ما بين الأحناف والصابئة

(صراع الجسماني وَالروحاني)

يطـرح (أبو الفتاح الشهرستاني) في كتابه “الملل وَالنحل” مقابلة مُهمة ما بين من أسماهُم (الصابئة) وَمن أسماهُم (الأحناف)؛ فالطائفة الأولى “روحانية” وَالثانية هي “الجسمانية”؛ وقد أظهر لنا أن الطائفة الأولى أهل (الصبوة) كـ (هراطقة، Heterodox) وَ(عُباد أصنام، Idolaters) لذلك أعطى معنى كلمة (صبوة) أي مال وزاغ؛ ولا يخفى أن الشهرستاني يقصد بالصابئة (الغنوصيين، Gnostics) الباطنيين الشيعة والإسماعيلية الخطابية والقرامطة على وجه الخصُوص، وأن (الأحناف) هم الصفاتية التابعون لسلف أهل السنة والجماعة؛ وهذا الصراع وريث المسيحية التابعة للكنيسـة الجامعة وهم (قويمي الإيمان، Orthodox) وطوائف (الهراطقة، Hairesis) والتي كانت من الدرجة الأولى صراع على طبيعة المسيح هل كانت (جسدانية) أو (روحانية خالصة)؟

من الطائفة الأولى قال “أغناطيوس الأنطاكي” عن طبيعة المسيـح:

(يسوع المسيح من نسل داوود، ابن مريم، وُلد بالحقيقة، أكل وشرب وتألم بالحقيقـة على عهد بيلاطس البنطي، صُلب حقًا ومات ..) (١).
أما الطائفة الثانية هراطقة الفرق السرية الباطنية المسيحية قالت بـ (الدوسيتيه، Docetism) والمسيح (كيان روحاني نقي، Dii Angelii) وهُو بدا أنه وشُبّه للناس أنه يأكل ويشرب وأنه تألم وصُلب لكن لا حقيقة لكل ذلك بل كُل أفعالهُ أقرب للخيال، وأن الجسد هُو نتاج الخطيئة فكيف للروح النقية للمسيح تُصبح جسدًا..!

وهذا ما يذكرهُ الشهرستاني فيقُول (الصابئة) قالت لمعرفة الله نحتاج إلى وسيط روحاني لا جسمانـي، لأن (الجسماني، Somatic) بشر يأكُل ويشرب أما الروحاني (لطيف، Subtle) أقرب إلى رب الأرباب واستدلوا بالآية: “وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ”.
أما (الحنفاء) قالوا للمعرفة نحتاج وسيط من جنـس البشر تكُون درجتهُ في الطهارة والعصمة فوق الروحانيات يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية واستدلوا بالآية: “أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ”، و(الصابئة) صاروا إلى هياكل الروحانيات وهي السيارات السبع وبعض ثوابت النجوُم بذلك اتهِموا أنهُم عبدة كواكب وأصنام.

أما الأحناف فهُم ملة إبراهيم الذي كسر مذهب عبادة الكواكـب والأصنام وَ أقر الحنفيـة (الملة الكُبرى) وأخص أركانها التوحيد. ولكن يرد الروحانيون الصابئة في عقيدتهم أن للعالم صانع نعجز الوصُول إليه وهو (إله مُعطل، Deus Otiosus) وإنما نتقرب إليه بـ (وسائط) التي هي (تجليات الله، Manifestations) وهم روحانيون مُطهرون مقدِسون في الجوهر والفعل والحالة وأصلهُم من (الملأ الأعلى، Pleroma) ولهُم وجود سابق عن المادة حيث هُم (صُور مجردة، Pure Images) كانت موجودة كـظلال حول العرش وهُم (مبدأ الوجُود)، إنما هبطوا وأُلبسوا لبس المادة ليخلصُوا الصُور عن الشبكة المادية المُدنسة وقد رُمز لهذا المُعتقد بـ (الحمامة المطوقة) أي (الحمامة) الروح النقية و(مطوقة) في شبكة المادة.

ومهمة الروحانيون المطهرون تحطيم القيد والطوق من عنق الحمامة؛ لذلك جعل الصابئة من (الروح) التي رمزها أنثوي قابلة منفعلة والفاعل هُو المطهر الروحاني الخالص، لذلك أرواحنا ملائكة إناث “وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا”، وبعكس الجسمانيين الأحناف قال الصابئة إن الجسمانيات مركب من (مادة وصورة) والمادة طبيعتها عدمية مُظلمة وهي فانية، أما الروحانية فصورة مُجردة خالصة لذلك قالت الصبوة إن إثبات الكمال في خلع اللباس وهو كقول فاطمة الزهراء: (علماء شيعتنا يخلع عليهُم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهُم، حتى يخلع على الواحد منهُم ألف ألف خلعة من نور(٢)) وذلك بعكس الأحناف الذين قالوا إن إثبات الكمال في هذا اللباس الإنساني. وفي العلم قال الصابئة إن (الروحاني) محيط بالمغيبات والمستقبل والعلوم الكُلية والفطرية، أما الأحناف قالوا إن (الجسماني) معارفهم جزئيـة، انفعالية مُكتسبة (٣)

إعلان

وظاهرية المدرسة الصفاتيـة للسلف عُممت حتى في الرؤية، حيث وقف السلف على (الظاهر) من غير التعرض للتأويل، أي كانت حدودهُم فقط على ظاهر النص دون باطنه، وهذا لهُ الفضل في نمو (علم الكلام) الذي دخل معتركه مذهب أهل السنة والسلف والمعتزلة ردًا على المُبتدعة المنحرفين والمقصُود الشيعة والمانوية وصاروا يستندون في الحجج العقائدية على (الشاهد) أي الظاهر للاستدلال على (الغائب) وهي (استدلالات عقلية) لذلك كان (العقل البياني، Discursive Reason) المُعتمد على الحس والتجربة العدو الأول لـ (الغنوص، Gnosis) الذي هُو خلاقّ باطني واعتمادهُ (الخيال، Imagination) وهي أمُور نفسانية لا يُشار اإيها بالبنان في الخارج.

لذلك اعتمد أهل (الخطاب البياني) من مُعتزلة وأهل السنة على قانون (الأسباب، Reasons) لتعريف التوحيد، بمعنى لكل سبب حادث مُسبب ولا تزال الأسباب تترقى حتى تصل إلى مُسبب الأسباب وهُو الله (٤). وطبعًا هذا القانون يعتمد عقليًا على الظاهر من الأشياء للاستدلال على الغائب المُبطن دون الدخول في عالم الباطن الذي هُو رحلة النفس (تصاعديًا، Anagogical) هبوطًا من العالم السفلي المُظلم وصعودًا إلى العالم العلوي النوراني وهي (تجربـة تحويل، Experince of Transmutation) كما تحويل المعادن من معدن خسيس إلى معدن ثمين لذلك الخيمائي كان باطنيًا؛ فيخبرنا القاضي الإسماعيلي (النعمان بن حيون) أن (الجسد) مركب من برودة ويبوسة و(الروح) مركب من حرارة ورطوبة والجسد ظاهر وتطابقهُ الشريعة المُحمدية.

أما الروح باطن يطابقهُ أهل بيتهُ الأئمة، ويكُوِّن علم الباطن الروحاني عملهُ بـ (النفخ) كما ينفخ النار في المعدن وكون الباطن يرتبط رمزيًا بـ (علي) فهُو من كان ينفخ الروح الحارة على الأجسام الباردة اليابسة بذلك تتغير حالة الإنسان من ظاهر إلى باطن، لذلك قال القاضي نعمان إن مشابهة الأرواح السفلية للأرواح العلويـة فيها ثقـل ومشقة(٥). و(الحرارة) كما عند أفلاطون لا تشتعل بالنفس إلا بـ (الحب، Amour) والذي هُو نار مُقدسة تتلاشى فيها النفس بالعذاب الوجُودي (٦)، بذلك الباطنية سليلة المُعتقدات الشاعرية القديمة التي تجسدت بالحزن والنار وباطن الأرض والهبوط والصعُود من باطن الظلمة والصُعود منها مُحملًا بأزهار الربيع كما قصة (عشتار) و(تموز) و(أدونيس) و(افروديت). في الحقيقة، الربط بين الإلوهية والنار شائعة فـالفيلسوف القبرصي اليوناني (امبيدوكليس، Empedocles) الذي كان يعتقـد بإلوهيتهُ وَ خلوده وأن (الدم) هُو الذي يكمُن فيه (العقل، Nous)، والذي أنهى حياته بإرتدائه نعلين نحاسيين وألقى بنفسـه في فوهة بركان ليحرق نفسـه ويبرهن على إلوهيته الخالدة.

أما المُقنع الخرساني هشام بن عطاء الخيميائي المزدكي القرمطي، الذي قال بإلوهيته أيضًا يُذكر أنه عندما حاصر العباسيـون قلعتهُ أنه أحرق نفس في تنور أذاب فيه النحـاس مع السكر وقد تلاشى واعتقد المؤمنون به أنه صعد الى السماء (٧) (٨).
بذلك كانت (روحانية النار) هي الفاصل ما بين هو جسداني وما بين هو روحاني، وللولوج للجنة وجب عند الروحانيين أن نحرق أنفسنا كطائر الفينق ونحوّل أجسادنا إلى رماد!
زهذا ما كان يخافه الجسدانيون وتعوذوا منه واعتبروه زندقة، فالنار لا تمس إلا الكافرين.

المصادر:
١) علم الأبائيات (باترولوجي)، لـ جوهانس كواستـن.
٢) التفسير المنسُوب إلى الإمام العسكري صفحة٣٤٠.
٣) الملل و النحل، لأبي الفتاح الشهرستاني.
٤) مقدمة ابن خلدون.
٥) أساس التأويل، للنعمان بن حيون التميمي.
٦) المعرفة شرط إنسانية الإنسان، لـ فرتجـوف شيئون F. Shuon
٧) أدونيس و تموز، لـ جيمس فريزر.
٨) الحركات الدينية في إيران في القرون الإسلامية الأولى، لغلام حسين صديقي، ترجمه من الفارسية : د . نصير الكعبي.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا