كيف يجعل القلق لحياتنا معنى؟
متى أصبح القلق رفيقًا دائمًا لنا؟
لابد وأن هذا السؤال مربكٌ للكثيرين، وليست الإجابة صعبة بقدر ما هي غامضة؛ لأن موضوع السؤال غامضٌ في ذاته. فنحن لا ندرك بوضوح ما الذي يجعلنا نقلق، وحتى لو أدركناه لا نقوى على وضع حدٍ له بالسهولة التي نضع بها حدًا لآلامنا الجسدية. والرغبة بالتخلص من ألم القلق تغدو مُلحةً كلما توغل القلق في حياتنا أكثر، ليجعلنا نقف كمَن أصابه الشلل تمامًا فلا يقوى على الاستمرار ولا حتى بلوغ نهاية ما.
وحين يقلق الإنسان يتفلسف، تارةً ليهرب من قلقه، وتارة أخرى ليجد تفسيرًا أو مخرجًا مما يشعر به، حتى أننا قد نجرؤ على الادعاء بأن الفلسفة في مجملها وليدة القلق، بل كانت ولا تزال ملجأ الإنسان في مواجهة هذا الكون المتقلب، والذي يبدو ثقيل الوطأة في كثيرٍ من الأحيان.
وكثيرًا ما وُفّق الفلاسفة في وصف تلك اللحظة التي تولد فيها القلق لديهم، كما فعل الفيلسوف الانجليزي ستيوارت ميل في سيرته الذاتية حين يقول، “وفيما كانت تهيمن على ذهني هذه الحالة، خطر لي أن أسأل نفسي مباشرة هذا السؤال: لو افترضت أن جميع أهدافك في الحياة تحققت، وأن كل التغيير الذي تنشد حدوثه في المؤسسات وفي الآراء يمكن أن يحصل في هذه اللحظة وفي الحال، هل سيجلب ذلك لك السعادة والفرح العظيمين؟ وإذا بالإجابة تأتي على هيئة وعي ذاتي لا مجال لكبته، “لا!”، في هذه اللحظة شعرت بأن قلبي يغوص في أعماقي؛ فالأساس الذي بنيت عليه حياتي قد تهاوى بالكامل. فسعادتي كانت قائمةً على السعي المستمر لتحقيق هذه الغاية، وعندما يزول سحر الغايات كيف يمكن أن يكون للوسائل أي أهمية بعد ذلك؟ لقد بدا لي أنه ما من هدف أعيش لأجله بعد الآن”.
أطلق ميل على حالته هذه “الأزمة” التي ألَمّت “بحياته الفكرية”، ولكنها كانت على ما يبدو بداية حالة القلق والشك التي لم تنتهِ فيما بعد، “لقد كنتُ آملُ أن تزول هذه الحالة من تلقاء نفسها في البداية، ولكن ذلك لم يحدث. حتى النوم ليلًا، وهو العلاج الأكبر لمنغصات الحياة الصغيرة، لم يكن له تأثيرٌ يُذكر. بل وجدت عند الاستيقاظ أن وعيي تجدد أكثر بهذه الحقيقة المؤسفة”. يواصل ميل الحديث عن هذا القلق الذي سيطر على كل نواحي حياته، فلم يعد يستمتع بقراءة الكتب التي كانت تعينه دائمًا وتحفزه، بل وبات مقتنعًا أن الحب الذي كان في قلبه اتجاه البشرية ومنفعتها قد نفد. وحتى أنه لا يمتلك الشجاعة للبوح لأي أحد بما يشعر؛ لأن الشدة التي أثقلت عليه ليست بالأمر الجلل الذي يمكن أن يُكسبه تعاطف الآخرين.
لعلنا ندرك جميعًا هذه اللحظة التي تحدث عنها ستيوارت ميل، وندرك بشكل أكبر ما يعقبها من ضيق.
ولكن ما السبيلُ إلى التخفف من ذلك؟
يرى شوبنهاور أن الألمَ يكمنُ في الوعي الذي يَفرضُ نفسَهُ بإلحاحٍ وصلفٍ شديدين في كل لحظةٍ من لحظات الحياة، حتى أنه يشغلُنا بالألمِ الحاضر، ويُقلقنا حول الألم الذي قد يأتي في المستقبل. ولا مفرَّ من هذه الإرادة التي تفرض نفسَها على الوعي، فطالما أن الإنسانَ على قيد الحياة فإن وعيه مستمرٌ بكل مظاهِرها، وكلما ازداد إدراكه لها ازداد وعيُه لطبيعتها، التي يبدو جليًا أن الألمَ والمُعانَاة مكونان رئيسيان في تركيبتها.
ومرة أخرى نتساءلُ كيفَ السبيل إلى الخلاصِ؟ لا يمكننا الحديث عن القلقِ دون أن نذكر الوجودي الدنماركي كيركيجورد الذي وضع كتابًا كاملًا عن مفهوم القلق، وها هو يصف لنا ما يعنيه أن تكون قلقًا: “إن الوجود كله يجعلني قلقًا، من أصغر ذبابة فيه وصولًا إلى الغموض الذي يكتنف تجسد المسيح، لا أجد تفسيرًا للأمر برمته…” لِمَ يبدو كل هذا القلق على كيركيجورد؟ بالنسبة له القلق مقرونٌ بالحرية وبالممكن.
“إن تزوجت ندمت وإن لم تتزوج ستندم أيضًا، أنت نادمٌ في كلتا الحالتين.. إن ضحكت على الحماقات التي تراها في هذا العالم ندمت، وإن بكيت عليها ندمت أيضًا، كلتا الحالتين تجعلك نادمًا.. وإذا شنقت نفسك ندمت، لا تشنق نفسك وستندم أيضًا، في الحالتين أنت نادم.. هذه، أيها السادة، هي مادة الفلسفة ومجمل أفكارها”
مفترق الطرق هذا الذي يجد الإنسان نفسه واقفًا عنده في كل حين يجعله فريسة للوعي؛ وعيه بخياراته وقراراته وكل ما ينجم عن ذلك من تبعات. “اسأل نفسك إن كنت سعيدًا” يقول ستيوارت ميل، “وستجد أنك لم تعد سعيدًا”. إن التجريد الذي يلازم الفكر يخلق نوعًا من التناقض في رأي كيركيجارد، لأنك لا يمكن أن تحدد وجودك بالفكر المجرد؛ لأن هذا الفكر يتطلب منك أن تكون موضوعيًا، وهو ما تحتاجه في إدراك الحقائق الخارجية وليس في إدراك النفس، فاليقين الذي به تدرك حقيقة وجودك ليس متعلقاً بحقيقة موضوعية تدركها كما تدرك أن 2 هو حاصل جمع 1+1، بل هي حقيقة شخصية متصلة بملكة الشعور أكثر منها بملكة المعرفة.
وياللمفارقة في أن تكون هذه الحقيقة الذاتية هي أقوى ما يمكن للمرء أن يدركه، وأشد لحظات إدراكها تتمثل في لحظة الموت! إن ما يجعلنا قادرين على مجابهة الحياة والقلق الذي يصاحب خياراتنا فيها هو قدرتنا على خلق وجودٍ ذاتي يختص بكل فرد لوحده، أي أن ننحاز إلى أنفسنا وإلى كل القيم الشخصية التي يمكن أن تجعل وعينا بوجود أنفسنا يزداد، لأننا عندما نضع وجودَنا بإزاء كل ما هو موضوعي ومطلق وخارج عن أنفسنا نشعر أن لا جدوى منه، في حين أننا كلما اقتربنا من وجودنا الذاتي، الذي يمثل أقصى يقين يمكن أن نصل إليه دون أن يساورنا شكٌ حياله، أصبحنا قادرين على المضي في الحياة ومتاعبها بقوة. ولابد أن نسأل مرة أخرى: كيف يمكن أن نفعل ذلك؟
كيف يمكن أن نتعايش مع هذه المخاوف، وكيف يمكن أن نجعل من القلق رفيقًا ننتفع منه بدلًا من أن ينهشنا؟ لقد كان التصور الذي دفع ستيوارت ميل إلى اليأس هو قلقه من أن تكون غاياته النهائية في تحقيق سعادة البشرية وفي خلق مجتمعات مثالية تعني وضع حدٍ نهائي لكفاح الإنسان، الذي لا شك أنه هو ما يمنح هذه الحياة معنى، ماذا عساه أن يفعل لو خلت حياته من المعنى؟ إذن فإن هذا القلق لابد وأن يكون في نقطة ما دافعًا ومحفزًا، ويخبرنا ستيوارت ميل أنه استخلص من هذه الأزمة ما غير نظرته إلى الحياة، فقد توصل إلى إدراك أن السعادة والخير لا يمكن أن تكون غايةً نهائيةً في ذاتها، بل هي أثر مترتبٌ تشعر به أثناء سعيك لغايات أخرى، إنها عرَضٌ جانبي تشعر به حين حدوثه وحسب، كما لو أنه لحظةٌ في الزمان.
أما شوبنهاور فقد كان يبحث عن الخلاص بالفن، إن لحظات الوعي المُلحة التي تُعكر صفو الحياة قد تخفت إن حلت محلها، ولو لوقت وجيز، لحظاتُ وعي بالجمال وبالفن، ولعل هذا ما يفسر حب الإنسان ونزوعه الدائم لاختلاق القصص والحكايات والشعر، إن القلق يساوره من أن يكون هذا الواقع الذي يملأ عليه كل لحظة من وقته غير كافٍ لأن يدرك كل ممكنات الحياة، أو حتى أن يشعر بأهمية وجوده فيها، لذلك يخلق القصص التي يمارس فيها إرادته بحريةٍ تامة، فهو الذي يخلق الشخوص، وهو الذي يُسيّر الأحداث، وهو الذي يجعل النهايات كما يرغب. وإن هذا التحرر هو ما يأسره في الموسيقى أيضًا، لأن ما يشعر به -كما يقول شوبنهاور- هو أنه يستذكر فردوسًا مفقودًا، كما لو أن الموسيقى تذكيرٌ له بتلك الحالة التي كان يعيش فيها حرًا من أسر الإرادة وقسوتها.
إنّ العالم المرئي ما هو إلا وهم فحسب، ولا سبيل لنا إلى التخلص من كابوس هذا الوهم ونير تلك الإرادة غير الفن؛ لأن الفن وحده هو الذي يتأمل العالم حرًا من قيد الإرادة.
أما قلق كيركيجورد فيوصله إلى الإيمان؛ لا شيء سوى الإيمان بمقدوره أن ينقذنا من براثن القلق والحيرة. كلما توجه الإنسان إلى وجوده الذاتي اكتشف حاجته إلى ما هو شخصي، كالأخلاق والقيم الدينية التي تتصل بذاتية الإنسان أكثر من موضوعيته. وبالتالي يحتاج الإنسان إلى الإيمان، يحتاج إلى التصديق بوجود الله، حتى يكون قادرًا على تحمل كل ما في الحياة من القلق الذي ينتج العبثية واللاجدوى والألم والوعي الحاد.
إذن هكذا يمكن للإنسان، وإلى حد ما، أنْ يُصادق القلق، أو يتعايش معه، أو يُسبغَ عليه المعنى. ربما كان القلق علامة على وجوب تغيير البوصلة وإعادة النظر فيما يمكن أن يبقي هذه الحياة متقدة، كأن نعيد رسم غاياتنا، أو السعي إلى مواطن خفية من الوعي لدينا تُحررنا أكثر مما تقيدنا، أو تجعلنا قادرين على اتخاذ القرارات، أو لعله السمة الأكبر التي تجعلنا نعي أننا وقبل أي شيء آخر موجودون!