهم لا يتفاعلون إجتماعيًا بشكلٍ جيد كمرضى التوحُّد ومع ذلك وجد لجزء منهم مهارات عارف متميَّزة. ويشكُّ العلماء في اصابة نيوتن وبول ديراك “أحد مؤسِّسي ميكانيكا الكم” بهذا المرض، لاسيما نيوتن الذي لم يكن قادرًا بصورة مرضية على إجراء حديث قصير.