كيف جعلتني العدمية إنسانًا أفضل

“ليس للحياة معنى، لذا لِمَ أزعج نفسي بفعل أي شيء؟”

من المؤكد أن هذه الفكرة خطرت -بدرجات متفاوتة- على بال لكل كائن بشري خطا يوماً ما على هذه الأرض. هذا الصوت الهامس في رأسك الذي يتساءل عن المغزى من كل الجهود التي تبذلها وكل المعاناة التي تقاسيها خلال حياتك.

إذ يبدو أنّ معظمنا متأثر بطريقة أو بأخرى بالفلسفة العدمية ، حتى إن لم نكن نعي ذلك. فكلما تخطر ببالك أفكار كـ ” ما الهدف؟”، وكلما تفكر متأملاً أنّ كل تقدمك ما هو إلا عبث لأننا كلنا بلا استثناء سنفنى يوماً ما ولن يهم أي شيء نقوم به؛ فأنت بذلك تصارع العدمية ومعاناتك الوجودية.

إنها فكرة لا يزال عليّ مصارعتها يومياً، وخصيصاً عندما أبدأ بالعمل. فدائماً ما يتواجد هذا الشعور -الذي أفضل تسميته بـ ” الشك الوجودي “- أمامي كحاجزٍ عقليٍ. وعادةً ما تتخبط هذه الأفكار برأسي -بدرجات متفاوتة -عند جلوسي لأداء عملٍ ما.

فأنا لديَّ تاريخ بارز مع العدمية بحكم أنني عايشتها بدرجات متفاوتة خلال سن المراهقة، ولا تزال لدي تجارب معها حتى اليوم. حتى أثناء كتابتي هذا المقال القصير لك، أؤكد لك أنه في لحظة ما تساءلت عن المغزى من كتابته.

وبالرغم من إيماني أنّ العدمية هي فلسفة سامة، إلا أني أعتبرها واحدة من أهم الأشياء التي حدثت لي في حياتي. فمروري بالعدمية -وتجاوزي لها- شكَّلني لأصبح ما أنا عليه اليوم. إذ تأثرت معتقداتي وفلسفاتي واهتماماتي الحالية بالسنين العديدة التي قضيتها عالقاً خلف قضبان العدمية، وأنا أؤمن أنّ تجربتي مع العدمية قد جعلتني إنساناً أفضل.

إعلان

ماضيَّ العدمي

مواجهتي الأولى مع ذاتي العدمية كانت أثناء الدراسة الثانوية -في سن الخامسة عشر- عندما كان يجب عليَّ الدراسة بجدٍ للامتحانات. أعتقد أنّ معظم المراهقين يشعرون بومضةٍ من الأفكار العدمية أثناء دراستهم الثانوية عندما يذاكرون لامتحاناتهم، والقليل من هذه الأفكار سيخدم هدفاً ما في المستقبل. وغالباً ما أُخبرنا الوالدين والمعلمون أنّ الأداء الجيد في الامتحانات عامل هام لنجاحنا في المستقبل، ولكنني لم أنخدع بهذه هذه الادعاءات.

لم يكن تثقيفي حول كل هذا في ذاك العمر بالشيء الجيد، فقط جعلني عنيداً بشكلٍ لا يُطَاق. لم أرغب بالمذاكرة لامتحاناتي لأنني شعرت بأن فعل ذلك لا مغزى منه، وأنني فعلياً لم أكن أتعلم شيئاً أو أستخدم وقتي بإنتاجية، وأنني ببساطة أحشر المعلومات في رأسي لأتمكن من التخلص منها في قطعة من الورق الأسبوع المقبل. كانت المشكلة في تلك المرحلة أنّ العدمية تملكتني وأحكمت قبضتها حولي، وكان هذا يعني أنني لم أكن أقوم أي شيء فعَّال على الإطلاق؛ ولكن بدلاً من ذلك كنت انخرط بالعديد من الأنشطة المتعجرفة التي يحبها كل فتيان الخامسة عشر: أشياء كلعب ألعاب الفيديو ومشاهدة التلفاز والأفلام الجنسية والانخراط باللاشيء.

كلما تقدم بي العمر، ازداد تشدد أفكاري العدمية مع تقدمي في النظام التعليمي. ورغم أنني اجتزت المدرسة بدرجات جيدة، إلا أنني لم أُعزي هذا لعملي الجادة ودراستي الكثيرة، بل لقدرتي على استذكار الأشياء بسهولة وامتلاكي لحزمة من المهارات يبدو أنها مفيدة لهذه الامتحانات الموحدة.

وكلما ازدادت صعوبة الامتحانات قلَّ اهتمامي. إذ كنت أقضي وقتاً أقل فأقل على مذاكرة المجموعة الجديدة من امتحاناتي. فلم أكن من الأشخاص الذين يفعلون ما يخبرهم الناس بفعله. وأحكمت العدمية قبضتها عليَّ في سن الثامنة عشر، عندما كان عليَّ إجراء اختبارات الـ (A-levels) وهي الاختبارات الخاصة بالمملكة المتحدة التي تحدد الجامعة التي يمكنك الالتحاق بها. في ذلك الوقت كنت لا أزال أعتقد أني أريد الالتحاق بالجامعة، لكني لم أقدر على إيجاد أي محفز لكي أذاكر جيداً لهذه الامتحانات. كنت أذاكر لمدة ساعة أو ساعتين يومياً خلال الأسابيع السابقة للامتحانات، بينما كان أقراني يذاكرون لخمس أو ست ساعات يومياً.

كانت العديد من الأفكار تدور باستمرار في رأسي، وتتفاوت بين ” لم عليَّ المذاكرة لهذا الامتحان، بينما فعلياً  أنا لا أتعلم أي شيء؟” و” لم يتوجب عليَّ المذاكرة لهذا الامتحان، طالما سأموت يوماً ما ولا شيء من هذا سيهم حقاً؟ ”

وتصاعد الأمر لدرجة أنني لم أجد مغزىً من ذهابي للمدرسة، فكانت نظريتي كالتالي:” لِمَ عليَّ الذهاب للمدرسة إن لم يكن ذلك أمراً يبهجني في الحاضر، بينما يمكنني الجلوس بالمنزل ولعب ألعاب الفيديو؟ ”

قادتني العدمية لأدنى حفر اليأس والاكتئاب في بعض الأحيان، لكني لم أدرك هذا في ذلك الوقت. فقد آمنت وقتها بفكرةٍ مفادها أنّ الحياة كانت بلا معنى، وأنّ كل شيء أفعله في هذه المرحلة من حياتي لا يساعدني بأي طريقة؛ فهو ببساطة معاناة لا داعي لها.

في النهاية، كان عليَّ أن أقرر ما الأسوأ: المعاناة اللحظية التي أُقاسيها عبر العمل الجاد أم المعاناة الوجودية الدائمة حول مكاني في الأرض؟

كيف تعافيت

استغرقت عملية تعافيَّ مدةً طويلة؛ إذ كان عليَّ أن أغير عقليتي تماماً. فكنت أفكر لمدة طويلة في الصورة الأكبر للوجود نفسه -والذي كانت بالنسبة لي بلا معنى- بدلاً من التركيز على ما أستطيع فعله أثناء حياتي لجعلها تزدهر ولأجعل نفسي ومن حولي يشعرون بالفخر.

أعتقد أنّ الخطوة الأولى للابتعاد عن العدمية -كغيرها من الأشياء- هي أن ترغب بالتحرر منها وأن تكون مستعداً لتغيير وجهة نظرك. كان هذا صعباً جداً بالنسبة لي لأنني كنت مفتنوناً بالعدمية لعدة سنوات.

إنها فلسفة من الصعب جداً الهروب منها. فالعدمية تقنعك بفكرةً مفادها أنّ لا شيء تفعله له أي معنى، ومن ثمَّ فإنه لا توجد أي مسؤولية على عاتقك. لذلك يمكنك ببساطة أن تسترخي وتشاهد الأفلام الجنسية طوال اليوم. إنّ فكرة انعدام المسؤولية جذَّابة جداً للعديد من الشباب، ولذلك فإن العديد من المراهقين يعلَقون بالعدمية -كما تعلَق هرموناتهم أيضاً- كما أعتقد.

تمثلت خطوتي الأولى للهروب من العدمية بتحويل اهتمامي من المعنى الكلي للوجود إلى توقعات أكثر واقعية. ما أعنيه بهذا، أنني في الماضي وقبل القيام بأي شيء كنت أفكر في المعنى الرئيسي للوجود بدلاً من أن أبدأ العمل بكل بساطة، واعتقدت أنّ الوجود لا معنى له؛ مما أعاقني عن بذل أيِّ مجهود حقيقي. لذلك بدأت التركيز على ما أستطيع فعله بحياتي لأجعل نفسي والآخرين من حولي فخورين بي، واستخدمت ميزة ولادتي في بلدة غربية غنية لفعل شيء مهم لأنفع به العالم، بدلاً من أن أسترخي وأشعر بالمعاناة الوجودية وبالأسف على حالي.

كيف جعلتني العدمية إنساناً أفضل

أما الهدف الكامل من هذه القصة فهو كالتالي: أعتقد أنّ صراعاتي مع العدمية شكَّلتني لأصبح إنساناً أفضل، وهناك بعض الأسباب التي جعلتني أؤمن بهذا.

في البداية، سأشرح فلسفتي الحالية للحياة. أنا إنسان وجوديّ -لذا كما كنت عندما كنت أؤمن بالعدمية- لازلت أؤمن أنّ الحياة بلا معنى. ولكني أؤمن أنه لهذا السبب، لا يوجد أي مبرر يمنعني من المخاطرة بكل شيء، محاولاً بذلك أن أخلق معنايَ الخاص في هذا الوجود شبه الخاوي.

جعلتني العدمية أدرك أنّ لأفكارنا القدرة على تشكيل حقيقتنا

فمن خلال العدمية -والتغير الطفيف لمنظوري نحو الوجودية- ألاحظ اختلافاً كبيراً في معظم جوانب حياتي. إذ بدأت أعمل بشكلٍ أكثر جدية، وأخذت استمتع بالحياة بشكلٍ أكثر وأبذل جهداً أكبر في علاقاتي، وغيرها الكثير. وأدين بمعظم هذا الفضل للتحوُّل الطفيف من العدمية إلى انخراطي بالفلسفة الوجودية. فدون تغيير منظوري في التفكير، غالباً ما كنت سأظل العدمي الكسول والمتسكع ذاته الذي كنته في سن المراهقة.

جعلتني العدمية أدرك قيمة الوقت الذي أمتلكه

إثر صحوتي من متعتي العدمية، بدأت التفكير ملياً في أهمية الوقت وما نختار فعله بهذا الوقت. بدأت بالتفكير في كل ساعة مضت، لأسأل نفسي إن كان ما فعلته بهذا الوقت حقاً يستحق. أخذت أحاول قضاء وقتي في القيام بشيء فعَّال أو شيء يجلب لي السعادة. كما وأحاول ألا أضيع وقتي في مشاهدة اليوتيوب أو نتفلكس لساعات طويلة حتى نهاية اليوم؛ وإن انتهى يومي بمشاهدة التلفاز للاسترخاء قليلاً، فأنا الآن أكثر حضوراً ووعياً لمقدار الوقت الذي أقضيه في مشاهدته.

جعلتني العدمية أرغب في أن أصبح إنساناً أفضل

حالما أفلتُّ من قبضة العدمية الخانقة، أدركت أنني أضعت الكثير من الوقت في سن المراهقة وأنني لم أطور نفسي بأي شكل. لذا بدأت بتحسين نفسي؛ بدأت بممارسة التأمل واليوجا، واتبعت نظام حياة صحي، وأخذت أبذل مجهوداً حقيقياً في كل شيء أفعله.

أنا حالياً أنظر للحاضر، وأعتقد أنّ هذا التحول في منظوري منحني علاقة أفضل مع عملي ووقتي، وأحكم القفل على هذه الأفكار العدمية في أعماق عقلي.

لا تزال هذه الأفكار تزورني من حينٍ لآخر، لكنها لا تملك القوة لتعطيلي عن العمل لساعات أو أيام. لديَّ الآن علاقة أفضل مع نفسي وجودي ومع هذه الشياطين العدمية التي نادراً ما تزورني.

المصدر

 

إعلان

مصدر المقال باللغة الانليزية
فريق الإعداد

إعداد: أبانوب رأفت

تدقيق لغوي: راما ياسين المقوسي

تدقيق علمي: راما ياسين المقوسي

اترك تعليقا