مدرستي…بين راعٍ وذئبٍ.

مدرستي.. من واجبي أن أكون ممتنّة لها، بحسب ما يقول المجتمع، “فمن علّمك حرفًا كنت له عبدًا”، لكنّني ممتنّة إلى قلّة من المعلّمين لا تساوي قدر حفنة من أصابع يد طفل، كمعلّمة الفيزياء التي كانت تحفّزنا على تنفيذ اختراعاتنا الخاصّة في الصّف فتنمّي بذلك المخيّلة والمنطق، ومعلّمة البيولوجيا التي كانت تأتي بأعضاء حقيقيّة (كالرّئتين والقلب) لتثبت لنا النظريّات فلا تبقى مجرّدة، ومعلّم التّاريخ الذي كان يشرح الدرس على شكل مسرحيّات نتسلّى بتحضيرها وعرضها (لكنّه لم يصمد أكثر من سنة في عواصف الإدارة المتكلّسة)، ومعلّم اللغة العربيّة الذي كان بمثابة أبٍ لنا يهتمّ بمنحنا دفقًا ثقافيًّا حياتيًّا ويصغي إلى آرائنا ويعرض علينا المقالات والصّور الفنّيّة في الصّفّ لمناقشتها على الأصعدة الإنسانيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة والنفسيّة، فيقرّب المادّة من واقعنا واهتماماتنا، ويزرع فينا الحسّ النّقديّ.

مدرستي أعطتني العلم لكنّني نسيته، ولم أستبق غير ثقافة اكتسبتها من الأحداث على أرض الملعب، مدرستي يفترض أنّها صوّبت تفكيري ومنهجته، لكن لا، بل الكتب التي كنت أحارب ضيق الوقت لأقرأها بدلاً من الدّرس هي ما فتّح براعم ذهني، مدرستي شجّعتني على الإبداع، بالطّبع لا، بل حدّتني في أسطر وأرقام صفحات، لم تطلق لخيالي العنان إلّا الأفلام التي كنت أضيّع عطلتي بمشاهدتها، مدرستي درّبتني على حرّيّة الرّأي والتّعبير، لكنّها قمعت لساني وطبّقت شريعة الغاب، فكان القويّ يأكل الضّعيف، والغنيّ يذلّ الفقير، والذّكيّ يستهزئ بالأقلّ منه ذكاءً (بنظره)، وكان الحاكم يدين البريء ويمنح الحقّ للتّعنيف الجسديّ كما المعنويّ.

مدرستي سجن ومحكمة جائرة، قضاتها ديناصورات بائدة، ومحاموها أموات يتغذّون على الأدمغة، وحرّاسها عضلات تفتّش التّلاميذ قبل دخولهم إلى الصفّ عن أيّ غرضٍ حادّ -كالمعرفة والوعي- قد يؤدّي إلى مطر نيزكيّ يبيد تلك الحقبة، غطاءات من السّوليفان المذهَّب تخدع الأهالي وتعزّز ثقتهم بالمؤسّسة التّربويّة، تمامًا كالذّئب الّذي طلى وبره بالأبيض ومشّطه وقلّم أظافره ليفتح له صغار “العنزة العنّوزيّة” باب بيتهم فيلتهمهم، مدرستي ذئبٌ أكل الجدّة ولم يكتفِ، فارتدى ثيابها ونهش ذات الرّداء الأحمر من دون ندم، وعندما سألوه استنكر فعلته وظلّ حرًّا طليقًا يعيد الكرّة مُكتسِبًا ثقة الشّعوب النّيام.

أقساط ترمّد بنيرانها الأخضر واليابس، يطالب بها الرّاعي الصّالح لتطبيق مناهج من العصر الحجريّ، تقدّم علميّ صوريّ، مظاهر تكنولوجيّة كالسّراب تخدع النّفس بالتّطوّر السّطحيّ لواحة خضراء بِرْكتها غير نافذة إلى مياه العقل الجوفيّة، والأهالي يرزحون تحت ثقل تأمين مستقبلٍ لأولادهم، والتّلاميذ يرزحون تحت الحشو الفكريّ والإرهاق الجسديّ، ومدرستي كأخواتها ما زالت تشحذ المال من خلال النّشاطات بحجّة مساعدة الفقراء على دفع أقساطتهم، بينما تكدّسها كي يحشو المسؤولون بطونهم ويشتروا السّيّارات والهواتف الخلويّة ويذهبوا إلى النّادي الرّياضي وينجبوا ذئابًا صغارًا في أنحاء البلد كلّها لضمّ أكبر عدد ممكن من الخراف تحت جناحهم، فيعتصرونها كثعبان البيثون ويبتلعونها كاملةً، فإلى متى تستمرّ تلك المهزلة؟ وإلى متى تنطلي كذبة المفترس على الفريسة؟

وقد يعجبك أيضًا: التعليم إلهامٌ لا معلومات فحسب..

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: هبة يزبك

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا