ما هو اللاشيء ؟
محطاتٌ في فيزياءِ الكم؛ الجزءُ الثاني.
تتبعنا في الجزء الأول من المقال (من مصباح أديسون إلى قطة شرودنجر) نشوء الأفكار وتطورها في فيزياء الكم، وفي هذا المقال نستعرض مفهوم اللاشيء الفيزيائي بشيء من التفصيل.
استخدم الفيزيائيون عبارات دارجة؛ في الفلسفة أو اللغة المحكية للتدليل على مفاهيم جديدة في الفيزياء تم التوصل إليها؛ تدريجيًا يختفي المعنى الأصلي للكلمة، بينما تضع الفيزياء ختمها الأخير لتتبنى المعنى بشكل رسمي.
مفهوم كلمة (الفراغ) في الفيزياء الكلاسيكية كما في الفلسفة؛ كان يدل على مكان خاوٍ لا يحوي شيئًا ولا توجد به أيّ فعالية أو “حياة”، ولكن فيزياء الكم وضعت يدها على المصطلح لتغيّر معناه؛ وفقًا لما تمليه التجارِب عليها، كثيرًا ما أصبح يُستخدم عبارات مثل (كون من لاشيء) أو (اللاشيء يحوي شيئًا)، فما هي الحقيقة التي أضيفت إلى هذا المفهوم بعد فيزياء الكم؟
الطبيعة لا تكره الفراغ
كبداية ليس هُناك عدم محض في الوجود _جُملة ” ليس هُناك عدم” متناقضة منطقياً مع ذاتها_ فالطبيعة تكره (الفراغ) كما كانوا يقولون، ولكن العدم أو الفراغ الفيزيائي في معناه الحالي ليس العدم الذي قد يتبادر للذهن باستخداماته الفلسفية أو الشعبية، الفراغ في فيزياء الكم يعج بـ”الحياة”، وبحالةٍ دائمةٍ من ولادة الأجسام واندثارها، وعلى الرغم أنه مبدئيًا خاوٍ تمامًا إلا أن نظرية الكم تسمح بحسب مبدأ اللايقين؛ المتعلق بالطاقة والزمن، بإنتاج طاقة كبيرة لزمنٍ قصيرٍ جدًا.
فكيف يُمكن أن يحوي الفراغ طاقة؟
مبدأ الريبة للزخمِ والموقِع يقولُ بِعدَمِ إمكانيةِ معرفةِ موقِعَ جُسيمٍ ما (كمّي، ذرّي) وكميةِ حركته (زخمه) في آنٍ واحد وبدقةٍ بالِغة؛ فإن عُرِف المَوقع تماماً ظلّت كميةِ الحركة مجهولةٌ والعكس بالعكس.
ولهذا لابُدّ للجسيمِ من الارتياب والرجفان في درجةِ الصفر المُطلق، إذ إنه لو كان في حالةٍ من الركودِ التام لعَرفنا موقعه، وكمية حركته في آنٍ واحِد وبدقة، لننقض بذلك مبدأ الريبة.
ومن هذا المبدأ يُشتق قانون طاقة الفراغِ الكمّي الصِفرية، وهي أقلُّ طاقةٍ يُمكِن أن توجد في نظامٍ فيزيائي ميكانيكي كُموميّ، وهي طاقة الحالة القاعديّة. يُسمى النظام الفيزيائي الميكانيكي الكمومي الذي يحتوي على هذا القَدْرِ من الطاقة بـ “حقل نُقطة الصفر”.
يخبرنا مبدأ اللايقين للطاقةِ والزمن أنه لا يُمكن قياسَ الطاقةِ والزمنِ بنفسِ الدقةِ في آنٍ واحد، لذلك إذا أردنا أن تأكُد من انعدام الطاقة في حيزٍ ما من الفضاءِ يوجب الاستمرار الأبدي في قياسِها، والاستمرار الأبدي يعني استمرارية في الزمن، إذن على طول الزمن تكونُ طاقة الفراغ = صفر، وهذا يعني أننا قِسنا الزمنَ والطاقةَ بنفسِ الدقةِ وهو ما يتناقَضُ مع هذا المبدأ.
لماذا هناك لا دقة في العالَم الكمومي؟
هل نستطيع أن نجعل للجسيم صفات موجيه يعني نُلصِق الصفات الموجية (و التي من أهمها الإنتشار) بالجُسيم ؟ أي تمويج الجُسيمات ؟
كما قلنا سلفًا، وصف النظام الكمومي بأنه يسلكُ سلوكين، موجي وجُسيمي.
الموجة تتميز بأنها مُمتدة في الفضاء (المكان) و بأنها في حالة تغير دائم مع الزمن، أما الجُسيم يتميز بأنهُ مُتحيز (متموضع) في المكان و بأنهُ ثابت مع الزمن.
فالموجة بصورة عامة؛ لا يحدّها حدود عكس الجسيم، و هي تتمظهر بصفات الانعكاس والتداخل والاستقطاب؛ بينما تتميز الجسيمات بأن لها زخماً، تنقل الطاقة عبر انتقالها في المكان، يُمكن أن تتبادل الطاقة مع بعضها البعض عندما تتصادم.
إذن هل يمكن تمويج الجُسيمات أو تجسيم الموجات؟
تحييز الموجات؛ يتم ذلك بجعل موجة تنبض داخل حدود، وصنع موجة واقفة منها. والموجة الواقفة هي أبسط أنواع الموجات المُتحيزة، وهي تداخل الموجة مع ذاتها بسبب ارتدادها عن حدود.
ولذلك فكّر الفيزيائيون بأن الجُسيم الكمومي يمكن أن يكون موجات مُتداخلة ومتراكبة على بعضها، ففي العالم الكمومي فإن الجُسيم عبارة عن كبسولة موجات (Wave packet)(أي هو مجموعة كبيرة من الأمواج تتداخل فيما بينها لتعطينا الكيان الجُسيمي).
يكون الجسيم عبارة عن مجموعتين من الأمواج(انتبه الجُسيم عباره عن مجموعتين من الأمواج)، مجموعة ذات تردد عالي وطول موجي قصير وتسمى ؛موجة الطور، و المجموعة التي تُمثّل الغلاف الذي يغلف موجة الطور وتسمى موجة المجموعة(الزمرة)، كما هو موضح بالصورة (الموجة الزرقاء هي موجة الطور و الموجة التي تحويها أو تغلفها هي موجة المجموعة)
إن سرعة موجة المجموعة =سرعة الجسيم، وهي بالضبط ما يقصدهُ ديبرولي بالتعبير عن الجسيم بموجة، أما موجة الطور فهي أسرع من سرعة الجسيم ولكنها تتذبذب داخل موجة المجموعة و لا تخرج عنها.
حينما جعلنا الجُسيم المُتحيز (الذي لهُ زخم) جعلناه موجة (التي تنتشر ) فإننا قُمنا بالتضحية في الجُسيم وصفاته، حيث جعلناه موجة والموجة جسّمناها. إذن سنُضحي بمعرفة إحدى الصفتين فإما نعرف الزخم للجُسيم ولا نعرف موقعه لأنه سيكون مُنتشراً كالموجة أو نعرف موقعه ولا نعرف زخمه لأنهُ يكون مُتحيزاً.
إذن كلما ازدادت الدقة في معرفة زخم الجُسيم (وكأنهُ جُسيم هُنا) تزداد عدم الدقة في معرفة الموقع (وكأنهُ موجه هنا) والعكس بالعكس.
إذن تغيّر مفهوم الجسيم إلى مفهوم آخر، وإن معرفتنا به لا تتم بصورة كاملة، ليس لنقص في معرفتنا بل لأن طبيعته هكذا.
