صورة الإلهيِِّ في الدين الإسلاميِّ: كيف تَجَلَّى اللهُ في مُدَوَّنَاتِ الفقه وأصوله؟ (اللهُ مُشَرِّعًا)

قراءة في كتاب (تَجَلِّي الإله-جدليَّة الإلهيِّ والإنسانيِّ في الثقافةِ الإسلاميَّة) (3/4)

إنْ جازَ لنا أن نُسَمِّيَ الحضارةَ الإسلاميّة؛ فعلينا أن نقول أنها حضارة فقهيَّة؛ فالفقه يحتلُّ المكانةَ الأولى دون مُنَازِع[1].

-الجابري

بعد أن تنوالنا في المقال السابق ظهوره تعالى في مدونات علم الكلام، نتناول هنا تجلِّيَه في مدونات الفقه الإسلاميِّ وأصوله بوصفِه مُشَرِّعًا للاجتماع البشري وللجماعةِ المسلمة عبر التعاليم التي جاءت في الكتاب والسنة، ثم اجتهادات الفقهاء بعد ذلك.

يُقِرُّ الرازي بأنَّ القرآنَ لم يحمل لنا في مسألة التشريع غير ستمائة آية فحسب؛ مما يدعو إلى القول بأنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ كما ظهرتْ في النصِّ القرآنيِّ محدودةٌ جدًّا قياسًا بحركة الجماعةِ المسلمة في التاريخ؛ مما استدعى الأمر ظهور من سُمُّوا بالفقهاء لتوسيع دوائر التشريع وفقًا لاحتياجات البشر.

ولاية الفقيه في صورتِها السُّنِّيَّة

حاز الفقهاء في الإسلام سلطةً كبيرةً بوصفهم ناطقين عن الشَّارِع، مُوَقِّعِين عنه، ولم تُعْتَبَرْ أقوالهُم نتاجًا بشريًّا خالصًا لذلك، فقد كان ابنُ القيِّمِ مُصِيبًا عندما سمَّى كتابًا له: (إعلامُ الموقِّعِين عن ربِّ العالمين)؛ مما يكشف لنا مدى السلطة الدينية الواسعة التي حصل عليها الفقهاء المسلمون.

بهم [الفقهاء] يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة النَّاسِ لهم أعظم من حاجتِهِمْ للطعامِ والشَّرَابِ[2].

-ابن القيم الجوزية

ويرى ابنُ القيم في إعلامه أنَّ طاعةَ العلماءِ أفرضُ على الناس من طاعةِ الآباء والأمهات، وأولوا الأمر في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ”، همُ العلماء قبل الأمراء؛ لأنَّ “الأمراء إنما يُطَاعُونَ إذا أمروا بمُقْتَضَى العِلْم؛ فطاعتهم تَبَع لطاعة العلماء[3].

إنَّ ابن القيم في الحقيقة يضعُ سلطةَ الفقهاء الدينية قبل السلطة السياسية، والفقهاء عنده “يتوسَّطُون بين كلمة اللهِ المُنَزَّلَة ومُمَارَسَة البشر في التاريخ؛ فلا فرق بين ما يقوله الشيعةُ عن ولايةِ الفقيهِ التي تعلو على ولاية الحاكم، وبين ما يقولُه ابنُ القيِّمِ هنا”[4].

إعلان

الشَّافِعِيُّ وتكريس سلطةِ النَّصِّ

“سعَى أصولُ الفقه إلى سجن العقل في إطار النصِّ”[5].

يرى د. أحمد سالم أنَّ التأسيس لتقييد فاعلية العقل قد جرى عن طريق التَّقعيد لأصول الفقه الذي يُعَدُّ الأساسَ الذي قام عليه بناءُ الفقه كلِّه، ولكن كيف تَمَّ هذا التأسيس؟

قام الشافعيُّ بتقعيدِ أصولِ الفقه في (الرسالة)، ورأى أنَّ الأحكام تُؤسَّسُ على القرآنِ، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، وبذلك يكون قد أعطى سلطةً مركزيَّةً للنصِّ، أو ممارسةِ الجماعة المسلمة الأولى، ومن هنا كان تقييد فاعليَّة العقل في استنباط الأحكام؛ فالعقل محصورٌ بالنصِّ دائمًا وأبدًا.

القياس: تقييد فاعلية العقل

ولكن، ألا يكونُ القياسُ نوعًا من الاجتهاد وتكريس فاعليَّة العقل؟

إنّ القياسَ وإنْ كان فيه نوع من إعمال العقل، وإن حُصِرَ مُسَمَّى الاجتهادِ فيه إلَّا أنه في الحقيقة ليس إلا نوعًا من العودة إلى النصِّ؛ فالقياس هو “قيام العقل البشري باستنباط حكم جديد لفرعٍ قياسًا على أصلٍ سابقٍ”[6].

أصبح الاجتهادُ عند الشافعي هو مجرَّد قياس فرعٍ على أصل[7].

لم يكتفِ الشافعيُّ عند هذا الحدَّ، بل هاجم الاستحسان (الأخذ بمصلحة جزئيَّة مقابل دليل كلي)، ورأى عدم جوازه وبذلك يكون قد قوَّضَ نشاطَ العقل تمامًا، وتقييد إعماله في القياسِ ليس إلّا، وبهذا صار العقلُ مُلْحَقًا في إطار النَّصِّ.

الإجماع: صَنَمِيَّة الجماعة المسلمة الأولى

ولنأتِ الآنَ إلى الإجماعِ الذي “انتقل بالقداسة من نطاقِ وحيِ الله، أو ممارسة الرسولِ إلى تقديسِ ما قامتْ به الجماعةُ الأولى من ممارسة تاريخية[8]، تكريسًا لممارسات السلف بوصفها سلطة تشريعيَّة.

لم يكن الإجماعُ مَحَلَّ إجماعٍ أبدًا في التاريخ الإسلاميّ؛ فيرى الزهراوي مثَلًا أنَّه لم يقع في الغالب، ولا جدوى من تقريره، وقد كان “محلَّ نقد كثير من العلماء قديمًا وحديثًا من منطلق استحالة تَحَقُّقِ الإجماع في التاريخ”[9].

الإجماع أبعدُ مَنَالًا من أنْ يَقَع[10].
-محمد سالم النعيمي

يتساءل د. أحمد سالم ناعيًا الحال التّي وصل إليها الفقه الإسلامي: “أين فقه الواقع؟ وأين المصلحة الحاكمة لتطور حركة المجتمع؟”[11].

يرى الكاتبُ أنَّ الفقهَ المقاصديَّ للشريعة الإسلامية، وما عُنْوِنَ بفقه المصلحة كان له ظهور مُحَدَّد في التاريخ الإسلاميِّ إلّا أنه “لم تُكْتَبْ له السيادةُ في مسار التاريخ الثقافي الإسلامي”[12].

الأخذ بالآثار: تَوْثِينُ السَّلَف

ركن علماء الاتِّجاهِ السلفيِّ إلى الآثار، وأنكروا العملَ بالقياس؛ مما يُعَدُّ ردَّةً عن العقل فوق الرِّدَّةِ الأولى التي كرَّسَ لها الشافعيُّ!

ينتهي هذا الاتِّجاهُ إلى القول بأنَّ القرآنَ والسنة قد حَوَيَا كلَّ شيءٍ، وانتهى هذا التَّنظيرُ إلى حدٍّ يرى فيه رجالُه أنَّ الاجتهاد قد أُغْلِقَ، وأنَّ القياسَ مكروه.

“القياسُ مصدرٌ للهلاكِ والاختلاف”[13].

“لو كان القياسُ حُجَّةً لما تعارضَتِ الأَقْيِسَةُ”[14].
-ابن القيم

يرى ابنُ القيم أنَّ القياسَ لو كان خيرًا ما أفضى إلى وقوع الاختلافِ الذي حذَّرَ منه الرسول، ويرى أنَّ عامَّة الاختلاف بين هذه الأمة كان مَنْشَؤُه من القياس، ويقوم بنقل آراء السلف في ذَمِّ أهل الرأي؛ فينقل عن عمر بن الخطاب قولَه: “إياكم والرأي؛ فإنَّ أصحابَ الرأيِ أعداءُ السُّنَن”[15]، وأخذَ الشافعي بأحاديث الآحاد بدلًا عن القياس، وأنَّ ضعيف الحديث عند أبي حنيفةَ أَوْلَى من القياس والرأي إلى غير ذلك مِمَّا جَمَع.

وبذلك نرى أنَّ أعلامَ السلف المُتَأَخِّرين جمدوا عند الكتاب والسنة والآثار، ولم يتَعَدَّوْهَا إلى غيرها؛ لأنَّ ما عدا ذلك رأي يؤدِّي إلى اختلاف الأمة؛ مما أدَّى إلى تكريس الآثار السلفية بجانب تكريس النَّصَّيْنِ: القرآن والسنة عملًا بحديث النبي: (خير القرون قرني ثم الذي يَلِيه).

نرشح لك: جناية الفقهاء والمتكلمين على الإسلام

التَّسَلُّطُ الفقهيّ على كافَّةِ مناحي الحياة؛ الدينيَّة والدنيويَّة

سعى الفقهاءُ إلى جَعْلِ أحكامِهم مستوعبة لجميع الوقائع مع توسيع فهم النصوص عبر المنظومة الأصوليَّة[16].
-نادر الحمامي

رغمَ أنَّ آراء الفقه الإسلاميَّ كانت ولا تزال آراءً بشرية محضة؛ لارتباطها بظروف كل عصر ومجتمع إلّا أنَّ الفقهاء نظروا إلى أنفسِهم على أنهم ناطقينَ عن الله فيما يُحِلُّونَ ويُحَرِّمون، وحاولوا “جعلَ أحكامِهم مُسْتَوْعِبَةً لجميع الوقائع مع توسيعِ فهمِ النصوص عبر المنظومة الأصولية”[17]؛ لذا فقد تَمَّ إنطاقُ اللهِ ورسوله عبر الفقه بما نطقا به وما لم ينطقا به!.

وشملتْ أحكامُهم كلَّ ما يمكن تصوُّرُهُ عن الحياة الدينية والدنيوية من عباداتٍ، ومعاملاتٍ، وأحوال شخصية، وحدود، واحتفالات إلى غير ذلك؛ فحرَّموا حتى لعب النرد والشطرنج، والتصاوير، والغناء وغير ذلك مما يجعل الكاتبَ يرى أنهم حاولوا “تنميطَ الحياةَ الاجتماعيَّة حتى في أبسطِ جُزْئِيَّاتِها”[18].

تدخَّلَ الفقهُ إذن في تفاصيلِ تفاصيلِ الحياة الدينية والدنيوية حدَّ افتراضِهم مسائل يستحيل وقوعُها فيما يُسَمَّى بالفقه الافتراضيِّ؛ ليثبتوا لأنفسِهم المهارة الفقهية في الحكم على “ما كان، وما هو كائن، وما يَسْتَجِدُّ من وقائعَ، بل وما يستحيل وقوعُه”[19].

لم يقفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل قامتِ السلطةُ السياسيةُ بتوظيفِ الفقهاء في ضبط الحركة الاجتماعية متى كانتْ عاجزةً عن ضبطِها بالسياسة؛ فاتَّجهتَ إلى الفقه والفتوى، وقام الفقهاء بتكفير أيِّ جماعة تخرج على السلطة السياسية بالسيف حتى وإن كانتْ ظالمةً كتكفير مالك بن أنس الخوارجَ.

حراسة العقيدة: الموقف الفقهي من الكلام والتَّصوّف والفلسفة

نظر الفقهاء إلى أنفسهم على أنهم حُرَّاسٌ للعقيدة، ولا ينبغي لأحد أن ينازعَهُم في فَهْمِ الإيمانِ سواء أكانوا متكلمين أم فلاسفة أم متصوّفة؛ فكانوا حربًا شعواء على كل أنماطِ المعرفة السائدة في الحضارة الإسلامية باسم حراسة صورة معينة للعقيدة، وتصوُّر حرفيٍّ للألوهية.

يرى الفقهاء تحريمَ علم الكلام خشيةً من أنَّ التفكير العقليّ في قضايا الإيمان قد تُفَرِّقُ الجماعةَ المسلمةَ، ولم يرضوا من أحدٍ غير التسليم بالمعتقدات من خلال الآثار والنصوص، وأصدروا في حق المتكلمين فتاوى عنيفة يتهمونهم فيها بالكفر والزندقة، ومن ذلك قول الشافعي: “حكمي في أهل الكلام أن يُضْرَبُوا بالجريدِ والنِّعَال”[20]، وقول أحمد بن حنبل: “علمُ الكلامِ زندقة[21].

أما موقفهم من المتصوّفة؛ فكان عنيفًا وسلبيًّا جدًّا؛ إذ كان الفقهاءُ يميلون إلى التفسير الظاهريّ للدين، وكان المتصوفة يميلون إلى التفسير الباطني للدين الذي يرونه جوهريًّا؛ فحدث بينهما نوع من الصِّراع الفكري هدَّد السلطة الدينية لدى أهل الفقه؛ فاستعملوا آليةَ التكفير؛ فتعرَّض بعض الصوفية إلى التّنكيل والقتل جرَّاء ذلك.

وكان موقفهم من الفلسفةِ أقوى وأشدّ؛ لأنهم يحاكمون كلَّ شيء بالعقل وإن كان الدين نفسه، وتطلق للعقل حقَّ التفكير المُطْلَق؛ فقام الغزالي بتكفير الفلاسفة في أربع مسائل، وقام ابن الصلاح بتحريم المنطق والفلسفة؛ فقال: “الفلسفة رأسُ السَّفَهِ والانحلال”، وكفَّرَ ابنُ تيميةَ الفلاسفة أيضًا، وأعاد إنتاجَ آراء الغزاليِّ حولهم، وأدَّى ذلك إلى اضطهاد بعض الفلاسفة كالكِندي وابن رشد.

“أرادَ الفقهُ لنفسه أن يحرس العقيدةَ بعيدًا عن الجدال”[22].

ذكورية الفقه الإسلامي

كان الفقه الإسلاميُّ ينطلق من منطلقات ذكوريّة في كثير من أحكامه، ولعلّ هذا يتناسبُ مع حركة الاجتماع البشريّ في العقود القديمة؛ مما يُثْبِتُ مرةً أخرى رأي الكاتب بأنَّ هذا الفقه بشريٍّ، وأنَّ محاولاتِ تطبيقه بإطلاقٍ تجاهُل لحركة التاريخ وتطوُّر المجتمعات.

يرى الفقهاءُ مثلًا أنَّ المرأة إذا مارستِ السحاقَ مع امرأةٍ أخرى؛ فإنَّ حكمها التأديب ليس إلّا، أمّا إذا مارس رجلانِ اللواط؛ فإنَّ حكمهما القتل على اختلافٍ في كيفية قتله (الرَّمْي من شاهقٍ، الرَّجم، الحبس في أَنْتَنِ موضع، أن يُلْقَى عليه جدارٌ)، والسبب في هذا التَّشَدُّد ليس إلّا أنَّ المفعول به قد تَخلَّى عن قيمة الذكورة، وأنَّ الفاعل انتهكَ هذه القيمة!

ويرى ابنُ تيمية أنَّ المرأةَ مملوكة للرجل تفسيرًا لحديث الرسول: “استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنَّهُنَّ عوان عندكم”؛ يعني أسيرات! بل نراه يُسَاوِي في مسألة النفقة بين المرأة والرقيق والبهائم!

الفقه ونفيُ الآخر غير المسلم

العهدة العمرية: أَذِلُّوهم ولا تَظلموهم

احتلَّتْ علاقةُ الإسلام بأصحاب الأديانِ الأخرى خصوصًا الكتابية مكانةً بارزةً في المدونات الفقهية، وربما تُعَدُّ العهدة العُمَرِيَّة هي أولُ ما وصلنا من ذلك، وعليها تعتمد المدونات الفقهية اللّاحقة في تقرير أحكامِ أهلِ الذِّمَّةِ؛ فهي بمثابة الأساسِ التَّشريعيّ لها.

قامتِ العهدةُ العمريّة “على أساسٍ قهريٍّ يهدف إلى تمييزِ المسلمين اجتماعيًّا على غيرهم، ومحاولة الحفاظ على تجانُسِ الجماعة المسلمة” كما حملت نوعًا من الاستعلاء على غيرها باعتبار المسلمين على هدى مُطْلَق وغيرهم على ضلال مُطْبِق، ومن ذلك ما جاء فيها من منعهم بناءَ كنائسهم، وأنْ لا يعلوا على المسلمين في البنيان، وأن يَتَجَنَّبُوا أوساطَ الطريق تَوْسِعَةً للمسلمين، وغير ذلك من مبادئ تُرَسِّخُ لشريعة الغالب على حساب المغلوب.

ينقُلُ ابن تيمية عن عمرَ بن الخطاب قوله: “أَذِلُّوهم ولا تَظلموهم[23] ويرى ضرورةَ إذلالِ أهلِ الذِّمَّة على أساسها، ويعبر د. أحمد سالم عن دهشتِه من هذه العبارة التي لا يعرف صحَّةَ نسبتها، ولكنه يُعلَّق قائلًا: “إذلالُ البشرِ قمَّةُ الظُّلْم[24].

تعامل الخلفاء مع أهل الذّمة من منظور الفقهاء

أعاد الفقهاء إنتاج العهدة العمريّة في صور كثيرة عبر العصور، ونظروا نظرةً إيجابيَّةً للخلفاء الذين كانوا يطبِّقونها، ويرون ذلك علامةً على القوة وعزة الإسلام.

وعندما قامتِ الدولةُ العباسيةُ على أكتاف الموالي؛ فكان منهم وزراء وإداريُّون كُثُر ضَجَّ المسلمون من ذلك حتى جاء هارون الرشيد -باسم الفقه وفتاوى الفقهاء- بصَرْفِ أهل الذِّمَّةِ عن أعمالهم.

يقولُ ابن تيمية:
“كان ولاةُ الأمورِ الذين يهدمون كنائسَهُم ويقيمون أمرَ اللهِ فيهم كعمرَ بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما مُؤَيَّدِينَ مَنْصُورِينَ، وكان الذي بخلاف ذلك مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ”[25].

انحسار دولة الإسلام: التّكريس لفقه التَّعَصُّب

جاءتِ الحروبُ الصليبية وَبَالًا على العالَمِ الإسلاميِّ واستمرَّتْ قرونًا عديدة، ولحقها دخول التتارِ مُحَقِّقين مجموعةً من الانتصارات على الدولة الإسلامية آنذاك.

وإذا كانَ الفقهُ المُؤَسَّسُ على العهدة العمرية قد رسَّخَ لثقافةِ الغالب ونظر إلى غير المسلم نظرةً فيها دونية شديدة؛ فإنَّ الفقه الذي ازدهر في أجواء انحسار الدولة الإسلامية وتَفَكُّكِها قد اتَّسَمَ بالحدة وأتى بمزيد من التَّعَنُّتِ والتَّشَدُّد.

“المؤمن تَجبُ موالاته وإنْ ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجبُ مُعَادَاتُه، وإنْ أعطاك وأحسنَ إليك”.
-ابن تيمية

ففي هذا الفقه نرى آراءً مثل تحذير مشاركة النصارى وتهنئتهم في أعيادِهم، ووجوب قصد إهانة مقدسات الآخرين سواء أكانت أمكنة كالكنائس أم أزمنة كعيد الكريسماس، وفيه أنَّ الذميَّ تبع للمسلم في الدار حتى وإن كانتِ الأرضُ المفتوحةُ له في الأساس، كما اعتُبِرَ التَّعصُّبُ للعربِ دين؛ “فبغضُ جنس العرب كفر أو سبب للكفر”[26] عند ابن تيمية، وفيه أنَّ الجزية تُؤْخَذ منهم إما جزاء على كفرهم، أو جزاءً على أماننا لهم.

“ولا شكَّ أنَّ تَطَرُّفَ ابن تيمية في أحكامه تجاه أهل الذمة هو نتاج واقع تاريخي كان يعيشه، بدا فيه الإسلامُ ضعيفًا، وأصاب الدولةَ الإسلاميةَ انحلالٌ”[27].

ومع ذلك نجد أنَّ تلك الآراء ما زالتْ فاعلةً في عقول الاتجاه السلفي؛ فهذا ياسر برهامي مثلا في كِتابه (المِنَّة) يسير على نفس النهج ويعيد إنتاج تلك الآراء نفسَها؛ يقول: “لا يجوز لمسلم أن يَتَّخِذَ صديقًا كافرًا، ولا خليلًا كافرًا، بل ولا فاسقًا؛ فإنَّ مصاحبتَهم أعظمُ أسباب الشَّرِّ”[28].

الموقف الفقهيّ من المُخالِفِينَ الإسلاميِّين

آليَّة حَدِّ الرِّدَّة

قامَ الفقهُ الإسلاميُّ بتفعيل آلية حدِّ الرِّدَّة للتخلُّصِ من المخالفين داخلَ الدائرة الإسلاميَّة؛ حراسةً للدِّينِ وحفظًا للشريعةِ، والحقُّ أنَّ الفرقَ الإسلاميةَ اتَّخَذَتْ من الفقه غطاءً كفَّرت من خلالِه الفرق المخالفةَ لها في المذهب وإنِ انتمَوا إلى الإسلام ظاهرًا.

ورغم ورود بعضِ الآياتِ التي تمنح للآخرِ أيًّا كانَ حقَّ الاعتقاد مثل “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، و”لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” إلّا أنَّ الفقه رأى المرتَدَّ قد دخل في الإسلامِ بِعَقدٍ قام بفسخه، وأنَّ هذا نوعًا من الإخلالِ يُوجِبُ القتلَ؛ فيرى مالكُ بن أنس أنَّ الإمامَ إن شاءَ أخَّرَ المرتد ثلاثةَ أيامٍ طمعًا في توبته وإلّا فلا بأسَ بقتله.

الباطنيّة نموذجًا

الغزَّاليُّ مُكَفِّرًا

كانَ للغزالي موقف عنيف تُجاه غلاة الباطنية؛ فألَّف في الردِّ عليهم، ولم يصُنْ لسانه عن تكفيرهم والتشنيع عليهم، وذلك “لأنه رآهم يُقَدِّمونَ تفسيرًا باطنيًّا للإسلام يتعارض مع التفسير السُّنِّيِّ”[29]؛ فأفتى بردَّتهم، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل رأى أنَّ الواجب “قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم”[30].

ورغم أنَّ الغالبَ في التراث الفقهي تكفير الشيعة قاطبة إلّا أنَّ الغزاليَّ لم يُكَفِّرْ إلّا غُلاتهم من الباطنية، أما غير هؤلاء فقد حكم بضلالهم وأنهم على بدعةٍ، ينبغي تأديبهم وزجرُهم عليها.

ابن تيمية مُطْلِقًا لسانَ التكفير

أفتى ابن تيمية بتكفير أصحابَ النَّزَعات الباطنية في الإسلام؛ فكفَّر الحلاج وابن عربي وابن سبعين وغيرهم رغم انتمائهم مذهبيًّا إلى التّصوّف، وعلى الرغم من هذا التكفير إلّا أنه يمكن القولُ أنّه لم يكن بنفس الحدّة والعنف الذي وَجَّهه ابنُ تيمية تُجاه الشيعة الباطنيَّة.

يرى ابن تيمية أنَّ الإسماعيلية موصومون بالكفر، بل هم أكفرُ من اليهود والنصارى، وأنّهم لا يُعادون الإسلام فقط، بل سائر المِلَل، أمّا القرامطة فهم بمنزلة من ادَّعَى النبوة من الكذابين، أمّا موقفه من النُّصَيْرِيَّة فكان أعنف وأشد؛ إذ حكم بكفرهم وإن أظهروا الشهادتين، وادَّعى أن من شكَّ في كفرهم فهو كافر، وأفتى بأخذ أموالهم، وقتلهم أينما ثُقِفُوا، ووجوب قتل علمائهم وصلحائهم حتى لا يضلوا غيرَهم.

يرى د. أحمد سالم أنَّ البعد السياسيَّ ليس خافيًا في أمثال هذه الفتاوى لابن تيمية في وقتٍ كادتِ الدولة الإسلامية تنحلّ، وكانت تلك الفرق الباطنية تعمل على تفريق الأمة ومساعدة أعدائها، بل ينفي كون كلّ ما أنكره عليهم بصحيح، بل كان يزيد في اتِّهامهم حتى يقيم عليهم دعوى الكفر.

جدليَّة الفقه والحداثة في العصر الحديث

جاء القرنُ الثامن عشر بمشروع حداثيّ في كافة المجالاتِ أظهر المجتمع المسلم إزاءه عجزًا عن مُسايرته، ووقف الفقه أمامها حجرَ عثرة يحاول الحكمَ عليها من منطلق الحلال والحرام.

والسؤال المطروح هنا: هل استطاعَ الفقه أن يسايِرَ العصر بما استجدَّ فيه؟

الفقه مُعِيقًا

كانتِ العلاقة القائمة بين الفقه ومفاهيم الحداثة علاقةَ صراعٍ لا ينقطع؛ صراع بين “الفقهاء الذين يملكونَ حركةَ التّشريع والفتوى في مواجهة تطوُّر حركة الاجتماع السريعة التي أحدثتها منتجات الحداثة في كافة المجالات”[31].

أوجد العثمانيون منصبًا في دولتهم أسموه شيخ الإسلام، وكان شيخ الإسلام هذا بمثابة المفتي الأكبر ورمز لوحدة الجماعة المسلمة بما يملكه من سلطة روحية على المسلمين، وكان لشيخ الإسلام هذا فتاوى مُعِيقة لحركة الحداثة في العالم الإسلامي؛ فأفتى مثلًا بتحريم المطبعة؛ لأنها سوف تؤدِّي إلى تحريف القرآن والعلوم الشرعية.

الفقه مهزومًا

كان الفقه إذن في بداية تعامله مع الحداثة مُعيقًا ليس إلّا، ولم يكن يملك في حقيقته إلّا أن يؤخِّرَها بعض الوقت؛ فحركة المجتمع والتاريخ لا بدَّ أنْ تنتصر نهايةً في رأي د. سالم.

كانتِ الدولة العثمانية تسعى في بعض مراحلها نحو التحديث الذي وقف الفقه أمامه عاجزًا عن مسايرته؛ فاضطر بعض السلاطين تجاوزه في بعض الأمور مثلما حدث عام 1807م حينما أصدر السطان قانونًا يوجب تطبيق القانون الفرنسي فيما ليس فيه رأي في الفقه الإسلامي.

ومن الأمثلة الصارخة على هذا التجاوز الاتفاقية التي وقع عليها الخديوي إسماعيل عام 1877م بتجريم الرِّقِّ الذّي يبرّره الفقه الإسلامي، وكان إلغاء الرقِّ صعبًا بسبب السلطة التي كان يمارسها الفقهاء.

ولنا في مفهوم المواطنة خير مثال؛ فتمَّ ترسيخ مفهوم المواطنة بدلًا من فقه أهل الذِّمة الذي يُكرّس لسلطة جماعة على حساب جماعة أخرى، وفي عهد سعيد باشا طُبِّقَ قانونُ الخدمة العسكريّ على النّصارى مثلهم مثل المسلمين، كما ألغى الجزية المفروضة على الذّميين، بل وعيَّنَ حاكمًا مسيحيًّا على السودان.

جاء دستور 1923 م نهاية “لينصّ على المساواة التامة بين جميع المصريين أيًّا كان دينهم أو عقيدتهم، كما ينص على حريتهم في ممارستهم لشعائر دينهم وقبولهم بالوظائف الحكومية”[32].

محاولات تجديديّة

الطهطاوي: تجديد من تحت العمامة الأزهرية

قام رفاعة رافع الطهطاوي بتسويغ محاولات محمد علي باشا التحديثية فقهيًّا ودينيًّا من خلال النصوص الدينية؛ فحاول التأصيل لمفاهيم المواطنة والحقوق المدنية من داخل النسق الديني نفسه، وحاول طرح فكرة أن مفاهيم الدولة الحديثة ليست غربية تمامًا، لكن لها أصل إسلامي كذلك وليست بغريبة عنا.

يرى د. أحمد سالم أنَّ عمامة الطهطاوي الأزهرية كانت تحكمه في تسويغ عملية نقل علوم الآخرين وتقييم مكتسباتهم الفكرية من منظور الفقه والأخلاق، والحلال والحرام، والكفر والإيمان؛ فيقول مثلا في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز): “ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر”[33]، وحين يتحدّث عن العلم يقول: “ولهم في العلوم حشوات ضلالية”[34].

محمد عبد: التوجُّه الإصلاحيّ

إنَّ الناسَ تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم يرد ذكر لها في كتب الفقه القديمة؛ فهل نُوقِفُ سَيْرَ العالَم لأجل كتبهم، إنَّ هذا لا يُسْتَطَاع، إنه جمود وموات، ويجعل العوامَّ ينصرفون عن دينهم الذي لا يُجَارِي وقائعَ حياتِهم[35].
-محمد عبده

وضع الشيخ محمد عبده على عاتقه مهمة تجديد الفقه بما يراعي مصالح الناس ومنافعهم، وكانت له فتاوى تجديدية تعارض ما عليه الفكرُ السائدُ والتراث الفقهي؛ فأفتى بضرورة تقييد الطلاق، وأنَّ من حق المرأةِ أن تطلب من القاضي تطليقها إذا وقع عليها ضرر من الزوج، وأباح التصوير والنحت، وغير ذلك من آرائه التجديديَّة.

يرى د. أحمد سالم أنَّ محاولاتِ محمد عبده في تجديد الفقه وغيره من العلوم الدينية إنما قام “من أجل مسايرة المستجدَّاتِ التي جاءت بها الحداثة إلى المجتمعات الدينية، وحتى لا يُبْعِدَ الناسَ عن الدين”[36].

عبد المتعال الصعيدي مُبْحِرًا ضد التَّيَّار

نعى الشيخ الصعيدي على الأزهر انتشار تيار الجمود والرجعية، وكانت له فتاوىً ضد تيار الجمود هذا أدَّتْ إلى محاكمته بالأزهر، بل أفتى أحد الشيوخ الجامدين بردّته!

ومن آراء الصعيدي التجديدية أنَّ الأمر الوارد في آيةِ حدِّ السرقةِ “فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا”، وكذلك الأمر الوارد بجلد الزاني في قوله: “فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ” ليسا للوجوب وإنّما للإباحة، والأمر فيهما مثل الأمر في قوله: “خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ” تمامًا.

وبذلك لا يكون “قطع يد السارق هذا مفروضًا لا يجوز العدول عنه في جميع حالاتِ السرقة، بل يكون القطعُ في السرقة أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة، وهكذا الأمر في حدّ الزنا”[37].

يقول د. أحمد سالم: “لن يقف أيّ فكر جامد حجرَ عثرةٍ في طريق أيِّ مجتمع يرغب في التغيير، والمسألة مسألة وقتٍ وتراكُم زمنيّ تَتَغَيَّرُ فيه العقول، وتنظر إلى مصالحها”[38].

[1] تجلي الإله، جدلية الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية، د. أحمد سالم، نيوبوك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 2019، بتصرف بسيط بالحذف، ص 103.
[2] المصدر السابق، ص 93.
[3] المصدر السابق، ص 94.
[4] المصدر السابق، بتصرف بسيط بالحذف، ص 94.
[5] المصدر السابق، ص 98.
[6] المصدر السابق، ص 95.
[7] المصدر السابق، ص 95.
[8] المصدر السابق، ص 97.
[9] المصدر السابق، ص 96.
[10] المصدر السابق، ص 97.
[11] المصدر السابق، ص 98.
[12] المصدر السابق، ص 98.
[13] المصدر السابق، ص 99.
[14] المصدر السابق، ص 99.
[15] المصدر السابق، ص 100.
[16] المصدر السابق، ص 104.
[17] المصدر السابق، ص 104.
[18] المصدر السابق، ص 104.
[19] المصدر السابق بتصرف بسيط، ص 109.
[20] المصدر السابق، ص 106.
[21] المصدر السابق، ص 106.
[22] المصدر السابق، ص 107.
[23] المصدر السابق، ص 120.
[24] المصدر السابق، ص 120.
[25] المصدر السابق، ص 119: 120.
[26] المصدر السابق، ص 124.
[27] المصدر السابق، ص 121.
[28] المصدر السابق، ص 128.
[29] المصدر السابق، ص 130: 131.
[30] المصدر السابق، ص 130.
[31] المصدر السابق، ص 139.
[32] المصدر السابق، ص 148.
[33] المصدر السابق، ص 149.
[34] المصدر السابق، ص 149.
[35] المصدر السابق، ص 150.
[36] المصدر السابق، ص 151.
[37] المصدر السابق، ص 153.
[38] المصدر السابق، ص 155.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا