كيف وصل ريتشارد قلب الأسد لعرش إنجلترا؟
?How did The Lionheart win the English throne
لم يكن طريق ريتشارد الأول لعرش أكبر ممالك أوروبا سهلًا؛ فبين ثلاثة من الأخوة ينازعونه على مكانته، إلى أب يعد أقوى رجل فى العالم، يرفض التنازل عن عرشه، وسلسلة من التمردات والحروب الأهلية قادت الطريق، وأعداء متربصين بالمملكة الفسيحة، كان الحظ والإقدام إلى جانب الشاب الصغير ريتشارد، الذي أثبت أحقيته خلال التمرد، ووصل أخيرًا إلى الجائزة الكبرى بعد عناء من أجلها، قبل أن يبدأ مسيرة أشهر ملك في تاريخ إنجلترا.
بداية التمرد والحرب الأهلية:
في نهاية عام 1172، أراد الملك هنري الثاني والد ريتشارد إنهاء الخلاف الداخلي، وقطع الطريق أمام أعدائه والساخطين على حكمه، أن يستغلوا الشقاق الداخلي بين أبنائه، بعد أن تحرر مؤقتًا من الجدال الخطير مع رجال الدين ومع الفاتيكان، بعد حادثة مقتل الأسقف “توماس بيكيت” عدو الملك، وكان قد وصل إلى ذروة عظمة الإمبراطورية وسعادته كحاكم على رأس تلك المملكة العظيمة، وأراد أن يكون سعيدًا بنفس القدر في منزله، ومنع خطر خلافته المتنازع عليها، وقمع كل ادعاءات البارونات والنبلاء الطموحين، كما أن رغبة الملك في إقامة فروع عديدة لعائلته، قد هددت بنشر الغيرة بين الإخوة، لذلك قرر تقسيم المملكة بين الأبناء فى حياته، ولكن خطته انقلبت عليه فى النهاية.
قام الملك بإعطاء الابن الأكبر هنري ولاية عهد إنجلترا ومقاطعة نورماندي المهمة في فرنسا، على أن يتم تتويجه ملكًا بالمشاركة مع والده، بينما حصل ريتشارد على مقاطعتي Guienneو Poictou مع احتفاظه ب Aquitaine الغنية من والدته، والابن الثالث جوفري مقاطعة Brittany التي حصل عليها بحق الزواج، أما الابن الأصغر جون فلم يحصل على أي شيء، إلا فترة حكم قصيرة على إيرلندا لكنه فشل سريعًا.
لكن ما حقق هذا التقسيم إلا غيرة وحنق جيران المملكة، ووجدوا فرصة لبث الخلاف واستغلال طمع الأبناء، وقلة خبرتهم لصغر سنهم، وبالأخص هنري ولي العهد، الذي ما لبث أن وجد أن منصبه رمزيٌ ولا يملك أي سلطة حقيقية، بينما احتفظ والده بكل شيء لنفسه، فما كان منه إلا أن سلم رأسه لملك فرنسا لويس السابع والد زوجته، وعدو والده الأكبر، الذي أخذ على عاتقه بث الخلاف بين الأمير والملك، وغرس حلم السيطرة وإثارة طموح أمير فى الثامنة عشرة من عمره.
فعاد الأمير إلى إنجلترا في العام التالي 1173، وواجه والده وخيّره إما بالتنازل عن عرش إنجلترا حالًا، أو على الأقل نورماندي ويسحب رجاله منها، لكن الملك هنري طبعًا رفض التفريط في السلطة ووقع خلاف كبير بينهما، مما أدى لهرب الأمير الصغير إلى فرنسا وطلب حماية الملك.
ريتشارد يشارك فى التمرد الأول بعمر ال 16:
ما لبث أن بلغت أخبار تمرد الأمير الصغير والدته الملكة اليانور في إكويتاين، التي لم تبذل جهدًا في إخفاء استيائها وكرهها تجاه زوجها هنري، وحرضت ابنيها الصغيرين ريتشارد وجيوفري بعمر ال 16 و14 للانضمام للتمرد، وأقنعتهما أنه يحق لهما أيضًا حيازة الأراضي المخصصة لهم؛ ووجهتهم بالسفر سرًا إلى فرنسا؛ وكانت تأمل أن تهرب نفسها بنفس الطريقة، بل وارتدت ملابس الرجال لهذا الغرض، عندها تم القبض عليها في الطريق بأمر من زوجها، وألقيت في الحبس لستة عشرة سنة القادمة من حياتها، مما أعطى سببًا آخرًا يتحد الأبناء خلفه ضد والدهم.
وهكذا رأت أوروبا بذهول ثلاثة أولاد، بالكاد وصلوا إلى سن البلوغ، يطلبون من ملكًا عظيمًا، بكامل قوته وطول شهرته، أن يتنازل عن ملكه لصالحهم؛ لكن أوروبا تخلصت سريعًا من ذهولها، ولكثرة أعداء ملك إنجلترا، قام تحالف ضم فرنسا والفلاندرز (دولة قديمة ضمت أجزاءً من بلجيكا وهولندا وفرنسا) ومجموعة من أهم وأقوى المقاطعات في فرنسا، وعدد كبير من النبلاء في إنجلترا، الذين كانوا أكثر رغبة في أن يحكمهم أمراء شباب، يجهلون الشؤون العامة، ويمكن استغلالهم وعلى استعداد لتقديم المنح والعطايا مقابل التأييد؛ وبما أن الملك قد أمّن لأبنائه الخلافة في كل مقاطعة معينة من سيادته، فإن النبلاء لم يخشوا أي خطر في الانضمام إليهم لأنهم سيصبحون في وقت ما ملوكهم، بالإضافة إلى ملك أسكتلندا من الشمال، ليتم محاصرة إنجلترا والملك هنري من الأعداء.
من الفزع، هرع رسل الملك هنري إلى روما من أجل مساعدة البابا والكنيسة، لكن برغم تأييد البابا له، لم يلق التحالف لها بالًا وتضاربت المصالح لبعض رجال الكنسية الكبار، فانتهى الأمر بهنري أن يعلن الحرب ويتعاقد مع 20 ألف من المرتزقة بقيادته ويذهب للقتال في فرنسا.
في البداية حقق الجيش الفرنسي بقيادة لويس السابع وهنري الصغير وريتشارد، بعض الانتصارات واحتلوا بعض القلاع المهمة من املاك إنجلترا فى فرنسا، حتى وصل هنري الثاني بجيش المرتزقة وقلب الطاولة عليهم، وأجبرهم على التراجع، حتى حوّل أنظاره إلى إنجلترا التي امتلئت بالأعداء والخونة، ولم يكن لينقذها إلا بمعجزة.
جلد الملك فى الشارع:
لاحقت جريمة مقتل الأسقف توماس بيكيت الملك هنري حتى 1174 في وسط التمرد، حيث أراد كسب العامة ومنعهم من الانضمام ومساندة النبلاء المتمردين، فذهب إلى أكبر كنيسة في إنجلترا أمام العامة، وقام بخلع قميصه وظل راكعًا أمام الكنيسة طوال اليوم بدون طعام أو شراب، ثم أعطى للرهبان سوطًا وأمرهم بضربه تكفيرًا عن ذنوبه أمام الناس.
وما لبث حتى انهزم ملك أسكتلندا أمام جيش إنجلترا، فيما اعتبره الجميع معجزة وأشارة للغفران الإلهي، وما إن أدرك التحالف أن الرب إلى جانب هنري، وأنه يحصل على مساعدة من السماء، حتى انهار التمرد وهجر ملك فرنسا مخططه، وخضع ريتشارد وإخوته إلى والدهم، على أن يمنحهم معاشًا سنويًا وقلعةً ليعيش بها كل منهم، في مقابل العفو عن التمرد، وبهذا انتهى التمرد الأول مع بقاء الملكة فى محبسها.
ريتشارد يحمل راية التمرد:
عاش ريتشارد والعائلة فى سلام نسبيّ للأعوام التالية، حتى عاد شقيقه هنري للتمرد، لكنه مات سريعًا من الحمى في 1183، تاركًا الراية لريتشارد والطريق أمامه ليصبح وليًا للعهد وملكًا لإنجلترا في المستقبل، لكن أخيه الأصغر جيوفري سبقه فى التمرد، وفرّ إلى فرنسا مجددًا طالبًا مساعدة الملك الجديد فيليب، لكن جيوفري مات أيضًا في 1185 في مسابقة للقتال، مخلصًا ريتشارد من منافس آخر على العرش.
بعدها بدأت الدعوة لحملة صليبية جديدة بعد سقوط القدس في يد العرب، بقيادة صلاح الدين الأيوبي في 1187، فتبع ذلك سلام نسبي في أوروبا ووافق هنري الثاني على المشاركة في الحملة مع ملك فرنسا وإمبراطور ألمانيا، لكن الأمور لم تكن لتسير بتلك البساطة.
ملك فرنسا الجديد فيليب أوجستاس، كان شابًا صغيرًا لكنه يتمتع بدهاء ومكر، وبحكم القرابة مع ريتشارد قلب الأسد والسن المتقارب، ربطت بينهم صداقة قوية حيث كانوا أصدقاء منذ الطفولة، حتى إن بعض المصادر تقول أنهما كانا على علاقة عاطفية في الصغر، لذلك نجح فيليب في إقناع ريتشارد بالتمرد على والده من جديد، بعد أن قرر الملك منح المقاطعات الفرنسية لابنه جون، ورفض ريتشارد ذلك.
وبدأت حرب جديدة بين فرنسا وإنجلترا، بسبب غيرة فيليب ملك فرنسا من هنري الثاني، واشترك ريتشارد بحجة أن والده رفض تسليمه خطيبته آليس أخت ملك فرنسا، وجعلها عشيقته، وكانت مطالهم أن يتوج ريتشارد ملكًا على إنجلترا في حياة والده، وأن يتولى حكم كل المقاطعات في الأراضي الفرنسية فورًا، وأن يتزوج أليس فى الحال، لكن الملك هنري رفض بالطبع، فقام ريتشارد بأداء اليمين بالولاء لملك فرنسا بصفته حاكمًا للولايات الإنجليزية في فرنسا، وتبعه حكام تلك المقطعات مثل نورماندي وآنجو، وتسبب ذلك في تعطّل الحملة الصليبية وتوقف الاستعدادات، مما أدى إلى أن الفاتيكان قام بنبذ ريتشارد وحرمانه من الكنيسة، بمعنى آخر إعلانه خارجًا عن الدين، وتم تهديد ملك فرنسا بالمثل، لكنه لم يلق بالًا واتهم الكنسية بتلقي الرشاوي من ملك إنجلترا، فلم يكن هانلك مفرٌ من الحرب.
الطريق لعرش انجلترا:
بحلول تلك الفترة في 1189، كان الملك هنري قد أصابه المرض وتقدم به العمر، ولم يعد بقوته السابقة، في حين أن ريتشارد كان شابًا في عنفوان شبابه، ومعروفٌ بقلب الأسد لقوته وشدة بأسه في المعارك، بسبب المعارك العديدة التي خاضها بالرغم من صغر سنه، ولاصقه اللقب طوال حياته، بعد عدة معارك ومقاومة عنيفة، وتعرضه لخيانات عديدة من النبلاء، رضخ هنري الثاني واقرّ بالهزيمة.
تقابل ملكا فرنسا وإنجلترا في أرض المعركة من أجل الصلح، وعزَفَ ريتشارد عن الحضور خشية أن يرى والده في الخزي والإهانة، يبنما كان الملك هنري في حالة يرثى لها، وكان بالكاد يستطيع الثبات على حصانه من شدة الإعياء والمرض، لكن عاصفة مفاجأةً أوقفت الاجتماع، وكاد الملك أن يسقط في الطين لولا أمسكه أحد مساعديه، وتم إرسال الشروط فيما بعد من ريتشارد وفيليب.
كانت الشروط مُذلَّةً للغاية، حيث جرّدوه من جزء كبير من ممتلكاته، وطُلب منه إعلان التبعية لفيليب وريتشارد، أخيرًا، وأن يواجه ريتشارد ويعطيه قبلة السلام، ويطرد من قلبه كل مشاعر العداء والغضب عليه بسبب التمرد، من بين الشروط الأخرى في المعاهدة، هناك مادة تلزمه بالعفو عن جميع النبلاء الآخرين الذين وقفوا إلى جانب ريتشارد في التمرد، وعندما قرأوا المعاهدة على الملك، بينما كان مريضًا على سريره، سأل أن يطلعوا على قائمة الأسماء من خانوه، وكانت الصدمة، الاسم الأول على رأس القائمة كان ابنه الصغير جون، الابن المفضل له الذي دخل في الحرب من البداية لأجله، للدفاع عن حقوقه ضد اعتداءات وطمع ريتشارد، عندما رأى الأب البائس هذا الاسم، سقط على سريره وحدق بعنف حوله في ذهول، ولم يكد يصدق ذلك.
ودخل في صدمة عظيمة كانت نهايته، ولعن أبنائه جميعًا وتبرأ منهم جميعًا، ما عدا ابن غير شرعي له، الذي لازم جانبه ولم يخنه أو يتمرد ضده قط، بعدها توفي أحد أعظم ملوك إنجلترا وأوروبا على الإطلاق في حالة حسرة وحزن في نورماندي.
بينما كان موكب الجنازة في طريقه إلى الدير حيث كان من المقرر أن يدفن الملك، استقبله ريتشارد، بعد أن سمع بموت والده، جاء ليشارك في مراسم الجنازة، وتابع ريتشارد الموكب حتى وصلوا الدير، وعند وصوله إلى الدير، وُضِع الجسد على النعش وتم الكشف عن الوجه، لكي ينظر ريتشارد مرة أخيرة إلى والده؛ لكن الوجه كان مشوهًا جدًا مع تعبير العبوس والغضب والاستياء الذي كان عليه خلال الساعات الأخيرة لحياته، حينها ابتعد ريتشارد في رعب عن مشهد والده المروع، وشعر بالخزي والعار.
وكذلك تقلد ريتشارد الأول المعروف بقلب الأسد، رسميًا عرش إنجلترا في الثالث من سبتمبر عام 1189، ليبدأ عهده أولًا بفك أسر والدته، ثم معاقبة كل من ساعده في التمرد على والده، بما فى ذلك صديقه ملك فرنسا.
المصادر -https://www.historic-uk.com/HistoryUK/HistoryofEngland/Thomas-Becket/ -Gregory, Crouch et Holden, History of William Marshal, Vol. III -James Reston Jr, Warriors of God: Richard the Lionheart and Saladin in the Third Crusade - Jacob Abbot, History of King Richard I of England -David Hume, History of England -Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England -Kings & Queens of England: Normans, Alan Ereira