لماذا تتصرف الجسيمات على هذا النحو؟ ولماذا هذا “النحو” بالذات؟
قد تكون أول الأسئلة التي تخطر على ذهنك عند السماع لأول مرة عن الجسيمات. من يهتم أساسًا بالجسيماتِ متناهية الصغر تلك؟ لماذا يهتم بها علماء هذا التخصص إلى هذا الحد؟
والحقيقة أنها ليست الجسيمات في حد ذاتها المثيرة للاهتمام، بل أشياء أخرى تتعلق بها.
لماذا ندرس الجسيمات دون الذرية ؟
على نفس الوتيرة؛ تخيل أنّك أصبحت مفتونًا بالمدن الرومانية وطريقة تشييدها، مما يدعوك إلى معرفة المزيد عن تاريخ روما. فربما تجد نفسك مفتونًا بتلك الطريقة التي شيدوا بها المباني والقنوات المائية. وبشكل طبيعي، تقفز بشغفك إلى الإعجاب بمتانة أقواسهم الحربية، وأساساتهم الإنشائية. ومن هنا إلى التّمحص في خصائص طوبها ومِلاطها –قذائف الهاون-. وتحديدًا عند هذه النقطة، لا يصبح الطوب والملاط هما ذوا الأهمية، إنما هما ليسا إلا وسيلة لتحقيق غايتك من الإجابة عن الأسئلة في الإطار المجمل: وهو كيفية بناء وتصميم المباني في الحضارة الرومانية، ولماذا بدت لك بهذه الجاذبية منذ البداية، وكيف من الأساس تمكنت من الصمود لكل تلك السنين.
الطبيعة هي أعتق وأقدم الأعمال المعمارية الجذابة. نحن حقًا نعيش محاطين بالعديد من الأمجاد والأسرار. أشجار البلوط، والبراكين، وغروب الشمس النابض بالحياة، والعواصف الرعدية، والرمال التي تملأ الشواطئ.
منذ قرنين من الزمن، استنتج العلماء أنّ هذا التنوع المعماري يمكن أن يُفهم جزئيًا؛ إذا كانت المادة مصنوعة من عدد من الذرات المتباينة “العناصر”، ومن هنا أصبحوا مهتمين بالذرات، والتي هي البنية الأساسية والأولية للطبيعة كما كان مفهومًا لدى العلماء حينها.
على العموم؛ لم تكن هذه سوى البداية فقط، فقد اكتشفوا أنّ هناك العديد من أنواع تلك الذرات مع اختلافات شتى في تفاعلاتها الكيميائية وقدرتها على بعث الضوء.
وفي محاولة لفهم هذا التنوع في سلوك الذرة، توصل العلماء إلى أنّ تلك الذرات تحوي العديد من الأشكال المعمارية من جسيمات أصغر: الإلكترونات التي تحيط بنواة الذرة، والمكمومة في مكانها بملاط القوى الكهربية. وفي النواة نفسها توجد أشكال معمارية أكثر، بالبروتونات والنيوترونات المكمومة بملاط القوى النووية القوية. وعلى مدى الأعوام تُكتَشفُ قوىً أخرى مثل القوى النووية الضعيفة، والتي غالبًا ما تكون قوى هدم أكثر منها قوى بناء.
إن العلم بهذه المستويات الجديدة من البناء، لم يقدنا فقط إلى التفسيرات الكيميائية، وكيفية انبعاث الضوء وكيفية امتصاصه، ولكنه قادنا أيضًا للوصول إلى أسرار أخرى، مثل تكوين النجوم، وغرائب النشاط الإشعاعي، والتوقعات لما تحتويه النواة، والخطر الشاسع لطاقتها. كان نهج الطوب والملاط هو المفتاح لتفسير سرٍ تلو الآخر خلال القرن العشرين.
[بالمناسبة، ما أقوله هنا هو رسم شبه تاريخي، وليس حسابًا تاريخيًا دقيقًا؛ القصة الحقيقية هي، بطبيعة الحال، أكثر ثراءً، وأكثر تعقيدًا، وأبعد بكثير مما يمكن القيام به بشكل صحيح.]
وبحلول الخمسينيات من القرن العشرين، كان من المعروف أنّ البروتونات والنيوترونات لديها العديد من أبناء العم: “الهادرونات” مثلاً كالتي تحمل أسماءً مثل pions، و kaons، و deltas، وmhoon rho، إلخ.
وكان هذا التعقيد علامة كذلك على أن حتى تلك البنايات تحمل تركيبًا معماريًّا جديدًا. وفي أوائل السبعينيات، أصبحت صورة هذه الجسيمات –مثل الأشياء المعقدة المصنوعة من الكواركات والغلوونات- موضع تركيز واهتمام.
يمكنك أن ترى علماء فيزياء الجسيمات، كهؤلاء المهتمين بالهندسة المعمارية للطبيعة على مستوى الطوب والملاط، وقوة التحمل والتآكل. فهم في الحقيقة يتساءلون: ما هي أساسات تلك البناءات؟ وما الذي يجعلها مترابطة أو متفرقة في الأساس؟ كيف يتم تنظيمها بهذا الشكل لنرى هذا البناء الهائل في الكون؟
ابتداءً من الستينيات، نشأ مفهوم مفاده أنّ خواصّ العالم الذي نعيش فيه تتطلب شيئًا ما يجتاح الكون –وهو حقل غير صفري، والذي نسميه حقل هيجز تعريفيًا- الذي يغيّر الكثير من خصائص جسيمات الطبيعة-. وبدون حقل هيجز الخاص بنا، ستنهار هذه البنية التي نراها من حولنا. ولذلك يُعدّ فهم هذا الحقل هو أحد المشاريع الأساسية لعلماء الفيزياء في الوقت الحالي، كما أنه السبب الأساسي لبناء مصادم الهيدرونات الكبيرة (LHC). ما هي الأسرار التي سيتم فتحها في هذه الدراسات –إن وجدت-؟ لا أحد يعلم حتى الآن!
لماذا يبني العلماء “محطم ذرات” عملاق للقيام بهذا العمل؟
حسنًا، دعني أقول أنني أكره مصطلح “محطم الذرات” هذا. فنحن لا نحطم الذرات حتمًا. نحن نحطم جسيمات دون ذرية: بروتونات أصغر 100000 مرة من الذرة. وإلكترونات أصغر 1000 مرة على الأقل من البروتونات فالأمر هنا أشبه بالخلط بين تصادم الكواكب وتصادم ناقلتَي نفط مسرعتين أو رصاصتين!
نعود لنقطتنا الأصلية الآن، لماذا مازال على العلماء تحطيم البروتونات أو الجسيمات دون الذرية للقيام بتلك الأبحاث؟
غالبًا ما يعطي هذا التشبيه لتوضيح عملية التصادم الجسيمي –والذي هو مصطلح أصحّ لعملية التحطيم تلك- أنه يشبه تحطيم الساعات الدقيقة معًا للتعرف على مكوناتها وطريقة عملها من الأجسام المتطايرة، هناك ميزة لهذا التشبيه، لكن هناك شيء مهم جدًا تم إهماله فيه.
إنّ تصادم الجسيمات في طاقة عالية جدًا ليس مجرد عملية تحطيم بقدر ما به من إبداع.
إنها خاصية استثنائية للطبيعة؛ أنه عند وجود الطاقة اللازمة متكدسة في مساحة صغيرة بما فيه الكفاية، أحيانًا يمكن لهذه الطاقة أن تنتج جسيمات لم تكن موجودة مسبقًا من تلك الطاقة. وفي الواقع، هذا هو السبب الذي يحثّ العلماء على العمل على مصادمات الجسيمات تلك.
فتقنية الطاقة المضغوطة للغاية هي التقنية الوحيدة التي تسمح لنا بتكوين جسيمات ثقيلة أو نادرة لم يسبق لنا دراستها أو التعرّف عليها من قبل.
فعلى سبيل المثال، ليس لدينا طريقة أخرى لدراسة جسيمات “هيجز” غير هذه التقنية.
ولذلك، هذا لا يعدّ تحطيمًا لتلك الساعات التي نهتم بها، فنحن نعرف الكثير بالفعل عن الساعات. والبروتونات التي يتم تحطيمها في مُصادم الهايدرونات الكبير، كذلك مفهومة بشكل جيد. فقد تمت دراسة كل تلك الكواركات والغلوونات بشكل جيد بالفعل. لكن كما يبدو أننا نصادم الساعات معًا على أمل أن يظهر لنا الهاتف المحمول متطايرًا من طاقة التصادم.
أقلّ ما قد يقال؛ هو أنّ شرح دراسة الجسيمات بهذه الطريقة قد يبدو جنونًا، لكن الطبيعة غريبةٌ ورائعةٌ حقًا، فمصادم LHC يقوم كل يوم بالحصول على أحد تلك الجسيمات الثقيلة النادرة بالفعل. فمن أجل خلق جسيمات هيجز، وربما ظواهر أخرى غير متوقعة، نضحي بالبروتونات على مذابح مصادم الهايدرونات!
كاتب المقال: عالم الفيزياء النظرية Matt Strassler.