لا لكاتم الصَّوت: ناجي العلي وفهم الصّراع

الأربعاء 22 يوليو 1987م

في الخامسة عصرًا، رسَّام الكاريكاتير الفلسطينيّ ناجي العلي يركُن سيّارته جنوب غرب لندن، يسير على بُعدِ أمتارٍ قليلةٍ باتّجاه مكاتِبِ صحيفةِ القَبس الكويتيّة حيث كان يعمل، مُسلَّحٌ يرتدي سُترةً سوداءَ ويصيبُ ناجي برصاصةٍ في رأسه ثم يغادر بهدوءٍ من خلال ساحة سلون القريبة ويختفي.

كان أندريه مولر، البالغُ من العمر 27 عامًا، العامِلَ في متجر بيتر جونز المجاور لشارع إيفز، من أوائِلِ المودّعين لناجي، حيثُ تمَّ استدعاؤه لمهاراته في الإسعافاتِ الأوّليّةِ: “أحسستُ بنبضِهِ لمعرفةِ ما إذا كان يتنفَّسُ وبَعَد بضع دقائق جاءت الشُّرطة وأخبرتني أنْ أبقى معه”.

بعد خمسة أسابيع قضاها ناجي العلي في غيبوبةٍ على جهازِ دعمِ الحياة في مستشفى سانت ستيفن وقسم جراحةِ الأعصابِ في مُستشفى تشارينغ كروس في لندن، تُوفيّ ناجي العليّ السّاعة الخامسة صباحًا يوم السبت 30 أغسطس 1987م عن عمر 49 عامًا.

ناجي العلي
ناجي العلي

ونُقِلَ عن صديقِ ناجي العلي قولُهُ: إنَّه تمّ تحذيرُهُ من أنَّ حياتَهَ في خطرٍ في مُكالمةٍ هاتفيَّةٍ من أحدِ كِبار أعضاءِ مُنظّمةِ التّحرير الفلسطينيّةِ في تونس، جاءت المكالمة الهاتفيَّة قبل أُسبوعَين من الحادثةِ بعد نشرِهِ رَسمًا كاريكاتوريًّا يُهاجِمُ صديقة رئيس مُنظّمة التّحرير الفلسطينيّة ياسر عرفات، قالَ الصّديق: “كانت رسومُهُ الكاريكاتوريّة ذائعةَ الصِّيت في المُجتمعِ العربيّ”، وأردفَ المُتصِّلُ: “يجبُ عليك تصحيحُ موقفك.. لا تقلْ أيّ شيءٍ ضدَّ الأشخاصِ الشُّرفاء، وإلّا سيكونُ لدينا عَملٌ لإقصائك”، تَجاهَل ناجي العلي التّحذيرَ ونشرَ رسمًا كاريكاتوريًّا يَسخرُ من عرفات نفسِهِ وأتباعِهِ في 24 يونيو / حزيران.

جاء ناجي العلي إلى لندن عام 1985م، وكان مُتزوّجًا ولديه خمسةُ أطفالٍ، قال رئيسُ تحرير صحيفةِ القبس نقلًا عن صحيفةِ لندن تايمز: “إنَّ ناجي العلي تلقّى أكثرَ من مئة تهديدٍ بالقتل على مرّ السّنين، مضيفًا: “أنا لا أعرفُ من يمكن أنْ يكونَ مسؤولًا عن وفاتِهِ لأنَّهُ كانَ ينتقدُ العديدَ من المَجموعاتِ، ولكنْ بسبب الطّريقة التّي تَسيرُ بها الأمورُ في السّياسةِ العربيّةِ، لا شيءَ يُفاجئُني.. إنَّ صحيفتَنا مُستقلةٌ وليست مُنتقدةً قويًّة لأيّ مجموعةٍ مُعيَّنةٍ، لذلك لا أستطيعُ أن أرى أنّ هناك هجومًا علينا لكنّي أعتقدُ أنّ ناجي كان هو المَقصودُ بهجومٍ مُباشرٍ”.