الطاقة تولّد الجسيمات
نظرًا لتكافؤ الطاقة والكتلة المُعبَّر عنه بعلاقة آينشتاين E=mc2 (الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربّع سرعة الضوء)، فيجبُ على طاقةِ الخواء (الفراغ) أن تكون قادِرةً على تكوينِ جُسيماتٍ تَبرزُ إلى الوجودِ وتَختفي بعدَ هُنيهةٍ، يُحدِدُها مبدأ اللايقين، أي يُمكنُ للنظامِ الكمّي الحُصولُ على قرضِ طاقة من طاقةِ الفراغ وتكوين جُسيماتٍ بشرطِ أن تُعيدها خِلالَ مُدةٍ زمنيةٍ قَصيرة جِدًا، تَتحددُ مُدّة قرض الطاقة بكميةِ الطاقة فكُلما ازداد مِقدار الطاقة وجبت إعادتهُ في زمنٍ أقل، وسندخل في تفاصيل هذه الجسيمات بعد قليل.
ظاهرة التقلّب الكمّي وطاقة كازيمير
حالةُ الإنعدامِ التام؛ (الفراغُ التام) لأي طاقة في الحقلِ الكَمَي حالةٌ غير مُستقِرةٍ فيزيائيًا، تنشأ بِفعلِها ظاهرة التقلب الكمي أو الاهتزاز الكُمومي(التقلّب) وهو تغير مؤقت في كمية الطاقة المُختزنة في نقطة ما من الفضاء.
فالفَراغُ الكمومي ليس عَدماً محضاً، فهو يحتوي، بفعل ظاهِرة التقلب الفراغي الكمومي -على جُسيماتٍ تأتي الى الوجودِ لتلبث لفترةٍ مُتناهيةٍ في الصِغر، ثُم تَذهب، مٌرَجِعَةً طاقتُها إلى الفراغ.
ومنه جاءت طاقة كازيمير؛ وهي قوة ناجمةٌ عن الفَراغِ الكُمومي، مُقاسة تجريبيًا لكن أصلها هو القُوة الكهرومِغناطيسية فهي ليست قوة مُستقلة.
أثبت العالِم كازيمير: وجود طاقة الفراغ بتجربة فكرية تقول أنه لو تخيلنا أن هناك لوحان متقابلان بينهما حيز بسيط من الفراغ؛ فطبقًا لمبدأي هايزنبرغ سالفي الذكر، فإنه ستتولد جسيمات افتراضية عديدة فى هذا الحيز الصغير. وبعض هذه الجزيئات سوف يصطدم باللوحين من الداخل مما يسبب نوعًا من الضغط يدفع اللوحين عن بعضهما.
الجسيمات الافتراضية المتولدة تخضع أيضًا لنظرية الكم، والطول الموجى للجسيمات الافتراضية المتولدة لا بد وأن يتناسب مع طول الفتحة الصغيرة.
خارج هذين اللوحين تتولد أيضًا جسيمات افتراضية بنفس الكيفية السابقة وترتطم باللوحين من الخارج وتضغطهما معًا باتجاه بعضهما. لكن بما أن الحيز المكاني الموجود فى الخارج أكبر منه في الداخل فإن عدد الجسيمات المتولدة فى الخارج أكبر منها من المتولدة فى داخل الفتحة حيت يسمح الفضاء الأوسع بأطوال موجية أكثر.
فتكون المحصلة حركة صافية للوحين باتجاه بعضهما! وهذا ما حصل بالفعل في التجربة المعملية. ذلك يعني أن كمية الطاقة في رُقعةٍ منَ الفَراغِ يُمكِن أن تَتَغيرُ بسببِ المادةِ المُحيطة بها.
الكون من اللاشيء
إذن الفراغ يحتوى على كميات هائلة من المادة الافتراضية، بل العجيب أن كمية الطاقة الموجودة في الفراغ لا نهائية. فكمية الطاقة الموجودة في الفراغ الموجود تحت فتحة الباب في غرفتك تفوق كل الطاقة التى نستطيع أن نولّدها من كل محطات التوليد النووية فوق الكرة الارضية.
