مذابح التاريخ: هيجل والمتطرفون الراديكاليون
مقالة كُتبت في أعقاب هجوم قام به متطرف يميني في النرويج عام 2011.
لماذا يجب أن تذكرنا الهجمات الأخيرة في النرويج بالخطر الكامن وراء الكلمة السياسية؟
إن الفصل بين ثنائية الأقوال والأفعال بشكلٍ يقيم بينهما علاقة ارتباطية هو أمر قديم قدم التاريخ نفسه، ابتداءً من الإسكندر الأكبر وقراءته للإلياذة، والتي يُفترض أنها ألهمته لغزو العالم، وصولًا إلى الصورة المزعجة لكتابات نيتشه وهي تلهم أوهام هتلر المجنونة عن عصرٍ آريٍّ جديد. ونجد مثالًا أكثر إيجابية في بحث أبراهام لينكولن عن الإلهام في إنجيل الملك جيمس وفي أعمال شكسبير لفهم طبيعة السياسة.
ينبغي أن يُقرأ السياسيون في هذا السياق على أنهم رجال أفعال (بما في ذلك الراديكاليون). وقد لخص ليو شتراوس هذه الأزمة بإيجاز في كتابه “مقدمة في الفلسفة السياسية” حين قال بأن كل كاتب سياسي يتحمل بعض المسؤولية عن الأفعال السياسية قدر ما يتحمل الفاعل السياسي -كفرد- المسؤولية عن أفعاله:
بمعنى ما فإن كل استخدام سياسي لنيتشه هو تشويه لتعاليمه. ومع ذلك، فما قاله قد قرأه السياسيون وألهمهم. فمسؤوليته عن الفاشية هي بصغر مسؤولية روسّو عن اليعقوبية. لكنّ هذا يعني أن مسؤوليته عن الفاشية هي بكبر مسؤولية روسّو عن اليعقوبية.
إن مدار الأمر هو بالطبع تأويل الكلام. فلا يحتاج الراديكاليون السياسيون إلى التدقيق في آلاف الصفحات من نص فلسفي للتوصل إلى استنتاج بشأن أي ضائقة سياسية متخيلة؛ إذ إن تطرفهم الضيق يدفعهم إلى بتر كلمة أو عبارة مفردة -وحبذا لو اقتطعت من سياقها- يمكن إدخالها ضمن نظرتهم المشوهة إلى العالم لتبرير العنف.
نرشح لك: ما هو التاريخ؟ لم يعطنا أحد إجابة أكثر عمقاً من إجابة هيجل
وقد جاء في تقرير صدر مؤخرًا عن مؤسسة RAND، بعنوان «صناعة التطرف بين الربط والتنوع: اتجاهات الإرهاب الحالية في أوروبا»، أن عملية صناعة التطرف في أوروبا، لا سيما بين المسلمين الأوروبيين، تحدث بشكل فردي يقوم فيه الوعّاظ الأصوليون والمحاربون القادمون من مناطق صراع مختلفة ومشرفو المواقع الإلكترونية الراديكاليّة بدور عوامل صناعة التطرف؛ فليس هناك نهج تنازلي متماسك لتجنيد الإرهابيين سواء أكانوا إسلاميين أم يمينيين. ومن ثَمّ فإن الأفراد هم المحور الذي تتمركز عليه عملية صناعة التطرف، وذلك بتعزيز من التكنولوجيا الحديثة ودعم من قراءات غير منقحة، وهاويةٍ في الغالب، للنصوص ينتهي بها المطاف إلى تبرير الذبح الجماعي «عقلانيًا».
على سبيل المثال رأى الفيلسوف المثاليّ جورج فيلهلم فريدريش هيجل في القرن الثامن عشر أن محركات التغيير التاريخي تلطخ «مذبح التاريخ» وغالبًا ما تكون عرضة لسوء التفسير (ليس معنى ذلك أبدًا أن الإرهابيين العاديين يقضون وقت فراغهم في التعلم من هيجل). إن التجربة الفكرية القائلة بأن فلسفة هيجل المثالية قد تُفضي حقًا إلى نتائج سياسيّةٍ عنيفة ربما تُعد متطرفة. لكن هيجل قد يكون الرسول المؤثر للفوضى السماوية، كما يشير جون دواير:
كان التاريخ من منظورٍ ما مذبحًا. حيث رأى هيجل أن الحرب، فضلًا عن بعدها عن أن تكون حجة للإلحاد، جزء من الخطة الإلهية. فلا ينبغي للمرء أن يفكر في الأمر بأنها جيوشٌ تقاتل بعضها البعض، كما قال هيغل. بل ينبغي للمرء أن ينظر إلى المجتمعات المتحاربة على أنها تجسيد للأفكار المتصارعة. كانت الحروب هي ساحة القتال في الصراع بين الأفكار، وضمن هذا الصراع الجدلي فازت الفكرة الأكثر تقدمية في النهاية.