إعلان

كتبَ البروفيسور هشام شرابي من جامعة جورج تاون في مَقالٍ نُشرَ في مجلَّةِ الشّرقِ الأوسط الدَّوليّة (10 أكتوبر 1987م):

“منْ المسؤولُ عن مَقتَلِ ناجي العلي؟ منْ المسؤولُ عن قتلِ عشراتِ الفلسطينيين – كُلُّنا نعرفُ من هُمْ – الذّين دَفعوا ثمنَ حُريّة التّعبيرِ حياتَهم؟ لقد كان صمْتُنا وخوفُنا هو الذّي جعلَنا نَقبلُ دونَ احتجاجٍ تقييدَ الحوارِ الحُرِّ والسَّماحِ للعُنفِ بتحديدِ طريقةِ تسويةِ خلافَاتِنا، لقد أثبتَ التَّاريخُ أنَّه عندما تَخنُقُ حركاتُ التَّحرير الحُريَّةَ تُصبِحُ غيرَ قادرةٍ على القيام بمهمَّةِ التّحريرِ حيثُ يُقدِّسونَ أنفسَهُم ويلجؤون للعُنفِ بشكلٍ أَعمى. هناك درسٌ في مَقتلِ ناجي العلي هو أنَّنا سنفقدُ القُدرةَ على تحريرِ أنفسِنا وتحديدِ مَصيرِنا من دون وجودِ نقاشٍ حُرٍّ غير مُقيَّدٍ، وإلَّا فإنّ إمكاناتِ الإنجاز المُذهلةِ لدى الفلسطينيين في جميعِ المَجالاتِ سيستمرُّ قَمعُها أو إهدارُها بما فيها قدرتُهم على مواجهةِ مشاكلِهم وحلّها”.

ناجي العلي هو أحد أكثر الفَّنانين الفلسطينيين تأثيرًا على جميعِ فئاتِ النَّاسِ الذَّين كانوا ينتظرونَ بفارغِ الصَّبرِ كلَّ صباحٍ رؤيةَ رسوماتِهِ على الصَّفحةِ الأخيرةِ للعديدِ من الصُّحُفِ اليوميَّة العربيَّةِ. كلُّ الرّسومِ الكاريكاتوريّةِ التَّي رسمَها العلي، ظهرت بشخصيَّتِهِ المَشهورةِ المَصنوعَةِ يدويًا – الصّبيّ الصّغير العاري “حَنظلة” الذّي أدارَ ظهرَهُ للعالَمِ وأصبحَ رمزًا وطنيًا طِوَال حياتِهِ المِهنيَّةِ الطّويلةِ، وجاءت الفِكرةُ له عندما كان يعملُ في الكويت  أوائِلَ السِّتينيَّاتِ قائلًا “لقد خلقتُ هذه الشّخصيّة لترمزَ إلى طفولَتِي المَفقودةِ”.

حنظلة، كما ترون، ليس جميلًا ومُدللًا ولا ينعمُ بحياةٍ راغدةٍ، إنَّه حافي القدمين مثل العديدِ من الأطفالِ في مُخيَّماتِ اللَّاجئين، إنَّ كلّ منْ عَرِفوهُ لاحقًا تبنُّوه ومثلّهم هو لمقاومتِهِ وصِدقِهِ وجُرأَتِه، “إنَّه رمزٌ يُراقِبُني ويَمنعُني من الابتعادِ عن وطني، ويداه خلفَ ظهرهِ تشيرُ لرفضِ كلّ الأوضاعِ السَّيئةِ في مَنطقتِنَا”.

اعتُقلتُه الشّرطةُ مرارًا وتكرارًا للرَّقابة، وطُرِدَ العلي من الكويت عام 1985م وانتقلَ إلى لندن حيثُ واصلَ العملَ حتّى أُطلِقَ عليه الرَّصاصُ، وشكَّلت وفاة ناجي العلي نهايةَ حقبةٍ وبشكلٍ فارقٍ بدايةَ الانتفاضةِ في فلسطين المُحتلَّة.

وُلِدَ العلي في قرية الشّجرة بالقُربِ من النَّاصرة عام 1937م، وكانَ وأهله ضحيَّةَ النَّكبةِ عام 1948م. واضطرَّت عائِلتُه  للمغادرةِ إلى مُخيَّمِ عين الحلوة للَّاجئين في جنوب لبنان، بدأ حياتَه الفنيَّة في لبنان أواخرَ الخمسينيَّاتِ باستخدامِ الرَّسم كشكلٍ من أشكالِ التَّعبيرِ السّياسيّ، لقد اعتقلَ مكتبُ جهاز المخابرات اللُّبنانيّة العلي نتيجةً للتَّدابير التَّي تتخذُّها السُّلطاتُ “لاحتواءِ الأنشطةِ السِّياسيَّةِ في المخيَّماتِ الفلسطينيَّة” خلال الستينيّات بسبب رسمِهِ على الجدران، لكنَّه أصبحَ يرسمُ على جدرانِ السِّجنِ.

رأى الرّوائيّ الفلسطينيّ الرّاحل غسّان كنفاني، الذّي يديرُ مجلَّة الحريَّة في لبنان، والذَّي اغتِيلَ في بيروت عام 1971م، بعضَ رسوماتِهِ وشجَّعَهُ على الاستمرارِ ونشرَ له رسمَيْن كاريكاتورِيّين في مجلَّتِهِ.

لقد أثَّرت السَّنواتُ التَّي قضاها العلي في مخيَّم اللّاجئين بشكلٍ كبيرٍ عليهِ، وشَهِدَ هناك القيودَ المَفروضةَ على الشَّعبِ الفلسطينيّ، ما جعلَهُ يقرِّرُ الانخراطَ في السِّياسةِ وخدمةِ الثَّورةِ الفلسطينيَّةِ بكلِّ الوسائلِ المُتاحةِ لهُ، تمَّ تدريبُ العلي في الأصل على العملِ كميكانيكيّ، ولكنَّ حبَّه الأوّل كان الرّسمُ دائمًا، ممَّا قادَهُ للانضمامِ لدورةٍ فنيَّةٍ لمدَّةِ عامٍ في الأكاديميَّةِ اللُّبنانيَّةِ للفنونِ، لمْ يكنْ ذلك إلَّا بعدَ أنْ عَمِلَ في الكويت مُحرِّرًا ومُراسلًا وحتَّى سكرتيرًا في مجلَّةِ الطَّالع الأسبوعيَّةِ.

“تمكَّنتُ من التَّعبيِرِ عن مشاعِري وأفكاري من خلالِ الرُّسومِ الكرتونيَّةِ”: قالَ العلي. غالبًا ما عرَّفَ نفسَه على أنَّهُ واقعيٌّ ومُنتمٍ لطبقتِهِ الاجتماعيَّةِ: الفقراء، وكانت وُجهَةُ النَّظرِ هذه واضحةً في مُعظمِ رسومه الكرتونيَّةِ، قال العلي ذاتَ مرَّةٍ: “أنا شخصيَّا مُنحازٌ لطبقتي منحازٌ للفقراءِ، أنا لا أغالِطُ روحي ولا أتملَّقُ أحدًا، الفقراءُ هم الذّين يَموتون وهم الذّين يُعانونَ معاناةَ، المُناضِلُ الحقيقيّ دائمُ العطاءِ الذّي يأخذ حقّه من الأخرين وليس على حسابِهم”.

لكن عندما عادَ إلى المُخيَّمِ القديمِ في جنوب لبنان، ووجدَ عملًا مع صحيفةِ السَّفير، شعرَ بالفزعِ من تغييرِ المواقف، قال العلي ذاتَ مرَّةٍ: “عندما غادرت المُخيَّمَ ، كان الجميعُ مُتمسِّكًا بشدَّةٍ بفكرةِ تحرير فلسطين كلّها، ولكن عند عودتِي، وجدتُ أنّ النَّاس راضون عن تحرير أقلّ من نصفِهِ”، مُعتبِرًا أنّ السّعي وراءَ المالِ مسؤولٌ عن تغييرِ المبادئ.

خلالَ الغزو الإسرائيليَ للبنان عام 1982م، اضطرَّ العلي  للمُغادرة مرَّةً أُخرى، ولكنْ هذه المرَّةِ على مَتْنِ سُفُنٍ مليئَةٍ بمئاتِ الثُّوار الفلسطينيين، وبعد عدَّةِ سنواتٍ من النُّزوحِ، استقرَّ أخيرًا في الكويت، حيثُ وجدَ عملًا مع الصَّحيفةِ العربيَّةِ البارزةِ ، القَبَس، لكنَّهُ سُرعانَ ما وجدَ ضغوطًا وتهديداتٍ من مجموعاتٍ سياسيَّةٍ مُعيّنةٍ، واضطرَّ  للانتقالِ إلى فرعِ القَبَس في لندن، وكانت خطوته الأخيرة قبل وفاته.

استخدمَ ناجي العلي خُطوطًا وأساليبًا بسيطةً لتصويرِ أفكارِهِ على الورقِ، لكنَّ أعمالَهُ مثلُ أفكارِهِ كانت مُثيرةً للإعجابِ وغير عاديَّةٍ، وفي عام 1992م تمَّ إنتاجُ عملٍ سينمائيّ عن حياتِهِ، حاز فيلم “ناجي العلي” الذَّي ضمَّ المُمثّلَ المصريّ نور الشّريف على إعجابٍ واسعٍ واحترامٍ في  جميعِ أنحاءِ العالَمِ العربيّ.

بعدَ عشرةِ أشهرٍ من إطلاقِ النّار على ناجي العلي ، اعتقلَت سكوتلاند يارد رَجُلًا فلسطينيًّا تبيَّنَ أنَّه عميلٌ للمُوسادِ، وأثناءَ الاستجوابِ، قالَ الرَّجلُ المَولودُ في القُدسِ إسماعيل صوان: أنَّ رؤساءهُ الصَّهاينة في تل أبيب كانوا على عِلمٍ منذُ وقتٍ طويلٍ بالمُؤامرةِ لقتلِ رسَّام الكاريكاتير.

من خلالِ رفضِ الطَّرفِ الإسرائيليّ تزويدَ المعلوماتِ ذات الصِّلَةِ إلى البريطانيّين، وردَّت بريطانيا على ذلك بطردِ دبلوماسيّين إسرائيليّين من لندن، وأغلقت مارجريت تاتشر الغاضبة، رئيسة الوزراء آنذاك، قاعدةَ المُوسادِ في لندن في بالاس غرين لكنْ دونَ أيّ اكتراثٍ، استخدمَ الموساد جوازات سَفَرٍ مُزوَّرة لحكومةٍ غربيَّةٍ أُخرى لإرسال عُملاءها إلى تونس لوضعِ الأُسُس لاغتيال أبو جهاد.

واجه الفنَّانون عبر التَّاريخ خطرَ القَمعِ عندما انتقدَت أعمالُهم السُّلطات أو النُّخبة السّياسيّة. أنتجَ رسّام الكاريكاتير الفلسطينيّ الرّاحل ناجي العلي آلاف الرُّسوم الكاريكاتورية التَّي تقاومُ الاحتلالَ الاسرائيليّ وتسخرُ من القوى الموجودة في الشّرق الأوسط، ودفعَ الثّمنَ النّهائيّ للتّعبير عنه.

لا يزالُ ناجي العلي الفنّان الأكثر شعبيّة في العالم العربيّ، وهو محبوبٌ لدفاعِهِ عن النَّاس العاديّين وانتقادِه للقمعِ والاستبدادِ، ومن المفارقاتِ أنَّ الرَّقابة الصَّارمة والقمعيّة المُنتشرة في العالم العربيّ ساعدته على تحقيقِ نجاحه المَلحوظِ، كما كشفت رسوماتُه التّي لا هوادة فيها عن وحشيَّةِ الجيشِ الإسرائيليّ ونفاقَ أصحابِ النُّفوذ، ممّا أكسبَه العديدَ من الأعداء الأقوياء.

لا نعرف للآن من قتل ناجي العلي، لكنّنا نراهم في رسوماتِهِ التّي تمثِّلُ وعيه السّياسيّ وتُصوّرُ الصِّراعَ “بأنْ ننصب قاماتنا كالرّماح ولا نتعب” وترشدنا للطّريق إلى فلسطين التّي يعتبرها “بمسافةِ الثّورة” وتخبرنا بأنّ الثّمن هو:

“اللي بدو يكتب لفلسطين واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.

مصدر الترجمة

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

ترجمة: أفنان أبو يحيى

اترك تعليقا