كلارك آشتون سميث.. ثالث فُرْسَان الخَيَال الغريب
مجلة “حكايات غريبة” هي مجلة أمريكيَّة متخصِّصة في قصص الرُّعب والفانتازيا، تأسَّست سنة 1922، ونَشَرَ بها العديد من الكُتَّاب الذين صاروا لاحقًا من أهم الأسماء في هذا المجال، ومنهم “إتش. بي. لافكرافت”، وحكايات “عالم كوثولو الكابوسيَّة”، و”روبرت إي. هوارد“، وحكايات “عالم كونان الملحميَّة”، لكن هناك كاتب ثالث لم يحظَ بنفس القدر من الشَّعبيَّة، رغم تميُّز قلمه وغرابة عوالمه، وهو الكاتب كلارك آشتون سميث، فقد عُدَّ سميث من أهم من كتبوا للمجلة إلى جانب “لافكرافت” و “هوارد”، حتى أُطلِقَ عليهم -لافكرافت وهوارد وسميث- اسم “الثلاثة الكبار” أو “الفرسان الثلاثة” لمجلة حكايات غريبة.
كلارك آشتون سميث: مولده وتعليمه
وُلِدَ سميث في 13 يناير 1893 بولاية كاليفورنيا الأمريكيَّة، وكان يعاني منذ صغره من مشكلاتٍ نفسيَّة بما فيها “رهاب الخلاء”، الذي كان يتسبَّب له في نوبات هلعٍ، مما جعله يتلقَّى التَّعليم في البيت، وفُرِضَت عليه العُزْلة منذ الصغر، استمرت معه هذه العُزْلة حتى وفاته. قرَّر والداه أنه من الأفضل له أن يتلقَّى التَّعليم في بيته، وكان سميث قارئًا نهمًا، ويتمتع بذاكرةٍ فوتوغرافيَّة استثنائيَّة، فكان يحفظ معظم ما يقرأه. وبعد انتهائه من التَّعليم الرَّسميّ واصل سميث تثقيف نفسه بقراءة حكايات “الأخوين جريم” الشَّعبيَّة، وحكايات “هانز كريستيان أندرسن” و “ألف ليلة وليلة”، وروايات مثل “روبنسن كروز” و “رحلات جوليفر”، كما قرأ نسخة غير مُخْتَصرةٍ من المعجم، ولم يكتفِ بمعرفة تعريف كل كلمة بل أصول وفروع هذه الكلمات أيضًا، كما قرأ النسخة الحادية عشرة الكاملة من الموسوعة البريطانيَّة، كما عَلَّم نفسه لاحقًا الفرنسيَّة والإسبانيَّة لترجمة أبياتٍ شعريَّة من هاتين اللُّغتين.
بداية مسيرته الأدبيَّة والشِّعريَّة
بدأ كلارك آشتون سميث الكتابة في سن الحادية عشرة، وكانت كتاباته الأولى محاولة لمُحَاكَاة حكايات ألف ليلة وليلة والحكايات الشَّعبيَّة، كما كان لأعمال إدجار آلان بو تأثيرٌ عليه في كتاباته الأولى، وفي سن السابعة عشرة نَشَرَ بعض القصص الصغيرة في مجلاتٍ مختلفة، مثل مجلة “القط الأسود” المُتخصِّصة في نَشْر الحكايات غير المعتادة، ولم يكن سميث كاتبًا فحسب بل كان شاعرًا ورسَّامًا ونحَّاتًا، بل إنه يعدّ نفسه شاعرًا قبل أن يعدّ نفسه أديبًا قصصيًّا، وقد أمضى عشر سنواتٍ في القصائد الشعريَّة فحسب. في أثناء مسيرته في كتابة الشِّعر انضم سميث إلى مجموعة “رومانسييَّ السَّاحل الغربيّ” إلى جانب الشَّاعر “خواكين ميلر” والشَّاعرة “نورا ماي فرينش” وغيرهما، وقد لُقِبَ بآخر الرومانسيين العظماء، وشاعر أوبورن نسبة إلى مدينة أوبورن في ولاية كاليفورنيا، وقد قال عنه “راي برادبري” مؤلِّف رواية “فهرنهايت 451” إنه: “ملأ عقلي بعوالم مذهلة، ومدن جميلة بشكلٍ لا يُصَدَّق، ومخلوقات أكثر غرابة”. وقد أحببت شعره كثيرًا، لذا ترجمت بعض قصائده إلى اللغة العربيَّة مثل “ما بعد أرمجدون” و”خيمياء الحزن” و”المدينة في الصحراء”.
لافكرافت وعَالَم كثولو
وكان الشِّعر هو ما جَذَبَ لافكرافت إليه في البداية، إذ أعجب بأسلوبه الشَّاعريّ، ونظرته التي تتجاوز العَالَم الماديّ، وبراعته في السُّخرية، وقال عنه: “ربما لا أحد يضاهي كلارك آشتون سميث في الغرابة الخارجة عن المألوف، وخصوبة التصوُّر”. وفي المقابل شَعَرَ سميث بالإعجاب تجاه الرُّعب الكَوْنيّ الذي يكتبه لافكرافت، أو ما أسماه سميث بـ”اللا اكْتِراثيَّة الكَوْنيَّة” الإحساس بأن البشريَّة مجرَّد حبة رمال، أو ورقة عُشب، أو وهج شمسيّ.
من خلال صداقته مع “كلارك آشتون سميث” و “روبرت إي. هوارد” وغيرهما، أنشأ لافكرافت ما يُسمَّى بدائرة لافكرافت، في هذه الدائرة كان لافكرافت يُشجِّع أصدقاءه على الكتابة في العَالَم نفسه، والشَّخصيَّات نفسها، والأماكن والأفكار. وكَتَبَ العديد منهم قِصَصًا تنتمي إلى العَالَم الأسطوريّ المشترك الذي يُدعَى كوثولو ميثوس Cthulhu Mythos، نسبة إلى كوثولو أهم الكيانات القديمة في عَالَم لافكرافت، وعادة ما تكون القِصَص في هذا العَالَم من أدب الرُّعب، ولكن بعضها كان ينتمي إلى الفانتازيا أو الخيال العِلْميّ، وقد شَارَك سميث بعدَّة قِصَص تنتمي إلى هذا العَالَم مثل “عودة السَّاحر”، التي استخدم فيها سميث تيمة الشَّاعِر العربيّ المجنون “عبد الله الحظرد” وكتابه “العزيف” أو “النيكرونوميكون”، وكذلك استعار لافكرافت من صديقه بعض الأفْكَار مثل الإلَه القديم تساثوجوا الذي ظهر في قصة حكاية “ساتامبرا زيروس”، وهي جزء من حكايات عَالَم هايبربوريا، وقد استخدم لافكرافت تساثوجوا في قصة الهامس في الظلام، وصار جزءًا من عَالَمه كذلك.
وعَالَم هايبربوريا الذي كتب فيه سميث العديد من الحكايات هو عَالَمٌ خياليّ يَسْتَخدِم الحقبة الزمنيَّة للعصر الحديديّ، وهو العصر الذي بَرَعَ فيه الإنسان في استخدام الحديد في الأدوات والأسلحة، وتقع هايبربوريا في القطب الشماليّ، وقبل أن تصير جليدًا كانت في الماضي غابات خضراء وافرة ومُدنًا عامرة يقطنها أجناس من البشر وغير البشر، ويعبدون آلهةً مختلفة، وقد كَتَبَ سميث العديد من القِصَص في هذا العَالَم، وينتمي معظمها إلى تيمة الرُّعب الكَوْنيّ.
وكما أن هناك بعض التشابهات بين سميث ولافكرافت، فهنالك أيضًا بعض التشابهات بين ما كتبه كلارك آشتون سميث وروبرت إي. هوارد، فكلاهما استخدم أسطورة عَالَم هايبربوريا القديم بطريقته الخاصة، والإشارة إلى أطلانتس الغارقة وأسرارها الغامضة، وقد استخدم سميث جنس البشر الأفعوانيين الذي ابتكره هوارد من أجل حكايات كول في بعضٍ من قِصَصه مثل قِصَّة “الظِلّ المزدوج”، وكذلك استعار لافكرافت أسماء من عَالَم هوارد في قِصَصه مثل اسم الإلَه كروم الذي يعبده السيميريون قوم كونان ومملكة ڨالوشيا من حكايات كول.
ولم تقتصر التشابهات والاستعارات على هؤلاء الثلاثة فحسب، بل كان هناك العديد من الكُتَّاب الذين شاركوا لافكرافت عَالَمه، واستمروا في بناء عَالَم كوثولو ميثوس حتى بعد رحيل لافكرافت عن عَالَمنا، ولكن أعمال سميث تميَّزت فيما بينها بالثَّراء في المفردات، والبلاغة غير المُعتَادة، والمنظور الكَوْنيّ، والسُّخرية التي تكون سوداويَّة أحيانًا.
لقد قال سميث عن أسلوبه في الكتابة: “كان الهدف المثاليّ بالنسبة إليّ هو خداع القارئ لقبول المستحيل، أو سلسلة من المستحيلات، بوسائلٍ أشبه بسحرٍ أسود بلاغيّ، ولتحقيق هذا أسْتَخدم التَّناغُم النثريّ، والاستعارة، والمتشابهات، وانتقاء المفردات، والطِباق، وما عدا ذلك من أساليبٍ بلاغيَّة، كأنما هي تعويذة ما”.
ورغم أن غرابة أسلوبه هي ما تُميِّز أعماله، فأنها على الأرجح السَّبب في أن أعماله لم تحظَ بالقدر نفسه من الشَّعبيَّة الذي حَظِيَا به صديقاه لافكرافت وهوارد.
نهاية الفُرْسَان الثلاثة
ماتت أُمُّه عام 1935 فأمضى سميث العامين التاليين يعتني بأبيه الذي مات سنة 1937، وفي تلك الأثناء عانى سميث من فاجعتين أخريين، إذ مات صديقه روبرت إي. هوارد مُنْتَحِرًا سنة 1936 ثُمَّ مات صديقه لافكرافت بالسَّرَطَان سنة 1937، وهذا -بالإضافة إلى موت والديه- جعله يُقرِّر الانْسِحَاب من كتابة الأدب -وإن كان قد عَاد لاحقًا لكتابة الشِّعر والنَّحت- لينتهي العصر الذهبيّ لمجلة “الخيال الغريب” بموت اثنين من الفُرْسَان الثلاثة وترجَّل الفارس الأخير عن حِصَانه.
رَحَلَ كلارك آشتون سميث عن عَالَمنا سنة 1961 عن عمر 68 عامًا، تاركًا وراءه ميراثًا ذاخرًا من القصائد واللُّوحات والمنحوتات والحكايات الغريبة في عَالَمه السحريّ الخاص.
تدقيق لغوي: أمل فاخر