وكون هذه «الفكرة» قد جرى القتال حولها في الغالب بوسائل عنيفة يبدو منطقيًا في ذهن هيجل عند النظر إلى محصلة التاريخ البشري. وبالاستشهاد بهذا الاقتباس عن هيجل، مقتطعًا من سياقه بالطبع، من السهل أن نميز الطابع الراديكالي لبعض عباراته:
ويستتلي هذا القول بأن الفعل الوحيد للحريّة الكليّة هو الموت، وفي واقع الأمر هو موت لا مدى داخليًا له أو امتلاء، ذلك أن ما هو منفي هو النقطة غير المتحققة للذات الحرّة المطلقة. وعليه فإنه الموت الأكثر برودة وسطحيّة، ولا يمتلك أي دلالة أو أهميّة تزيد عن قطع رأس نبتة كرنب، أو عن بلع شربة ماء.
لعرض الأمر بصورة مبسطة، يقول هيجل إن كل ذلك ضروريّ: التفاصيل البشعة اليومية جرّاء «العمل الرهيب للسلبية»، وفهم «مكر العقل»، والرغبة الإنسانية في إشباع الرغبة. على الأقل فإن قراءة سطحية للمقطع أعلاه ستخرج بهذا الاستنتاج.
«المكر» الهيجلي في هذا السياق هو تعبير عن نظرة ترى «العقل» على أنه الأثر الكلي أو المحصلة الكلية لكل التمثلات الفردية للعقل التي يُظهرها الإنسان في مسار الحياة البشرية (حتى في الهجوم الإرهابي الحالي في النرويج)؛ فالعقل باعتباره قوة محايدة «يعرف» كيف يوجه الإنسان في فهمه لروح المطلق كعملية تاريخية منطقية.
قد تكون الاستعانة بالتشبيه مفيدة لفهم هذه النقطة الدقيقة: إن الفيروسات تتصرف كما لو أنها تمتلك عقلًا جمعيًا. فمن المعروف أن مقدار الحدة التي تظهر بها يتناسب طرديًا مع مقدار تركيز العوائل البشرية. حيث سيقتل الفيروس عددًا أكبر من الناس إذا كان «يعرف» أنه لا يحتاج إلى العائل ليبقى لفترةٍ أطول لأنه يمكنه أن ينتقل بسهولة إلى عائل جديد. وقد أظهر التاريخ أن الفيروسات تبدو وكأنها تتصرف بشكل جمعي وتغير من منطقها في العمل ومن تركيبتها الفيسيولوجية استجابةً للظروف.
لذلك أيضًا فوفقًا لهيجل يبدو أن العقل يملك ذهنًا خاصًا به، ذكاءً أو مكرًا يشقّ طريقه بأي ثمن. من الذي سيظن أن المذابح الجماعية في الثورات أو الإرهاب أو قتل الأبرياء سيكون جزءًا من خطة العقل لتحقيق التاريخ البشري؟ إن رؤية «طريقة» العقل -أو «مكره»- هي واحدة من تلك الرؤى التي لا تظهر إلا للمراقبين الفطنين، بحسب هيجل في نهاية التاريخ. وبمعنى غريب يمكن تفسير هذه المأساة في النرويج كمثال آخر على مكر العقل هذا وكتأكيد إضافي على «مذبح التاريخ» الذي لا مفر منه حيث يؤدي فيه شخص مثل «بريفيك» ذلك الدور المشوه لنائب الرب.
لكن هذا الفكرة وحدها لها تأثير تمويهي رهيب، يجعل المرء يستدعي إلى ذهنه استجابة الجنود في مسرحية الملك هنري الخامس لشكسبير عندما اتُهم بالتورط في قضية غير عادلة:
الطاعة الواجبة علينا للملك تمحو عنا كل إثمٍ ينجم عنها»! وبمعنى ما فإن كل هذا التفلسف يُعيد المرء إلى المنصات القضائية في محاكمة نورمبرغ عام 1946. لا ينبغي أبدًا التذرع بسلطة عليا لتبرير قتل الأبرياء. وسواء أكان هيجل مازحًا أو ساخرًا أو متنبئًا، فتلك عدة أفكار لاحقة محتملة بشأن تفسيره الغريب للعقل. إن الكلمات ليست إلا ما نفسرها به؛ وفي النهاية علينا تحمل مسؤولية ما نفعله وما نقوله على حد سواء.
اقرأ أيضًا: ما بعد الاستعمارية في مسرحيات شكسبير