السعادة في ضوء تجارب علم النفس

تخيّل لو أن “علم الأعصاب neuroscience” قد تطوّر بشكلٍ فائق ونجح العلماء في إنشاء آلة السعادة التي يمكنها محاكاة كل الخبرات التي تجلب لنا المتعة والرضى في حياتنا، وهي محاكاة كاملة للغاية لا يمكن تمييزها عن الواقع، وليس لها أيّة آثار جانبيّة ضارة،فضلا عن انها تتيح لك إعدد متعًا وخبرات تملأ بقيّةَ حياتك، خالية من الالم والحزن.. فقط متعة وسعادة.

ضعْ سلك التشغيل أعلى رأسك، واغرق في بحار من العسل، وطَيب الخمر، والحور العين، وشاهد ما لم يخطر على قلب بشر، وعش مغامرات في غابات إفريقيا، واجنِ سعادة الفوز بجائزة نوبل أو أوسكار، وعش تجربةَ أنك تؤلف قصةً عظيمة، أو تصادق بوذا وتصاحبه. 

تبدو آلة رائعة ، اليس كذلك؟   لكن للاسف لم يخترعها العلم بعد ، لكنها مجرد تجربة ذهنية ابتكرها الفيلسوف الأمريكي “نوزيك روبرت Robert Nozick” ، والذي ري أن معظم الناس سترفض استخدام هذه الآلة؛ لأنهم يفضلون ما “يكابدونه” بأنفسهم للحصول على المتعة والسعادة، ويحسبون أن مثل هذه الماكينة تحول مستخدميها الى مجرد صورة باهتة من الإنسان بمعناه الحقيقي، فقط يصبح مجرد طيفٍ يسبح في تيار كهربائي . وعلى أيّة حال ، إلى أن نخترع أي آلة مماثلة لتحقيق السعادة فإنّ المخ البشري يقوم بدورٍ مشابه -وإن كان أدنى من خيال نوزيك الجامح.

المخ صانع السعادة  والحزن: 

على مدار عدة ملايين من السنين زاد متوسط حجم المخ البشري ثلاث مرات،كنتيجة اسساية لتكون “الفص الجبهي frontal lobe” من المخ، ومن الوظائف المهمة للفص الجبهي تولي المهام الخاصة بالإدراك والذاكرة،وكافة العمليات التحليلية،فضلا إمكانيّة التخيل والشعور بالخبرات المختلفة التي لم يمر بها الشخص في حياته كأنه ممثل يُجري “بروڤات” على دور سيمثله في العرض الجديد. وكما يمكن للطيارين أن يعايشوا أوضاع طيران مختلفة على أجهزة محاكاة الطيران الحديثة ومن ثم قياس ردود أفعالِهم إزاء المواقف المختلفة، فنحن نمتلك جهازَ محاكاة داخلي يتيح لنا المرور بمواقف مختلفة واستدعاء المشاعر المرتبطة بها “فكريًّا” قبل أن تَحدث،فأنت لا تحتاج مثلًا أن تتذوق مشروبًا غازيًّا بطعم الكبدة لتشعر بالقرف؛ فعقلك قادرٌ على تصور هذا. 

تمكنّا هذه القدرة العقلية على توقع المشاعر والعواطف التي ستملأ صدورنا في المستقبل سواء كان بعد دقيقة او عقد من الزمان استجابة لاحداث بعينها مثل تحقق امنية او فقدان عزيز، لكن المشكلة ان العقل يبالغ في توقعاته لحجم هذه المشاعر خاصة السلبي منها، وذلك لانه عند تحقق الحدث المستقبلي ( او عدم تحققه)  يقوم العقل نفسه بتخفيف حدة الاثر النفسي بشكل مخالف لكل توقعاتنا. والغريب انه احيانا يكون حجم الرضا والسعادة التي يشعر بها  الشخص في حالة تحقق حدث ما او عدم تحققه متساويا بعد مرور فترة قصيرة كأنه لافرق بين الحدثين، كما يتضح لنا في التجربة التالية.

إعلان

تجربة أصحاب الحظ وأصحاب المرض:

قارنت دراسة أجراها البروفيسور “جوناثان هايدت “Jonathan Haidt (أستاذ علم الاجتماع وصاحب كتاب فرضية السـعادة the Happiness Hypothesis) بين مستويات السعادة عند الفائزين بجوائز “يانصيب lottery” من فترة قريبة وبين أشخاص أُصيبوا بالشلل، ولاحظت الدراسة أن الفائزين باليانصب كانوا دون شك أكثر سعادةً في الأمد القصير، لكن مع مرور عدة أشهر تبيّن أن المجموعتيّن من الأشخاص عادوا إلى نفس مستوى شعورهم بالسعادة الذي كانوا يشعرون به قبل الفوز باليانصيب أو الإصابة بالشلل. 

لكن لماذا أحزاننا أكثر من سعادتنا؟  

اعتمد أجدادُنا من البشر في بقائهم أحياء على قدراتهم  على إدراك الأخطار ومن ثَم تطوّرنا بشكل يجعلنا نستيجيب فسيولوجيًّا وعاطفيًّا بشكلٍ كبير للأشياء السلبيّة أكثر من الأشياء الجيدة، فبمجرد أن نستشعر أن هناك ما يهددنا  نشعر بالقلق والتوتر والخوف فنفزع ونهرب. أما  عندما نفرح حينما يتحقق لنا شيءٌ نريده أو نحصل على شيء فإن ذلك لا يُحقق نفس القدر من الانفعال والاستجابة فنفرح -فقط- قليلًا؛ لأن الفرح نفسه ليس له داعٍ وقد حصلنا بالفعل على مبتغانا، ولا يُمثل حافزًا مباشرًا لخطوة أًخرى، فكل ماعليك أن تفعله هو النوم بعدما أكلت لحم الغزال الذي تمنيته، أما رد الفعل في حالة الخوف فيمثل حافزًا قويًّا للهرب، وربما بناء تحصينات واتخاذ مزيد من الاحتياطيات تدفع عنك هذا التهديد إذا تجدد، ومن هنا كان القلق والخوف والحزن أهم في حياة البشر كحافز. ونُسمي في علم النفس هذه الآلية من التفكير “الانحياز للسلبي Negativity bias “.

لماذا إسعاد زوجتك أصعب من إتعاسها؟

لاحظ علماء النفس أن المرأة أكثر وقوعًا في فخ “الانحياز السلبي” حيث تولي أهمية أكثر لما يُحزن ويؤلم، وربما يرجع هذا لأهميّة الشعور بالخطر  والإسراع في الاحتماء من أي تهديد حفاظًا على نفسِها ونفس أطفالها الذين يحافظون على استمرار حياة جنسنا البشري كله، ويفسر هذا أيضًا عدم رغبتها في المغامرة وخوفها من الخسارة مقارنةً بالرجال. وقد قَدرت بعض تجارب علم النفس أن أي فعل يقوم به الرجل فيلحق بالزوجة ضررًا نفسيًّا أو جسديًّا يحتاج على الأقل خمسة أفعالٍ جيّدة لإصلاح ما أفسده الزوج.

آلية التبربر العبقرية تمنحك السعادة مهما كان اختيارك : 

هناك نوعان من السعادة: طبيعيّة نستخلصها من مواقف حقيقيّة إيجابيّة في حياتنا، وسعادة مصطنعة تُمثل نوعًا من الدفاع عن الذات التي تُصور للشخص أن وجوده أفضل مما هو عليه فعليًّا. والسعادة المصطنعة هي شعور تنتجه عقولنا كتعزيز ومكافئة لنا عندما لا يتحقق ما نرغبه أو إذا لم  نحصل على ما نريده أو لتبرير اي اختيار نقوم به والفرح و تثمين ما نحصل عليه. ومن اشهر تجارب علم النفس التي برهنت على مدي قدرة العقل على تبرير أي اختيار يقوم به الشخص و الرضا والفرح بما نختاره مهما كان تجربة لوحات مونيه التالية:

تجربة لوحات مونيه 

يرى “دانيال جلبرت Daniel Gilbert” (أستاذ علم النفس بجامعة هارڤارد، وواحد من أكثر الباحثين شهرةً على مستوى العالم في موضوع السعادة، ومؤلف كتاب “التعثر في السعادة  Stumbling on Happiness”) أنّ الرأي القائل بأنّنا سنغدو تعساءً إنْ لم نحصل على ما نريد، أو إنْ ألّمت بنا كارثةٌ ما (كفقدان البصر أو الإصابة بالشلل مثلًا) ليس صحيحًا؛ tبعد فترةٍ سنتجاوز تلك الكارثة ولن يُحدِث الأمر التأثيرَ الذي نتخيله بل ستُمضي حياتك كأنّه لم يحدث شيئًا. إذًا فالعقل قادرٌ على تحسين أي اختيار قمت به وتخفيف حدة أي موقف.

