مراجعة موجزة حول فيلم Pi

النسبة التي صنعت قالبًا فنيًا مميزًا وعجزت في البحث عن السعادة

مما لا شك فيه أننا نتفق على أن العمل السينمائي بغض النظر عن سويته وجودته هو ليس فقط حالة إلهاء رائعة، بل هو مادة دائمًا ما تحمل قيمة إنسانية وجب التطرق لها على مختلف الأصعدة وبمختلف البيئات والطرق الفنية. وإن كان هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يرون بتلك الحاجة لحالة التحليل النقدي لأي عمل فقد وجب التنويه إلى أن الغاية من الدراسة دائمًا تكمن حول إضاءة الجوانب المظلمة التي لا يستطيع أحيانًا المتلقي استيعابها والوصول إليها من خلال مشاهدة العمل فقط.

يحتاج التحليل بغض النظر عن سويته إلى قراءة معمقة جدًا بالتفاصيل التي يخلق من خلالها العمل وأنا لست بصدد جعل هذا التحليل تحليلًا أكاديميًا ضخمًا يصعب فهمه. إنما حاولت تقديم مراجعة موجزة نوعًا ما لإضاءة بعض الأفكار المجهولة حول صناعة هذا العمل وخلقه كعمل فني سينمائي يمكن الوثوق به كقيمة فنية وإنسانية بآن معًا.

فيلم Pi

هو الفيلم الطويل الأول للمخرج الأمريكي المولد دارين أرنوفسكي تأليفًا وإخراجًا، شأنه شأن العديد من الأفلام التي أخرجها أرنوفسكي لاحقًا والتي أثارت في معظم الأحيان العديد من التساؤلات حول كمّ القيم والمعاني التي يحاول أرنوفكسي طرحها من خلال أعماله التي لاقت غالبًا ردود أفعال سلبية من قبل أوساط الفن والنقد خصوصًا والجمهور عمومًا.

المخرج دارين ارنوفيسكي

تم إنتاج الفيلم عام 1998 بتمويل شبه شخصي تقريبًا من قبل المخرج نفسه وبدعم من المنتجين إريك واتسن وسكوت فوجل، حيث ساهم كل من الممثل شون جولليت والمنتج إريك واتسن في إعداد قصة العمل إلى جانب المخرج أرنوفسكي.

حول قصة فيلم Pi:

إن البصمة الخاصة لمخرج كل عمل سينمائي دائمًا ما تحمل جانبًا مظلمًا أو جزءًا لا ينفصل عن معاناته الشخصية أو تجاربه السابقة التي تركت بداخله أثرًا ما، بحيث يقر في أعماله حول ما يسمى بسببية العمل والطرح وهي الترجمة الخالصة لمجموع المآلات والنتائج التي توصل إليها بعد خوضه غمار التجربة وهذا كله مرتبط بالعوامل النفسية والعقلية وحتى الجسدية.

إعلان

يسعنا الآن أن ندرك كيف استطاع أرنوفسكي أن يترجم أفكاره التي تراوده أو تجاربه التي مر بها من خلال خلق الشخصية المحورية في دهاليز العمل ككل وهي بالنسبة لنا حسب أقل تقدير تمثل بكل وضوح العقل الواعي لشخصية أرنوفسكي ذاته، وهذا العقل الواعي إذا ما أردنا اكتشافه نستطيع فقط أن نتابع سيرورة العمل التي تجري من خلال شخصية ( ماكس كوهين ) والذي قام بتأديتها الممثل ( شون جولليت )…

ماكس كوهين في فيلم pi

يجسد ( ماكس كوهين ) شخصية عالم رياضيات يعاني من اضطرابات نفسية معقدة واختلالات من شأنها أن تجعل منه عالمًا شديد الحساسية ، إنطوائيًا، غير متوازن أو متناغم مع البيئة المحيطة ككل، مما يدفعه بشكل حثيث للسعي جاهدًا لإثبات العديد من القضايا الرياضية التي تحاكي صنعة الكون والطبيعة البشرية والتي من خلالها يسعى للوصول إلى ما يسمى بالسعادة الحقيقية المطلقة.

( ماكس كوهين ) غارق كليًا بعالم الأرقام والنسب ضمن مختبره الفوضوي، بحيث تحيطه مجموعة من الحواسيب التي يعمل عليها، بحيث يمكن للمشاهد الشعور بذاك الضيق بمجرد الولوج إلى عالم ( كوهين ) الخاص، و كأننا هنا نقبع داخل تلافيف دماغه المضطرب الذي هو ربما دماغ أرنوفسكي نفسه.

ما يمنحنا رؤيةً أكثر وضوحًا حول هذه القضية بالذات هو كمية الأقفال المستخدمة على باب المنزل، و الرهاب الاجتماعي الخاص ب ( كوهين ) والواضح بشكل لا يخفى على أحد من خلال تعامله اليومي مع الأفراد في الوسط المحيط.

كما قلت سابقًا نلاحظ كيف أن ( كوهين ) منجذب كليًا لعالم الأرقام والتفسيرات الرقمية التي كانت تدفعه بكامل قواه وقناعاته لإثبات أن مصدر القيم في الحياة هو جذورها أو نسبها الرقمية الرياضية مستندًا بذلك على العمليات الحسابية النابعة من التحليل الرياضي للنسبة الذهبية ومتتالية فيبناتشي الشهيرة.

الانسلاخ الأول:

يستهلّ (كوهين) التعريف بنفسه من خلال كتابة ملاحظات يومية في أوقات أقرب ما تكون إلى حالة تزامنية أي تعتمد التكرار في الأوقات نفسها من كل يوم تقريبًا.

المثير للاهتمام أنه يستهلّ التعريف بنفسه دائمًا وبشكل مكرر من خلال تذكير نفسه بالعصيان الأول و بشكل أوضح عندما حذرته والدته من النظر إلى الشمس عندما كان في سن السادسة من العمر.

لكنه خالف هذا الأمر ونظر إلى الشمس حتى أصيب بعمى جزئي لفترة طويلة إلى أن استعاد بصره مع الوقت. هنا تجدر الإشارة أنه رمز بذلك إلى فكرة المعرفة التي عبر من خلالها عن الشمس.

هذه واحدة من الثيمات التي تتكرر دائمًا في أعمال أرنوفسكي.. فكرة العصيان والعقاب المقابل لذلك.

شيء ما يذكرنا بقصة طرد آدم وحواء من جنتهما التي كانا يقطنانها، لكن هنا يشير ( كوهين ) إلى الوالدة فقط وإلى الأوامر التي صدرت عن أم، عن أنثى، ما يعني برمزية محددة توجه أرنوفسكي للطبيعة الأم التي هي مصدر كل شيء محتمل في هذا الكون.

ما قبل التصادم:

يطغى على العمل وبيئته لونان واضحان (الأبيض والأسود وتدرجاتهما المتفرعة) يقوم من خلالهما أرنوفسكي بوضعنا أمام خيار يشير به إلى أحلامه الغامضة أو هواجسه غير واضحة المعالم.

ويشير من جهة أخرى إلى تمازج طاقتي الين واليانغ المعروفتين منذ القدم، ويمكن للمشاهد أن يلاحظ دلالات هذين اللونين من خلال العديد من تفاصيل العمل وتراكيبه التكوينية.

نلاحظ هنا في طريق (كوهين) نحو أحد المقاهي كيف يسلط المخرج الضوء على مجموعة من الأشخاص في مقدمة الشاشة يمارسون اليوغا أو التأمل الصباحي في إحدى الطرقات العامة.

نلاحظ كذلك أن هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى ثقافة آسيوية بالمجمل ( موطن البوذية والهندوسية ).

إذا يشير أرنوفسكي هنا إلى أن مقدمة الوعي هي حالة من التسامي أو التأمل الروحي الذي يمكن أن يخلق التوازن الحقيقي في النفس البشرية وهذا ما يتم الإشارة إليه حاليًا من خلال التطورات الحاصلة على مستوى التنمية وقوانين الوجود والتفسيرات المختلفة لفكرة لماذا نحن هنا؟

التصادم الأول ( الدين ):

في إحدى المقاهي يلتقي (كوهين) برجل دين يهودي بحيث يعلن الفيلم لنا عن الصدام الحاصل بين العلم والدين بشكل دائم وجميع النقاشات والاحتمالات الممكنة التي تخلص إلى نتائج من شأنها أن تحقق شمولية الدين وتفوقه وقوة العلم ورؤاه المتنوعة حول تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية وما بعدهما بمراحل عديدة.

يمكن ملاحظة تقارب الجانب الديني من الجانب العلمي من خلال نقاش رجل الدين مع ( كوهين ) حول علم الأرقام الذي يتضمنه كتاب التوراة وتفسير كوهين لذلك من خلال مصفوفة فيبناتشي الشهيرة.

إذًا ببساطة يمكن الإشارة حسب منهج أرنوفسكي إلى أن التصادم بين الدين والعلم هي حالة تشابك حاصلة بينهما باتفاقهما حول العديد من القضايا.

التصادم الثاني (الحكمة):

في مستوى أعلى من مستويات العمل ينتقل المخرج بنا للقاء شيق يحدث بين (كوهين) ومعلمه السابق الذي قضى سنوات طويلة في البحث عما يبحث عنه الآن (كوهين) لكن دون جدوى.

ومن خلال جلسة بسيطة بين المعلم وبين (كوهين) يمارسان من خلالها لعبة (جو) المعروفة والتي تعتمد على ارتصاف محدد لمجموعة من الأحجار المتماثلة بالحجم بحيث يعنى كل لاعب بلون خاص به مع العلم أن اللونين الخاصين بالأحجار هما الأبيض والأسود كذلك.

تعتمد اللعبة بشكل بسيط على إغلاق المساحة التي لا تفسح للخصم بالتمدد و الانتشار بأحجاره على رقعة ال (جو) وهكذا.

يستطيع المعلم الحكيم من خلال سرده لقصة أرخميدس وزوجته التي دفعته دفعًا ليستحم ذلك اليوم وعندما دخل حوض الاستحمام استطاع أن يكتشف نظريته الشهيرة حول قاعدة الانغمار، أن يلفت انتباه ( كوهين ) إلى ضرورة وجود الأنثى بحياته وحاجته قبل كل شيء إلى الحب.

يحصل ذلك عندما يسأل المعلم ( كوهين ) حول سر أرخميدس.. فيجيب كوهين بأنه لابد للحل أن يأتي يوما.. يجيب المعلم هذا خطأ.. خطأ.. السر هو زوجته.. نعم زوجته التي دفعته للاستحمام وهذا كل ما في الأمر.

إذًا تشير الحكمة إلى طريق الخلاص من خلال السلام الداخلي وانبثاق الحالة الإبداعية من خلال الحب المتمثل بوجود الآخر ومدى تأثيره علينا. ( يمكننا تذكر صدى صوت الأنثى القادم من خلف جدران مختبر كوهين و كأنها تناديه لينتبه ).

التصادم الثالث (الاقتصاد السياسي):

عن طريق أحد ممثلي الحالة الاقتصادية في مجتمع تحكمه أصلًا الحركة الاقتصادية السياسية، تتم ملاحقة ( كوهين ) ومراقبته بشكل دوري بحجة إجراء مقابلة معه وتقديم يد العون له من شهرة ومال

.

نلاحظ حالة الرفض الشديد من قبل كوهين لهذه الفكرة بإشارة منه إلى أن غرضه من دراساته وبحوثه هو شيء أعمق و أبعد بكثير من مجرد حالة مادية.

يتم إخضاع كوهين للأمر الواقع ( الحالة الماديه ) عن طريق تقديم رقاقة تساعده في تطوير بحثه و الوصول إلى التنبؤات الرقمية حول البورصة والأسهم وحركة التعاملات التجارية في البنوك والشركات المالية الضخمة.

نستطيع القول هنا أنه لا يمكن للحالة العلمية إلا أن تسير بخط موازٍ تمامًا للحالة الاقتصادية بالوقت الراهن والتي من شأنها أن تبسط البحث العلمي وتدفع بالعالم إلى مستوى بحثي دقيق يستطيع من خلاله الوصول إلى ما يصبو إليه من نظريات ونتائج من شأنها أن تفك جميع الرموز الرقمية وأن تمنح كافة الإجابات عن التساءلات الكبيرة بخصوص الواقع والكون والوجود.

إذًا الحركة العلمية مرهونة بالحركة الاقتصادية ومتشابكة معها إلى حد ما.

الحقيقة:

لنتخيل فقط أن شخصًا يقف أمام المرآة يقوم بثقب دماغه بواسطة ( آلة الثقب ).

ماذا يمكن أن يمنحكم هذا التصور من دلالات؟؟؟

سأفسر ذلك في الفقرة القادمة…

خلاصة:

يمكن القول مما سبق ذكره بشكل موجز أن أرنوفسكي خلق بيئة غرائبية من خلال طرحه لواقع فكري مميز بأسلوب رمزي لا يخلو تمامًا من الصورة المركبة والمبسطة بنفس الوقت للحالة السينمائية.

إذ لا يمكن مناقشة التكوين في الصورة السينمائية للعمل لأن أرنوفسكي اعتمد المشهدية أو الصورة العقلية الذهنية وليس الصورة التي تحاكي الجانب المتمثل بالأيقونة أو الرمز المباشر المركب.

وهنا يسعني القول إن هذه التراكيب كأسلوب ( سهل ممتنع ) قادرة على منحنا العديد من النقاط والخلاصات التي سأشير إليها على الشكل التالي:

. الحل دائمًا موجود بداخلنا

. الحل دائمًا هو الحب ( ليس البحث عن الحب ) إنما عيش الحب بتفاصيله كاملة.

. الإنسان كائن متقوقع على ذاته وهو الإله المسؤول عن خلق عالمه والتورط به.

. ليس مهمتنا كبشر فك الرموز الكونية والرياضية الخاضعة لقوانين الطبيعة بل التماهي مع الطبيعة الأم بِحُبّ.

. الطبيعة جعلت الإنسان كائنًا فضوليًا عندما طردته من جنتها ولم تخضعه لقوانينها.

. أحيانًا يكون السر الأعظم أو سر النسبة الثابتة العظمى هو أنثى بجوارك.

. عندما يهدأ الذهن وتصمت الأفكار يزول الألم وتصبح الرؤية أوضح.

. تُفهَم الطبيعة من خلال التعايش معها فقط.

. يُفهَم الله من خلال طرد كل الأفكار الدينية وغير الدينية حوله.

. أعداء الطبيعة الأم هم الاقتصاد السياسي والدين.

فيلم pi

يسعني القول الآن من خلال النقاط السابقة أن تلك اللحظة التي يقرر فيها كوهين ثقب دماغه مستخدما ( آلة الثقب ) من خلال مشهد رمزي جلي هي اللحظة الفاصلة التي تحقق ولادة جديدة للعالم المضطرب، هي حالة نزوح كلي نحو السلام الداخلي والخلاص من عذابات كثيرة كانت تلاحق ( كوهين ) على مدى سنوات.

يوضح لنا أرنوفسكي أنه عندما غير نمط تفكيره ووضع التفسيرات التي من شأنها أن تفقده السيطرة على نفسه جانبًا استطاع التوصل إلى حقيقة ما.

هي أنه ليس بحاجة إلى فلسفة عظمى لتجيب له عن كافة التساؤلات الضخمة التي تدور برأسه.

كان فقط عليه أن يثقب دماغه وأن يخرج من قمقمه ليتأمل الطبيعة بما فيها.

كانت تلك اللحظة لحظة سعادة عظمى، التماهي مع الوجود وتقبله كما هو، والتأقلم مع المحيط وعيشه بما فيه من اختلافات وأدمغه.

إذا هل حقا استطاع ( كوهين ) الذي يمثل دماغ أرنوفسكي من الحصول على السعادة الحقيقية والحب الحقيقي من خلال تحقيق ذلك الإنجاز العلمي عندما استخدم مفتاح النسبة الذهبية.

نستطيع القول كلا…لقد كانت السعادة الحقيقية شيئًا أعمق على بساطتها ووجودها، هي حالة داخلية روحية يحققها الحب النقي وتأمل الوجود بأبعاده المعقدة والبسيطة.

أخيرًا:

حاول أرنوفسكي إسقاط كافة المدارس والمذاهب الفلسفية التي عنت بالتفسيرات العظمى للكون و الخلق وصولًا لأدق التفاصيل في حياتنا اليومية.

وأراد بدوره أن يخلق مدرسة فلسفية من نوع آخر مختلف تمامًا وهذا ما سنتركه دائمًا كرأي وفكرة يعنى بها المشاهد على حسب الكم المقبول من الجوانب الفنية والقيم التي أثرت به أثناء مشاهدته للعمل ككل.

اقرأ أكثر عن هوس الأرقام في فيلم Pi

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: المقداد الحسين

تدقيق لغوي: ندى حمدي

تحرير/تنسيق: دعاء أبو عصبة

اترك تعليقا