إذن، فاللاشيء ليس عدمًا بل هو حالةٌ كُموميةٌ تتميزُ بأنها الحالةُ ذاتِ الطاقةِ صفر أو بصفةٍ عامة ذاتُ الطاقةِ الاقل، فيُمكن أن يخلو الزمكانِ من المادةِ والإشعاعاتِ، ومع ذلك، يبقى مُحتويًا على طاقة مُخزنةٍ في تموجاتِه.
التموجاتُ الكميةِ العشوائيةِ قد تكونُ ذاتيةِ النشأة في زمكانٍ مُسطّح، فارغ وخالٍ مما يُميّزه. ( وقد تكونُ هُنالك أسبابٍ لها لا عِلم لنا بها).
أما العدم المحض فالموضوعُ مُعقدٌ بعض الشيء، العدم هو مكانٌ لا وجود لمعلومات بداخله أي لا تقلباتٌ كُموميةٍ فيه، وهذا غير مُمكن فيزيائياً. لأن وجود الفراغ(كما أسلفنا) يسلتزمُ تموجاتٍ كمومية.
الكون يُمكن أن ينشأ من اللاشيء الفيزيائي وليس اللاشيء الفلسفي (العدم المحض) هذا إن كان الأخيرِ موجوداً فعلاً. كيف يحدث ذلك؟
اقرأ أيضًا: من اللا شيء وحتى الإنسان.. كيف وصلنا إلى هنا؟
قلنا أن الفراغ ليس فراغًا بل يحوي على بحر هادر من الطاقة الفراغية و التي ينتج عنها – بفعل مبدأ اللايقين – تقلبات في الطاقة (تأرجح في قيمها من مكان إلى آخر)، في اللحظة التي ينتج هذا التأرجح الكمي طاقة عالية في مكان ما، تتحول هذه الطاقة بفعل مبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة لآينشتاين بحيث “ينبثق” عنها جسيمان، جسيم وجسيم مضاد (particle and antiparticle) التي تسمى بالجسيمات الافتراضية أو الوهمية (virtual particles)، لأنهما ينشآن لزمنٍ قصيرٍ جدًا ومن ثَمّ يندثران، بحيث لا تشغل تلك الجُسيمات حيّز في الوجود الواقعي (ليس الخيالي) .
هل تصبح الجسميات الخيالية حقيقية؟
حتى تتحول تلك الجُسيمات من وجودها الخيالي إلى وجودها الواقعي يجب أن تتوفر قوة هائلة .
تلك القوة تتمثل بأحد القوى الأربعة المعروفة (نوويتين قوية وضعيفة، كهرومغناطيسية، جاذبية) .
لنفس السبب قال العالِم ستيفن هاوكنج، حينما تتوفر الجاذبية يُخلَق الكون، لأن الجاذبية تجعل الأجسام الخيالية؛ حقيقية. وذلك لأن قوة الجاذبية تعمل على مط الزمن وجعلهُ يستطيل، لذا فبدلًا من أن تلبث تلك الأجسام زمنًا قصيرًا جدًا ، ستلبث بفعل الجاذبية زمناً كبيراً، والمتمثل بزمن الكون هذا.
قوة الجاذبية كما نعرف هي انحناء أو تشوه نسيج الزمكان. فحينما يستطيل المكان، أي يمتط نسيج الزمكان، فإن الزمان أيضًا يستطيل، أي يتمدّد، لذا ستتمدّد فترة بقاء الجُسيمات في الكون أكثر و أكثر بفعل الجاذبية.
بهذا يمكن للكون أن ينشأ من اللاشيء، ولكن يجب أن لا ننسى أنه يجب أن تتوفر قوة أخرى توفّر قوة الجاذبية .
رُبما أن إلهًا وضع إبهامه في نسيج الكون ليُقعّرة مُنتج بذلك الجاذبية، أو قوة أُخرى خارج الكون لا نعلَم بها.
نرشح لك: حكاية الجاذبية والكون
ملاحظة، المصادر موجودة في الجزء الأول من المقال