موجز الرحلة الفكرية للغزالي كما حكاها بنفسه في كتابه: (المنقذ من الضلال)
طبع لا يقبل التقليد
كان هدف الغزالي في بداية عمره البحث ومعرفة الحقيقة وطلب العلم، ولم يترك مذهبًا إلا وسعى في معرفته والانتساب إليه؛ كي يكشف حقيقته، وأراد الجمع حقًّا بين الحقائق الشرعية والفلسفية؛ فسعى نحو تحقيق الإيمان عن طريق الإملاءات الفلسفية العقلية، ولم يفطن إلى التعارض الكائن بينهما؛ فكان أن أراد التوصل إلى إثبات الإيمان بالله واليوم الآخر والنبوات عن طريق العقل المحض مستخدمًا مناهج الفلاسفة والمعتزلة التي يُسْتَعْمَل فيها التأويل، والمجاز، والدلالة الظنية، والتفويض، وغير ذلك إلى أن تبين له أنها طريق غير موصلة إلا إلى التَّيْه والحيرة.
“وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يَفَاعِ الاستفسار”[1]
-الغزالي
سلك الغزاليُّ إذن طريق الاستدلال العقلي واغترَّ به بدايةً، وقام باستكشاف عقائدِ الفرق والمذاهب بنفسه، ولم يقنع بمجرد التقليد، وكان قد أخبر عن نفسه أنه فُطِرَ على طبعٍ يرفض تقليد الموروث؛ يقول: “ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجّة هذا البحر العميق، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتـهجّم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين مُحق ومبطل، ومتسنن ومبتدع”[2].
انكسار رابطة التقليد
ما حدث بعد ذلك أنه في مسيرته لمعرفة الحقيقة والغوص والتعمق فيها واستكشافها من أجل تمييز الحق مما يُفْهَمُ من تلك الكلمات: “أقتحم”، “أخوض”، “أتوغل”، “أتهجم”، لاحظ الغزالي كثرة الفرق والمذاهب الباحثة عن الحقيقة وهذا الأمر ولد عنده ما دعاه بـ (الشك).
“لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته”[3].
-الغزالي
وهكذا تنقل الغزالي بين المذاهب في محاولةٍ منه الكشف عنها؛ لمعرفة حقيقتها وأصولها، وقضى وقتًا طويلًا مطالعًا ومُتَتَبِّعًا مقالات المذاهب والفرق؛ إذ لم يسعَ فقط في تَطَلُّبِ المعرفة، بل في تَطَلُّبِ الحقيقة أيضًا.
“حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت عليّ العقائد الموروثة، على قرب عهد سن الصبا”[4].
-الغزالي
الانتهاء إلى الشك
لما شهد الغزاليُّ اضطراب الفرق وَتَعَدُّد المذاهب، وعاينَ بنفسه سلطان التقليد على الخلْق، وقف حائرًا أمام تلك المذاهب العديدة، والأديان الكثيرة؛ فداخله الشك في أمرها جميعها!
وأول مابدأ الغزالي في شكه هو التقليد في العقيدة وكل ما هو قائم على التلقين، ورفض أن يقوم الإيمانُ على هذا الأساس من مجرد اتِّبَاعِ الأسلاف في العقائد، وإنما يجب أن يكون الإيمان؛ إيمانه هو على الأقل قائمًا على أعلى درجات اليقين، وليس التقليد يقينًا.
“إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوُّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام”[5].
“وسمعت الحديث المروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ﴿كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهودانه، وينُصرانه، ويُمجِّسَانه﴾”[6].
-الغزالي
أول خطوة ينطلق منها الغزالي في منهجه في الشك هو رفض التقليد ووراثة العقيدة باعتبار أنَّ ذلك يجعل الإنسان يتلقن المعلومة ويُصدِّقها لا لأنها حق في ذاتها، ولكن لأنها جاءتْه تقليدًا؛ فيقبل الموروث على علاته دون معرفة أصله وحقيقته.
لم يقف الغزالي عند مرحلة الشك في الموروث فحسب، ولكنه انتقل منه إلى الشك في مصادر المعرفة نفسها؛ فشك في الحواس باعتبارها تخدع صاحبها، ولا تثبت على حالٍ أبدًا؛ فتتغير بتغيُّر الناظر، وبتغيُّر حاله، وحال المنظور أيضًا.
وقاده الشك في الحواس إلى الشك في العقليَّات كذلك؛ إذ يرى الإنسان في نومه أشياء، وقد يعاين مجموعة من الاعتقادات يُصَوِّر له العقل أنها حقائق ثابتة، وليست في الحقيقة إلا ضربًا من الأوهام؛ فما إن يستيقظ الإنسان إلا ويعرف أنها كانت محضَ خيال لا أصل لها ولا حقيقة.
وعلى هذا الحال عاش الغزالي في حالة من الاضطراب النفسي والعقلي مدة ما يقارب شهرين حتى أفاق من شكه المرضي هذا، غير المنهجي، وقام بحصر أصناف طالبي الحقّ، وحاول تلمُّس الحق فيها ما أمكنه ذلك.
أصناف الطالبين
يقول الغزالي: “ولما شفاني الله تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده، انحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:
- المتكلمون: وهم الذي يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
- الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
- الفلاسفة: وهم يدعون أنهم أهل المنطق والبرهان.
- الصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة”[7].
رأى الغزالي أن الحق لا يمكن أن يعدو هذه الأصناف أبدًا؛ فقام على دراستها ومعرفة أصولها مُتَعَمِّقًا فيها، “مُبْتَدِئًا بعلم الكلام، ومُثَنِّيًا بطريق الفلسفة، ومُثَلِّثًا بتعليمات الباطنية، ومُرَبِّعًا بطريق الصوفية”[8].
بعد أن درس الغزالي علم الكلام وألف فيه رأى أنه ليس إلا بحثًا في مسائل العقيدة الإسلامية من أجل إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة وإثبات بطلانها؛ يخبر عن المتكلمين أنَّ الله أنشأ “طائفة المتكلمین، وحرك دواعیهم لنصرة السنة بكلام مرتب، یكشف عن تلبیسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة”[9].
لم يكن علم الكلام بهذا المعنى مَرْضِيًّا عند الغزالي؛ إذ وجده وافيًا بمقصوده (الكلام)، غير وافٍ بمقصوده (الغزالي)، يقول: “لم يكن الكلام في حقي كافيًا، ولا لدائي الذي كنتُ أشكوه شافيًا”[10].
انتقل الغزالي من علم الكلام إلى دروب الفلسفة؛ فاطلع عليها اطلاعًا كاملًا، ودرسها من جميع جوانبها؛ مفادها ومعناها، المذموم منها والمحمود، ما يُخْتَرَعُ فيها وما يُبْتَدَع، حتى انتهي إلى ما وافق الفلاسفة فيه أهل الحق مُسْتخلصًا إياه من بين باطل كلامهم، وقام على تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون.
“وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته؛ فيطلع على مالم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله”[11].
-الغزالي
الطريق إلى التصوف
لما فرغ من تحصيل هذه العلوم أقبل على طريق التصوّف، وعلم أن حاصل علومهم هو تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل؛ فبدأ بتحصيل علومهم عن طريق مطالعة كتبهم؛ فقرأ كتبهم مثل (قوت القلوب) لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي وغير ذلك، ثم سلك طريقهم؛ إذ أدرك أن هذا العلم لا يُدْرَكُ إلا بالمجاهدة.
اعتزل الغزالي الناس مدة طويلة منشغلًا بتزكية نفسه وتهذيب أخلاقه، واتجه اتجاهًا كاملًا نحو التصوف حتى قال:
“علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق”[12].
خرج الغزالي في رحلة مدتها عشر سنوات قضاها متنقلًا بين القدس، ودمشق، والمدينة، ومكة كتب خلال هذه المدة كتابه (إحياء علوم الدين) في التصوف والتزكية.
[1] مجموعة رسائل الإمام الغزالي - المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، دار الكتب العلمية، الطبعة السادسة 2013، ص 23. [2] المصدر السابق، ص 24. [3] المصدر السابق، ص 25. [4] المصدر السابق، ص 25. [5] المصدر السابق، ص 25. [6] المصدر السابق، ص 25. [7] المصدر السابق، ص 31. [8] المصدر السابق، ص 31. [9] المصدر السابق، ص 32. [10] المصدر السابق، ص 33. [11] المصدر السابق، ص 34. [12] المصدر السابق، ص 62.