ولقد اجري جلبرت تجربة قام فيها بإحضار ستة  لوحات لمونيه -غير أصليّة بالطبع- وطلب من كل فرد من المشاركين تصنيفها من وجهةِ نظره حسب درجة جمالها أو تفضيله لها، وبعد ذلك أخبر جلبرت الأشخاص أن لديهم في المخازن نسخاتٍ إضافيّة من اللوحة الثالثة والرابعة ويمكن للمشارك أن يأخذ إحداها بعد انتهاء التجربة. وقد اختار أغلب الأشخاص اللوحة الثالثة بسبب ميل الناس للأرقام الأصغر. وبعد مرور فترة من الزمن -يمكن أن تكون خمس عشرةِ دقيقةً أو خمسة عشرِ يومًا- نُعيد التجربة على نفس الأشخاص ونطلب منهم أن يُعيدوا ترتيب اللوحات “وأخبرونا أي اللوحات تفضلون أكثر؟” مالذي حصل؟ رتب  الأشخاص اللوحة التي اختاروها (وذهبوا بها إلى منازلهم) في مرتبة أعلى. هذا يعني أنّ المخ قد برر أي اختيار قمت به، وثمّن درجة الإشباع التي حصلت عليها والرضى والسعادة في مستوى أعلى، فَعل هذا لتشعر بالسعادة حتى لو كان الجميع يعرف أنك اخترت اللوحة الأقل جمالًا، عقلك سيصنع لك السعادة سواء اخترت الثالثة أو الرابعة وسيُخبرك دومًا أن اللوحة التي اقتنيتها أفضل مما كنت تظن في السابق وأن تلك التي لا تمتلكها أقل جمالًا ولا تبدو جيدة! هكذا يصنع العقل السعادة والرضى.

أفضل آداء لصانع السعادة  

إنّ نظام المناعة النفسي يعمل بأفضل ما يمكن عندما نكون في وضع مزرٍ أو مأزق كبير أو مصيبة وعندما يكون الفارق كبيرًا في الحدثين، فلا وجه للمقارنة مثلًا بين بقاء الأُم حيّة وبين وفاتِها، ومجرد تفكيرك أنك ستفقد أُمك يجعلك تتصور أنّها لحظة قد ينتهي عندها التاريخ ولن تتجاوزها، لكن هنا يتدخل صانع السعادة ليُذهب عنك ويأخذ بيديك لتعبر هذه الكارثة. خذ مثلًا الفرق بين الخطوبة والزواج! أفترين يا ابنتي أنتِ في أول موعد مع خطيبك على العشاء، ولكنك تلاحظين أنه يلعب في أنفه بشكل مقزز.. في أغلب الأحيان أحسب أنّك قد تعيدين التفكير في أمر ارتباطك به، بينّما إن كنتِ متزوجةً بهذا الذي يلعب بأنفه فإنك ستتجاهلين ذلك لأن صانع السعادة سيخبرك آنذاك أن زوجك صاحب قلب من ذهب! 

الخلاصة 

يبالغ الناس كثيرًا فيما يجعلهم سعداء بناءً على تخيلاتِهم الشخصيّة فتجد مثلا زوج وزوجته يشعران أن قمة السعادة تكمن في إنجاب الأولاد ولو لم يرزقهم الله تَرى البيت تعيسًا حزينًا، والحقيقة المرة التي قد يكتشفها هؤلاء الأزواج بناءً على خبرات كل الآباء الذين يقابلونهم أن الأولاد ليسوا مصدرًا للسعادة بالحجم الذي يتصوره الأزواج دون أطفال، بل في الغالب هُم مصدر هَمٍ كبير. ومن ثَم فإنّ الدرس الذي يجب أن نتعلمه هو التوقف عن شعورنا بأننا متفردون وأصحاب خبرات تتمايز وتختلف عن الآخرين، وعليك أن تتوقع أنّ ما ستشعر به هو ما شعر به الآخرون من حولك.
ودعني أُبشّرك أنه سواء فقدت بصرك أم هجرتك زوجتك أم توفي والدك أم رسبت في الثانويّة العامة أم لم تحصل على الترقية التي تسعى إليها من سنين فكل هذه المآسي التي ستملأ حياتك بحزن لا ينتهي ستؤثر عليك بشكلٍ أقل حدة ولمدةٍ أقل بكثير مما توقعت، وعقولنا  تدافع عن حياتِنا بآلياتٍ كثيرة تشبه نظام المناعة الداخلي، فلا تحزن إن عقلك معك.



إعلان

مصدر Stumbling on Happiness The Happiness Hypothesis محاضرة دانيال جيلبرت
فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا